الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

إهمال قراءتها خسارة لمنجم هائل من الخبرات العظيمة

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية
TT

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

الكلاسيكيات الروائية: رؤية شخصية

لو وُجِد دوستويفسكي أو تولستوي أو ملفيل أو ستاندال أو جين أوستن في عصرنا هذا فهل كانوا سيكتبون روائعهم الروائية بالطريقة ذاتها التي جعلت منها كلاسيكيات عظيمة؟

ربما تكون جائزة البوكر العالمية للرواية هي الجائزة الأعلى مقاماً بين الجوائز الروائية التي نعرف، ولعلَّ من فضائلها أنَّها الوسيلة غير المصرَّح بها لتعريف القارئ العالمي بما يُفتّرّضُ فيه أن يكون نتاجاً روائياً يتوفَّرُ على الجدة والأصالة. ستكون معايير اللجنة المانحة للجائزة موضع جدالات ساخنة بالتأكيد، وهو ما يحصل كلّ عام؛ لكنْ ليس في استطاعة القارئ العام أو المتخصّص غضُّ الطرف عن إعلانات هذه الجائزة وبخاصة أنّه يعيشُ حالة تفجّر في النشر الروائي تجعل منه عاجزاً عن متابعة ما يُنشرُ في كل أنحاء عالمنا. المرء ليس أخطبوطاً بألف عقل وعين لكي يتابع حتى البعض اليسير مما يُنشرُ في الرواية وفي غير حقل الرواية.

وطّنتُ نفسي كلَّ سنة منذ عقود عدّة، وبدفعٍ من الأطروحة التسويغية السابقة، على قراءة - أو محاولة قراءة - العمل الروائي الفائز بجائزة البوكر العالمية السنوية. أعترفُ منذ البدء أنّ خيبة كبرى باتت تملأ نفسي بعد كلّ قراءة، وما انفكّت هذه الخيبة تتعاظم مثل كرة ثلجية عاماً بعد عام. أظنُّ أنّ (مارغريت آتوود) هي آخر روائية بوكرية استأنسْتُ قراءتها بشغف حقيقي.

عندما شرعتُ في قراءة الرواية البوكرية الفائزة لعام 2024. وهي رواية عنوانها «مداري Orbital» - لعلَّ عبارة «في المدار» ستكون الترجمة الأكثر أناقة - للروائية سامانثا هارفي Samantha Harvey، وهي غير مترجمة إلى العربية بعدُ كما أعرف، لم أتعاطف كثيراً مع أجواء الرواية أو تفاصيلها التقنية أو سياقها السردي. التجربة الغريبة والمثيرة التي حصلت معي أنَّ قراءتي للرواية البوكرية تزامنت مع قراءتي - أو إعادة قراءتي بالأصحّ - لرواية «الإخوة كارامازوف» التي هي بعضُ روائع كلاسيكيّات دوستويفسكي. دفعني هذا الأمر للتفكّر الحثيث في هذا الأمر: لماذا نجدُ شغفاً أعظم عند قراءة الكلاسيكيات الروائية بالمقارنة مع الأعمال الروائية المعاصرة أو الحداثية أو ما بعد الحداثية؟ سبق لكّتّابٍ عديدين تناولُ أمر أهمية الكلاسيكيات الروائية، ومن هؤلاء مثلاً إيتالو كالفينو، الذي كتب كتاباً كاملاً عنوانُهُ «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟»، وهو مترجمٌ إلى العربية وسبق لي كتابة عرض له.

لدي أطروحة شخصية في هذا الشأن. قبل عرض تفاصيل هذه الأطروحة لا بدَّ من توضيح موضوعات إشكالية محدّدة. أوّلُ هذه الإشكاليات هي معضلة التعميم: سيجادلُ بعضُ القرّاء كيف لنا أن نتوثّق من أنّ هناك توقاً عولمياً لقراءة الكلاسيكيات الروائية؟ الجواب يكمنُ في إعادة طبعاتها بعشرات وربما مئات الطبعات، وكونها تحتلُ عناوين شاخصة في المعتمدات الأدبية العالمية. ثمّ هناك الاستشهادات الكثيرة بها في الصحافة الثقافية العالمية بما يشي باستمرارية تأثيرها وكونها عموداً أساسياً في تشكيل الذائقة الروائية العالمية بعيداً عن مؤثرات الزمان والمكان والجغرافيات المحلية. الإشكالية الثانية نفسية الطابع ومفادُها أنّ الكلاسيكيات الروائية، وربَّما لأسباب مدرسية أو بسبب تقاليد القراءة المنزلية سابقاً، شكّلت جزءاً من قراءاتنا المقترنة بالطفولة، وهذا ما يدفعها إلى أن تصبح ميراثاً أدبياً راسخاً في عقولنا، وغالباً عندما نسترجع هذا الميراث فلن يخلو الأمر من عنصر نوستالجي يدفعنا للتحيّز النفسي لتلك الكلاسيكيات، فضلاً عن أنّه يصوّرُ لنا الأمر بالفائقية المحسومة لهذه الروايات على ما سواها. أظنّني أمتلكُ قدراً من الخبرة والحصانة النفسية تجاه مفاعيل النوستالجيا الطفولية والشبابية إلى حدّ أعرفُ معه أنّنا إزاء ظاهرة أدبية حقيقية عالمية الأبعاد وليست بعض ما ترسمه لنا تصوّراتنا المحلية أو تحيزاتنا العقلية.

قبل أن أبدأ في تفاصيل الأطروحة أجدُ من المناسب والضروري تشخيص أي الأعمال هي المقصودة بأنها «كلاسيكية». كلاسيكيات الرواية هنا ليست إشارة تصنيفية إلى المدرسة الكلاسيكية في الرواية، كما أنّها بعيدة عن المفهوم التقني الذي يصنّفُ عملاً مهمَّاً وشائعاً بأنّه من كلاسيكيات المبحث المعرفي الذي يتناوله. مثالُ هذا كتاب «مختصر تاريخ الزمان»، الذي كتبه ستيفن هوكنغ الذي صار من كلاسيكيات الفيزياء، أو كتاب «الجين الأناني»، الذي ألّفه ريتشارد دوكنز الذي صار من كلاسيكيات فلسفة العلم والبيولوجيا التطوّرية. الكلاسيكيات الروائية التي أعنيها بالتحديد هي تلك التي كُتِبَتْ قبل مطلع القرن العشرين على وجه التقريب وحيث لم تكن مفاهيم الحداثة الروائية قد شاعت بعدُ.

أهمّ أسباب توقنا الممض لقراءة الكلاسيكيات الروائية ذات الجانب الوجودي الذي يختصُّ بحجم وتعدّدية المصادر الضوضائية التي نعيشُ في خضمّها. لو تابعنا الخطّ التطوّري للإنسان لرأيناه في كلّ قفزة تطورية يصطنعُ مصادر جديدة للمعرفة تتفوّقُ نوعياً على تلك التي سادت قبلها، ومن الطبيعي أن نشعر بالامتنان لهذا التطوّر المعرفي؛ لكنّ هذا التفجّر المعلوماتي هو بمثابة عناصر تشويش تشاغلُ أدمغتنا. لو حسبنا أدمغتنا وسائل معالجة معلوماتية فكلّ قفزة تطوّرية ستأتي بكمّ جديد من البيانات والمعلومات والمعرفة الجديدة، وهذا ما يشكّلُ عبئاً على الدماغ البشري ويدفعه إلى إسقاط - أو التخفيف - من عبء هذا الدفق المتفجّر، وإلّا فإنّه سينتهي إلى حالة من العطالة غير المنتجة أو التبلّد الكامل. يبدو هذا اللون من التفكير غريباً بعض الشيء. أعرف هذا؛ لكن دعوني أوظّفه في مثال تطبيقي. المرء يتعلّم بالأمثلة التطبيقية جيّدة التشخيص أكثر مما يفعل من الإنشاءات النظرية. دعونا نتساءل: لو وُجِد دوستويفسكي أو تولستوي أو ملفيل أو ستاندال أو جين أوستن في عصرنا هذا فهل كانوا سيكتبون روائعهم الروائية بالطريقة ذاتها التي جعلت منها كلاسيكيات عظيمة؟ الجواب: لا؛ لأنّ عقولهم المعاصرة لن تعمل كما عملت عقولهم عندما كتبوا تلك الكلاسيكيات. كانت لهم حينها أزمانٌ ممتدّة وقدرة على التأمّل المديد غير المنقطع في معضلات الوجود البشري. حينذاك كانت الإصابة بالتايفويد أو السل - مثلاً - حكماً نهائياً بالموت. كيف لنا أن نتصوّر هذا الحال مع عصر صار فيه السلّ أو التايفويد من ذكريات الماضي البعيد؛ لكنّ جوانب مستجدة من التهديد الوجودي انبثقت فيه. مثالٌ آخر: كان نقص السعرات الحرارية التي يتناولها المرء قبل قرن من اليوم حالة طبيعية رغم أنّ عدد سكّان الأرض حينها لم يتجاوز سُدْس عددهم اليوم؛ لذا كان الجوع والتقاتل على الطعام ثيمة روائية سائدة. لم تكن الثيمات الروائية الكلاسيكية كلها أحزاناً وتذكيراً بنقص الإمكانات وقلّة حيلة البشر؛ بل قدّمت لنا أيضاً أمثلة نقية غير ملوّثة عن الحبّ والتعاطف والروابط الإنسانية بين البشر باعتبارها قيماً عالمية. هذا أمرٌ نادرٌ اليوم ولم يعُدْ يشكّلُ عنصراً جاذباً في الرواية. صارت الخصائص البشرية النبيلة تُصنعُ في سياقات روائية معقّدة بعيدة عن أجواء النقاء الخالص.

لو شئتُ مقارنة رواية دوستويفسكي الكلاسيكية «الإخوة كارامازوف» مع الرواية البوكرية الفائزة «مداري» لسامانثا هارفي لوجدنا أنّ رواية دوستويفسكي تعدُّ من المطوّلات الروائية، وتحكي عن جوانب محدّدة من السلوك البشري الجمعي غير المحدّد بضوابط الزمان والمكان والبيئة، ويفترضُ الكاتبُ أنّ القارئ سيتطوّرُ لديه مع استمرارية القراءة نمطٌ من التماهي مع شخوص الرواية؛ فهُمْ في النهاية كائنات بشرية يمكن أن نجدها بين عوائلنا أو أصدقائنا. أمّا هارفي وسائر كّتّاب الرواية المعاصرة، فصاروا مسكونين بهاجس أدب الاستنزاف Exhaustion Literature والخوف المَرَضي من أنّ كلّ الحقائق الوجودية المهمّة قد قيلت وكُتِبَتْ ولم يعُدْ مناسباً تكرارُها؛ لذا صاروا يتصارعون في محاولة تخليق بيئات فنتازية أو مواقف غرائبية شاذة أو نادرة أو مستبعدة في المعيش اليومي. نحن عندما نقرأ رواية هارفي فإنّما نقرأ عن بيئة تتسمُ بأعلى أشكال المحدودية الوجودية والاستعصاء على إمكانية تعميم الخبرة البشرية: ستّة أشخاص يعيشون في محطّة الفضاء الدولية التي تبعدُ أربعمائة كيلومتر عن الأرض!!. أراني في هذا الموضع مدفوعة للقول إنّ التمظهرات انتهازية أو الغرائبية أو النادرة ليست مثلبة؛ بل القدرة الروائية منوطة بكيفية توظيفها بما يجعلها قريبة من الانشغالات الوجودية البشرية. في رواية «مكتبة منتصف الليل» للكاتب مات هيغ Matt Haig مثلاً إشارة إلى العوالم المتعدّدة؛ لكنّ الروائي جعل العلاقات البشرية في سياق وجودي حقيقي هي الخصيصة المميزة للرواية ولم يكن مسكوناً بحمّى أدب الاستنزاف ومحاولة تخليق عوالم تخييلية غير مفيدة بأي ثمن كان. الأمر ذاته ينسحب على رواية «موبي دك» لهرمان ملفل.

إهمالُ قراءة الكلاسيكيات الروائية خسارة لمنجم هائل من الخبرات العظيمة، ويبدو لي أنّ المقاربة الفضلى في قراءة الأعمال الروائية هي عدمُ إهمال الكلاسيكيات أو الروايات المعاصرة وما بينهما من أعمال حداثية أو ما بعد حداثية. المعضلة تتحدّدُ في أنّ الكلاسيكيات الروائية العظيمة مشخّصة وقليلة العدد بالمقارنة النسبية مع سواها؛ في حين أنّ الأعمال الروائية المعاصرة وروايات الحداثة وما بعد الحداثة كبيرة الكمّ وغير متّفق على فرادتها وتميّزها، وهذه المعضلة ستتفاقم كلّما عبرنا من حقبة زمنية نحو أخرى.

المحزن في الأمر أنّ الجائزة البوكرية العالمية لن تكون معيناً لنا في هذا الشأن. الأمر كله منوطٌ بالقارئ أن يقرأ ويكتشف بين الأعمال الروائية الكثيرة ما يتوافق مع ذائقته وخبراته وترسيماته الذهنية والنفسية، وهذا جهد ملحمي ليس يسيراً أبداً إلَّا لمن أوقف حياته على الرواية وحدها.

أظنّ أنّ قراءة واحدة من الكلاسيكيات الروائية كلّ عام ستكون تجربة رائعة، وهذا ما اختبرته بنفسي وتلمّستُ ثماره العظيمة في شعور الغبطة والانشراح وانفتاح الزمان والمكان ولجم الضوضاء التي تحاصرنا أنّى ذهبنا.


مقالات ذات صلة

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

ثقافة وفنون العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

لم يكن التغزل الصريح بالمرأة والاحتفاء بالملذات ظاهرةً عباسيةَ النشأة والتبلور، بل كانت نسخته الأولى قد تشكلت في الحقبة الأموية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون آنيتان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت  مصدرهما مقبرة سار الأثرية في البحرين

آنيتان من مقبرة سار الأثرية في البحرين

خرجت من مقبرة سار الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من الأواني، منها وعاءان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت، يتميّزان بنقوشهما التصويريّة المتقنة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان

أقدار البحر المتوسط

«لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت»، بهذه العبارة خاطب البحار العجوز الأفق المتوسطي في مرفأ «بيريه» بأثينا، في رواية «زوربا» لكازانتزاكيس،

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

صدر حديثاً العدد (66) من مجلة «المسرح» عن دائرة الثقافة في الشارقة لشهر مارس (آذار) 2025، ويضم مجموعة متنوعة من المقالات والحوارات والمتابعات والقراءات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

تتساءل الباحثة والأكاديمية د. إكرام طلعت البدوي في كتابها «الفلسفة السياسية النسوية - تاريخ من العدالة المراوغة»، الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

 تمثال أبو نواس في بغداد
تمثال أبو نواس في بغداد
TT

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

 تمثال أبو نواس في بغداد
تمثال أبو نواس في بغداد

لم يكن التغزل الصريح بالمرأة والاحتفاء بالملذات ظاهرةً عباسيةَ النشأة والتبلور، بل كانت نسخته الأولى قد تشكلت في الحقبة الأموية، متخذة ملامح عربية لا لبس في نقائها، إلا أن ما نلاحظه من فوارق في الجرأة والأسلوب بين النسختين، كان يتصل بتبدل الظروف وبتطورالبيئة السياسية والاجتماعية الحاضنة لكل منهما. ففي حين نهض بالتجربة الأولى شعراء ونخب مثقفة ينتمون بمعظمهم إلى أشراف قريش، وتمنعهم عراقة محتدهم وأمكنة عيشهم من البذاءة والإسفاف، ظهرت التجربة الثانية في ساحات نائية عن مركز الدعوة، وقادتها في ظروف أكثر ملاءمة جمهرة واسعة من الشعراء والكتاب والمغنين، المحتفين بالحياة الجديدة، أو الهاربين من أزماتهم باتجاه اللهو والمتعة الخالصة. وهكذا احتشد في الآونة ذاتها شعراء عبثيون من أمثال أبو نواس وبشار بن برد ووالبة بن الحباب والحسين بن الضحاك الخليع ومطيع بن إياس ومسلم بن الوليد وعلي بن الجهم وحماد عجرد، فيما احتشد في الموسيقى والغناء كل من زرياب وإسحق وإبراهيم الموصلي وعريب وإبراهيم بن المهدي وابن جامع وكثيرين غيرهم.

ولعل أكثر ما يلفتنا في هذا السياق هو السلوكيات «الفصامية» لبعض الخلفاء الذين كانوا يمارسون الشيء ونقيضه في آن. فهم بانخراطهم في مناخ المتعة واللهو، محولين قصورهم إلى حانات يؤمها شعراء ومغنون وندماء، بدوا وكأنهم يريدون الإيحاء برسوخ الحكم واستقراره. إلا أن ظاهر الأمور لم يكن متطابقاً مع باطنها، بل كان تظاهرهم بالطمأنينة يخفي وراءه قلقاً عميقاً على المصير، سواء بفعل الثورات المتلاحقة لأبناء العمومة العلويين والأشراف، أو بفعل التغلغل المتفاقم للفرس، ومن بعدهم الأتراك، في مفاصل الدولة وهياكلها المختلفة.

كما أن تداخل الدنيوي بالديني، الذي يُوجب عليهم حماية الإسلام وشعائره، جعلهم يحرصون على عدم إغضاب المتشددين من الفقهاء والعامة، والاحتفاظ بمظهر الورع والتقى، وصولاً إلى معاقبة المفرطين في الفسق والمجون، الأمر الذي أبقى المشتغلين بالأدب والفن في خانة التوتر، مع ملاحظة أن تهمة الزندقة والمروق تحولت إلى سيف مسلط على رقاب المعارضين السياسيين، وصولاً إلى قتل البعض منهم على نحو مأساوي.

ومع أن بعض هؤلاء لم يكن بريئاً من تهم الشعوبية والزندقة والعداء للعرب، فإن ثمة دوافع وأسباباً أخرى، حملت هؤلاء على ملازمة الحانات والارتماء في أحضان الجواري واستمراء السلوكيات الشاذة، من بينها النشأة المتواضعة والفقر والتهميش الاجتماعي.

وقد بدا واضحاً أن يُتْمَ أبو نواس المبكر، وافتقاره إلى الإشباع العاطفي، وما عاينه طفلاً من انحراف أخلاقي في عائلته، هو ما شكل الدافع الأهم لفجوره وتهالكه على اللذة، كنوع من الانتقام الثلاثي الرمزي، من أمه ومن نفسه ومن مجتمعه على حد سواء. وهكذا راح يضرب عرض الحائط بالأعراف والتقاليد.

وقد يكون بشار بن برد، بموهبته المتفردة وسلوكه الملتبس، أحد أكثر الشعراء تجسيداً للمفارقة القائمة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق. فمن الصعوبة بمكان أن نرى مروق هذا الشاعر المولود لأب فارسي وأم رومية، من المنظور الشعوبي وحده، بل علينا أن نضيف إلى ذلك فقر أسرته ونشأته على الرق، فضلاً عن عماه بالولادة ودمامته المفرطة. وقد ولّد كل ذلك في داخله شعوراً بالنقمة على كل ما يحيط به، وصولاً إلى اعتبار عماه نعمة إلهية، بقوله:

قالوا العمى منظرٌ قبيحٌ قلتُ بفقدي لكمُ يهونُ

تالله ما في البلاد شيء تأسى على فقْده العيونُ

ولم يكن الحسين بن الضحاك الخليع ليختلف كثيراً عن مجايليه، سوى أنه كان يفوقهم في الفكاهة والظرف إلى حد أنه بات نديماً لغير واحد من خلفاء بني العباس، ابتداءً بالأمين وانتهاء بالواثق.

وكان من بين هؤلاء حماد عجرد، الذي اشتهر بمكره وسعة حيلته، رغم إغراقه في الفسق والتهتك. وقد رُمي حماد بالزندقة كأترابه الآخرين، وكاد أن يواجه المصير المأساوي نفسه الذي واجهه بشار، لو لم يشفع به لدى المهدي صديقه الأثير محمد بن أبي العباس السفاح. وإذ عرف عنه ميله الدائم إلى الخصومة والعراك، لم يتردد في خوض السجالات الحادة مع منتقديه، حتى لو كانوا من الأئمة والمتنسكين، وهو الذي خاطب الإمام أبا حنيفة الذي لامه على سلوكه طريق الفسق، بالقول:

إن كان نُسكك لا يتمُّ بغير شتمي وانتقاصي

فلطالما زكّيتني وأنا المقيم على المعاصي

على أن كل ما تقدم لا يمنعنا من ملاحظة الوجه الآخر لهؤلاء الشعراء والكتاب، الذين اندفعوا إلى الفسق والمجون كشكل من أشكال الاحتجاج على الواقع، بشقيه الشخصي والاجتماعي. فهم في تهالكهم على الفوز بغنائم الجسد و«أتاواته» وملذاته، ظلوا في أعماقهم ظامئين إلى العاطفة الصادقة والحب الحقيقي. وإذ انتهى بعضهم مقتولاً على يد السلطة الحاكمة بتهمة الزندقة، كما حدث لبشار وابن المقفع، فإن بعضهم الآخر قد عمد إلى قتل حبيبته بدافع الغيرة، كما حدث لديك الجن الحمصي فوق مسرح مغاير. ومع ذلك فقد بدوا كما لو أنهم آثروا خسارة الحب لكي يربحوه مسترداً في الشعر والحنين، وهو ما يؤكده أبو نواس بقوله:

وأُقسمُ لولا أن تنال مَعاشرٌ جنانَ بما لا أشتهي لجنانِ

فواحزنا حزناً يؤدي إلى الردى فأُصبح مأثوراً بكل لسانِ

تراني انقضتْ أيامُ وصليَ منكمُ وآذَنَ فيكم بالوداع زماني

كما يتجلى الوجه الآخر للعلاقة بالمرأة في شعر بشار بن برد، وفي قصائده ومقطوعاته التي نظمها في غرام «عبدة» على نحو خاص، حيث التعلق بالمعشوق يتكفل به القلب والأذن لا العين، وواسطته البصيرة لا البصر. وإذ يقارن بشار في حالات غيرته القصوى بين الفراق الذي يحمل حبيبته إلى أحضان سواه، والموت الذي يضعها في عهدة التراب، يختار الثاني على الأول، ويهتف بحرقة:

من حبها أتمنى لو يصادفني من نحو قريتها ناعٍ فينعاها

كيما أقول فراقٌ لا لقاء له وتضمر النفس يأساً ثم تسلاها

كما بدا مطيع بن إياس كأنه يحمل في مورثاته الجينية طبائع السلالة وميلها الجارف إلى الاستمتاع بمباهج الحياة وملذاتها الحسية. فقد روى الأصفهاني بأن خارجة، جدة مطيع، كانت تحمل من النهم الجسدي ما جعلها تنتقل من زوج إلى آخر، وتستجيب لكل من يخطبها من الرجال. وقد سار مطيع على خطى جدته، بحيث انصرف بكليته إلى المتعة. ومع ذلك فإن مطيع بن إياس الذي عُرف عنه استهتاره وتهتكه وأشعاره الماجنة، هو نفسه الذي حمله العشق على إظهار ما بداخله من عذوبة وشجن. فإذ اضطر إلى فراق جارة له كان قد أحبها في الري، وجلس يستريح إلى نخلتين في محلة حلوان، راح يخاطب النخلتين بالقول:

أَسعِداني يا نخلتيْ حلْوانِ وارثيا لي من ريب هذا الزمانِ

ولعمري لو ذقتما ألم الفرقةِ أبكاكما الذي أبكاني

أسعِداني وأيقِنا أن نحساً سوف يلقاكما فتفترقانِ