عن دار «أقلام عربية» في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «بعض مشكلات الفلسفة» للمفكر وعالم النفس الأمريكي الشهير وليم جيمس (1842 – 1910) الذي يعد رائد ومؤسس الفلسفة البراغماتية. وترجم الكتاب ترجمةً سلسةً ودقيقةً الأكاديمي والباحث الراحل د. محمد فتحي الشنيطي.
يشير الشنيطي في مقدمته إلى أن وليم جيمس عانى كثيراً من الاضطراب في تعليمه وثقافته، وذلك لتنتقل أسرته بين أمريكا والقارة الأوروبية مراراً، ومع ذلك فقد اجتمعت له ثقافة واسعة محيطة بفضل مجهوده في القراءة وشغفه بالبحث، حيث اجتمعت في شخصيته خصال الفنان وصفات العالم وروح المتصوف. وما لبثت أن اتجهت تأملاته إلى الوجود والروح والخالق وخلود النفس وحرية الإرادة وقيم الحياة، وقد امتازت دراساته في هذا الميدان بالتجديد والانطلاق، وذلك لأنه كان ميالاً إلى «التأمل العملي» بعيداً عن الخوض في المناقشات الجدلية.
ظهرت آراء جيمس هذه فيما كتب من مقالات وما ألقى من محاضرات وجُمعت فيما بعد في مؤلفات مهمة مثل «إرادة الاعتقاد» 1897، و«خلود النفس» 1898 و«أحاديث إلى المعلمين في علم النفس وإلى الطلاب في المثل العليا للحياة» 1899، و«تنوع التجربة الدينية» 1902.
وفي كتابه عن البراغماتية، أشار إلى أن هذا المذهب الفكري الجديد عرض واضح لمنهج جديد في التفكير والعمل مستند إلى التجريبية الأصلية التي تُعنى بتوضيح المذاهب الفلسفية وتبسيطها لتعود بها جميعاً إلى مضامينها الواقعية ولكنها لا تقف منها موقف الحكم، فالحكم النهائي يظل دائماً أمراً شخصياً، وليس غريباً إذن أن يصل المنهج البراغماتي بأصحابه إلى نتائج مختلفة غاية الاختلاف.
شكَّل وليم جيمس قلباً نابضاً في أعماق الفلسفة الأميركية المعاصرة، وهو ما يتضح حين ألقى في 1907 آخر محاضراته في الفلسفة بجامعة «هارفارد»، وفي ربيع العام نفسه ذهب إلى جامعة «كولومبيا» في نيويورك ليُلقي محاضراته عن البراغماتية، كأنما ساحر جديد هبط على المدينة، فقد تزاحم الناس لرؤيته والاستماع إليه، وكان بذلك موضع حفاوة وموطن تكريم في كل مكان حلَّ به، وكان لهذه الزيارة وقع جميل في نفسه.
ظل الرجل يأمل في أن يصل إلى رأي حر في جميع المشكلات الفلسفية التي لطالما أضجرته وأرَّقته، وقد بدأ تنفيذ هذا المشروع في الفصول التي جُمعت بعد وفاته في هذا الكتاب، ولكن القدر عاجله قبل أن يرى حلمه مجسداً، وعزاؤه أن الكتاب صدر بعد رحيله وهو مفعم برؤاه وقد اكتمل لها النضج وتحقق فيها الإشراق.
ويركز وليم جيمس هنا على طبيعة الفلسفة عموماً وكيف يعرفها بوصفها نشاطاً عقلياً يستهدف معرفة الأشياء في عمومها بعِللها البعيدة بقدر ما يستطيع العقل الطبيعي أن يصل إلى مثل هذه المعرفة. ويعني هذا أن الفلسفة يجب أن تهدف إلى تفسير العالم تفسيراً إجمالياً يتحقق فيه اتساع الأفق لتصبح تعبيراً عن موقف معين متصل بالعقل والإرادة.
وتبدأ الفلسفة بالدهشة، كما قال أفلاطون وأرسطو، وهي قادرة بذلك على أن تتخيل كل شيء بشكل مختلف عمَّا هو عليه، فهي ترى المألوف كما لو كان غريباً، والغريب كما لو كان مألوفاً. وتستطيع أن ترقى بالأشياء إلى أعلى وتهبط بها إلى أسفل. إنها تحيط بكل موضوع لتوقظنا من سباتنا وليس غريباً أنها كانت على الدوام مرتعاً خصباً لأربعة اهتمامات إنسانية مختلفة هي: العلم والشعر والدين والمنطق.
ويدافع جيمس عن الفلسفة ليدرأ عنها الاتهام الشهير بأنها مجرد جدل عقيم وسفسطة سخيفة وعبث لا طائل من ورائه بينما يحقق العلم تقدماً مطرداً ويُفضي إلى تطبيقات عملية.
ويؤكد المؤلف أن هذا الاتهام لا يقوم على أساس عادل؛ ذلك لأن العلوم ذاتها فروع من شجرة الفلسفة، وبقدر ما نجيب عن الأسئلة إجابة دقيقة بقدر ما تعد هذه الإجابات إجابات علمية، في حين أن ما يطلق عليه الناس اليوم «فلسفة» هو ما بقي من أسئلة دون إجابة، كما أن هذا النشاط العام لا غنى عنه في محاولة فهم الوجود وتكوين رؤية عامة له دون الغرق في تفاصيل العلوم المتخصصة.