لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة

درويش مع عرفات
درويش مع عرفات
TT

لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة

درويش مع عرفات
درويش مع عرفات

لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة كان ياسر عرفات يتعامل مع محمود درويش كصديق شخصي، أبوابه مفتوحة أمامه، وكل الوقت له، وكان يدرك مغزى أن يكون الشاعر الأكبر في واجهة القيادة، وحين كانت القوى السياسية تتزاحم على المواقع من «المجلس الوطني إلى المركزي إلى التنفيذية» كان محمود درويش مرشح عرفات الدائم، وكان نجم الثقافة يعتذر.

إلحاح عرفات على ضم سيد الثقافة إلى منظومة القيادة نابع من حاجته لتعزيز قيادته للحالة الفلسطينية، بحضورٍ لشاعر إجماع يتوازى معه في الجماهيرية، ويُنتج صدقية لا جدال عليها، في البعد الإنساني والإبداعي والحضاري، لثورة شعب، كان خصومها الأقوياء والنافذون يصوّرونها على أنها مجموعات قطّاع طرق.

وفي إطلالات عرفات على العالم عبر الشاشات وسائر وسائل الإعلام، كان محمود درويش حاضراً كبرهان ساطع على أن ثورة الشعب الفلسطيني، إنسانية إبداعية ثقافية عادلة.

أدرك محمود درويش أن مكانته عند شعبه وأمته والعالم، تنبثق من التربة الفلسطينية، وأن شعره ونثره نتاج معادلة الألم والأمل، فهو يجسد الألم الفلسطيني الذي كابده منذ طفولته، ويفتح أبواب الأمل على غد سيأتي.

لم يكن يعرف ياسر عرفات حين نظم شعراً غزيراً وعميقاً عن وعود العاصفة، ولم يكن عرفات يعرفه حين كان يعدّ العدة مع رفاقه لإطلاق ثورة العاصفة، إلى أن التقيا، ذلك حين شاءت أقدار الاثنين أن يعملا معاً كلٌّ من على قمته.

بيروت محلة الفاكهاني:

= محمود فين، زمان ما شفته... يا ريت لو ييجي يتغدى معايا. =

سألنا عنه... هو خارج البلد.

= هاتوه على التليفون.

ينطلق جيش للبحث عن الشاعر، فيجده.

= انت فين سايبني لوحدي، تعال احميني من جماعتك.

«يقصد الشعراء والمثقفين الذين يُحرجونه بجذريتهم التي لا تتناسب مع مناوراته السياسية».

=والله يا أبو عمار ما أنا عارف، مين يحمي مين، أظن أنهم بحاجة إلى حماية منك وليس العكس.

= الله يسامحك يا خويا. كانت المكالمة تطول وتتشعب، وكان الشاعر وَبِوحيٍ من إدراكه لمكانته يفصح عمّا يجول في خاطره من أفكار فلا حواجز بينه وبين صديقه «كان خطأ يا أبو عمار أن تفعل كذا وكذا والأصح كذا وكذا». = تعال انت بس، وأنا بوضحلك كل حاجة. أكثر الأمكنة التي اجتمع فيها الاثنان كانت بيروت، ثم تونس، وأخيراً الوطن.

= والله يا محمود لولا إني يا خويا بعرف إنك بتتأخر في النوم لأفطرنا معاً.

= يا سيدي بنتعشى... ورايح أجيبلك «كتيبة الإبداع» بس بدّك تطوّل بالك عليهم. «كتيبة الإبداع تتشكل من أقرب أصدقاء محمود... لبنانيين ومصريين وعراقيين وسوريين، صحافيين وشعراء وأكاديميين». عرفات يتناول عشاءه عند منتصف الليل، وحين يلتقي كتيبة الإبداع يسأل عن الغائبين ممن يعرفهم، وعلى المائدة التي تخلو مما يحب المبدعون يتواصل حوار كله انتقاد يشارف حدود الإدانة، فالمثقفون جذريون في اعتراضهم على السلوك البراغماتي لياسر عرفات، أما هو فجذريٌّ فقط في اعتناق الهدف. كان عرفات وكلما ضيّق المبدعون الخناق عليه يلوذ بمحمود.

= مش أنا دائماً بقولّك احميني، مش كده برضو يا معين، ويا طلال ويا نهاد... كان يعرف أسماء جميع الجالسين. مع أول خيط لفجر يوم جديد ينفضّ العشاء بعد أن يكون المبدعون قد قالوا كل ما يجول في خاطرهم، أما ياسر عرفات فكان يعمل بكل ما تمليه البراغماتية والحسابات. شاعر على رأس الهرم التنفيذي ملاحظات درويش الانتقادية في الشأن السياسي لفتت نظر عرفات إلى أن محمود ليس مجرد شاعر عظيم، بل هو سياسي من طراز فريد، لذا زاد إلحاحه على أن يضع الرجل إلى جانبه على رأس الهرم القيادي.

= إحنا يا محمود وبعد ما طلّعونا من بيروت، عايزينك في اللجنة التنفيذية، والمرة حسمّيك رضيت أو لم ترضَ والمجلس الوطني على الأبواب.

= يا أبو عمار أنا معك سواء كنت في تونس أو باريس أو أي مكان، بلاش حكاية اللجنة التنفيذية، أراها قيداً ضررها أكثر من نفعها، «خليكم في حالكم وخلوني في حالي».

= يا خويا استحملني... لازم يعني لازم، والله بيعينّا على ما بعد بيروت.

= طيب أعطيني كام يوم أقلّب الأمر في ذهني.

= فكّر وخذ وقتك، لكن قراري اتُّخذ. خلال أيام قليلة واجه محمود حملة سيَّرها عليه عرفات، وجد الشاعر نفسه محاصراً بنفوذ القائد.

= يا سيدي أنت تأمر. = بارك الله فيك وحيكون معك صديقك أبو هادر «شفيق الحوت». وقال ضاحكاً: «كدة حتكون اللجنة التنفيذية لجنة مثقفين»! حين سُمي محمود درويش عضواً رسمياً في اللجنة التنفيذية لم يقبل بأن يكون وردة تُعلَّق على صدر القيادة للتجميل، فتوغل في العمل السياسي وأدى دوراً بارزاً في مهمات حساسة، كان من ضمن المجموعة الضيقة التي تم تشكيلها للإشراف المباشر والتفصيلي على المحادثات السرية التي جرت في أوسلو، وقبل ذلك، كان قد عمل على متابعة مسألة الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير مع الوسطاء الأوروبيين. غير أن الأدوار التي لعبها من موقعه الرسمي، لم تكن لتؤثر في العمق على قناعاته الخاصة، كان يدرك أهمية الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير فعمل على ذلك، إلا أنه كان متحفظاً على الكثير من الصيغ السياسية التي كان يجري تداولها بعد نشوء علاقات رسمية علنية وإن بمستوى منخفض مع الأميركيين، لم يكن مطمئناً إلى أن الأميركيين والإسرائيليين سيكونون أوفياء بما يتعهدون به، لذا لم يكن ممكناً للشاعر المثقف أن يواصل المواءمة بين قناعاته الجذرية، والتكتيكات التي تمليها حاجة السياسيين، فقرر الخروج من القيادة. = هذه استقالتي أيها القائد العام. أرسل عرفات مبعوثين من أصدقائهما المشتركين لإقناع الشاعر بالعدول. كان ذلك بعد التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات أوسلو. كان عرفات يدرك كم سيكون صعباً عليه إقناع الجمهور الفلسطيني بصوابية مخرجات أوسلو، إذا ما اتخذ الشاعر الأكبر موقفاً سلبياً منها أو مُديناً لها. إن خصوم أوسلو لا بد أن يستخدموا موقف الشاعر ورصيده الجماهيري الضخم، للنيَل مما أقدم عليه عرفات ومَن معه من منظمة التحرير. ولكي يجنّب درويش نفسه وضعاً كهذا، تعهد بألا يعلن أن سبب استقالته هو اتفاق أوسلو، فقرر التعايش مع أهم ما أتى به دون تبنيه، وهو إتاحة الفرصة له كي يعود إلى بعض الوطن.

= محمود أقبل استقالتك بشرط...

= أنا موافق على شرطك قبل أن تقوله.

= أن تتفرغ للشعر. محمود الذكي واللماح فهم ما بين الكلمات القليلة التي قالها عرفات.

= مع أن لي تحفظات كثيرة على أوسلو، وسبق أن أوضحتها لك، سأعمل على الاستفادة منها، سأعيش في رام الله لأكون قريباً من أمي في الجليل.

= طبعاً أنت لسا بتحنّ لخبزها وقهوتها. مرثية درويش لعرفات شاء القدر أن يموت عرفات قبل محمود درويش، رثاه بنثرية رائعة، وهذا بعض منها: «لم يزاول مهنة الهندسة لتعبيد الطرق، بل لشقِّها في حقول الألغام»... «صارت كوفية عرفات المعقودة بعنايةٍ رمزية وفلكلورية معاً هي الدليل المعنوي والسياسي إلى فلسطين»... «صار ضرورياً في حياتنا إلى درجة الخطر»... «لم يعد أمام ياسر عرفات إلا الرهان على قدر لا يستجيب وعلى معجزة لا تطيع هذا الزمن، المقاطعة مقره ومنزله الوحيد ينهار عليه غرفة غرفة وهو يردد في نبرة نبويّة شهيداً شهيداً شهيداً»... «هكذا صار حصار عرفات أمراً مألوفاً، ثلاث سنوات من تسميم الحياة، ثلاث سنوات من الكد الإسرائيلي لتجريد عرفات من صلاحياته وصلاحية رمزيته، بيد أن الفلسطينيين قادرون دائماً على الترميز؛ حصار الرئيس رمز لحصارنا، ومعاناته رمز لمعاناتنا، فهو معنا وفينا ومثلنا، نحبه لأننا نحبه، ونحبه لأننا لا نحب أعداءه»... «خرج المحاصَر من حصاره ليزور الموت في المنفى، وليزوّد الأسطورة بما تحتاج إليه من مكر النهاية، لقد منحنا الوقت ليتدرب الحزن فينا على أدوات التعبير اللائقة، ففي كل واحد منّا شيء منه، هو الأب والابن». وفي مرثيته لم يتخلَّ عن انتقاده البليغ والمهذب، حيث قال: «لكن المفاجآت كانت تعمل في مكان آخر، فهذا الكائن الرمزيّ العائد من تأويلات إغريقية، كان في حاجة إلى التخفيف من عبء أسطورته، لأن البلد بحاجة إلى بناء وإدارة، وإلى التخلص من الاحتلال بوسائل جديدة، وهو الآن مكشوف أمام الجميع عُرضة للمسّ والهمس والمساءلة، ومن سوء حظ البطل أن عليه أن ينتصر على الأعداء في معارك غير متكافئة من جهة، وأن يصون صورته في المخيلة العامة من نتوءاتها الداخلية». مات الصديقان. لم يريا انكسار الحلم مع أنهما أحسّا به: القائد في حصاره، والشاعر في خيبات أمله. مات عرفات بعد احتضار طويل في المنفى البعيد، ومات محمود بعد دقائق من شق صدره لمعالجة قلبه في المنفى الأبعد. دُفنا في جوف الأرض الفلسطينية. على بُعد قبلة من القدس، حظي عرفات بضريح بدا كما لو أنه جزء من حياته اليومية، كان يحب أن يعمل ويأكل وينام في مكان واحد، وها هو الضريح أُقيم تحت شرفة مكتبه، وإلى جوار مهبط المروحية التي حملته مريضاً إلى باريس، وأعادته شهيداً شهيداً شهيداً. أمّا صديقه محمود... فقد وضع ضريحه على قمة جبل في رام الله تطل على البحر الفلسطيني. هي ملحمة صاغها شعب أنتج ظاهرتين قريبتين من المعجزة؛ قائداً اسمه ياسر عرفات، وشاعراً اسمه محمود درويش الذي وصف حالتهما منذ بداية الطريق إلى ما لا نهاية. «هذا هو العرس الذي لا ينتهي... في ليلة لا تنتهي... في ساحة لا تنتهي... لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيداً أو شريداً».

* كاتب فلسطيني


مقالات ذات صلة

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق الفنانة اللبنانية جاهدة وهبة (صور الفنانة)

جاهدة وهبة «تعيش مع الضوء» وتجول العواصم بصوتها دعماً للبنان

كان لا بد أن تعود الأغنية لتنبض في حنجرة جاهدة وهبة بعد صمت صدمة الحرب. وها هي الفنانة اللبنانية تحمل أغنيتها وتجول العواصم الأوروبية والعربية رافعةً صوت وطنها.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
ثقافة وفنون قصيدتان

قصيدتان

متحف العائلة رغم رحيلها لم تخسر الفتاة غرفتها في بيت العائلة المزدحم لم تسمح الأم أن يتوارث الباقون مكانها، حولت غرفتها إلى متحف: احتفظت بالبوسترات…

ثقافة وفنون رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

أصدر مخلص خليل عدداً من المجموعات الشعرية، وكان من الأصوات البارزة في فترة السبعينات.


«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!