الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

كريم عبد السلام في ديوانه «أكتب فلسطين»

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة
TT

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة من حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على مدار عام مضى، ولا تزال مستمرة على يد المحتل الإسرائيلي، محولاً الشعر إلى فعل مقاومة يعري هذه المأساة، وحبال التواطؤ التي تسهم في صنعها واستمراريتها، ضارباً عرض الحائط بكل القيم والقوانين والأعراف الدولية والإنسانية.

ومثلما تتعدد صور هذه المأساة الوحشية، تتعدد صور فعل المقاومة في الديوان، الصادر حديثاً عن دار «يسطرون» للنشر بالقاهرة، مرتكزاً على السخرية سلاحاً للهدم والبناء، وهتك المسكوت عنه، والمهمش فيما وراء الأشياء وفي طوايا الواقع المرير. وعبر 114 صفحة، يتحول الديوان إلى مسرح لتراجيديا مفتوحة على البدايات والنهايات، تختلط فيها الملهاة بالمأساة، ويراوح الإيقاع فنياً بين اللهاث للقبض على الحدث في فورانه الماثل للعيان، وتأمّل ما نجم عنه من خراب ودمار وقتل وتجويع وتشريد واغتيال لكل ما هو حي، جراء هذا العدوان المتوحش، الذي لم تعرف البشرية نظيراً له فيما مرت به من حروب ونكبات. وأصبح يثير قلق الوحوش ملوك الغابات والبحار معبرة عن قلقها البالغ والشديد على الاحتمال، أو قدرة الأرض على تحمل دماء وعظام الأبرياء المقتولين غدراً.

فهكذا، من شعرية التقرير بنسقها السردي الصادم المباغت، وشعرية الدراما التي يتنازع فيها الصراع على التشبث بإرادة الحياة والحلم بغد أكثر عدلاً وأماناً، إلى شعرية التهكم والسخرية حتى من الموت نفسه، باعتباره تناسلاً جديداً للحياة في حيوات أجساد أخرى. يوثق الشاعر لكل هذه المرايا المهشمة بمجموعة من الصور الملتقطة من رحم المأساة في غزة، كما يستدعي صوراً أخرى لأبطال ومناضلين قاوموا المستعمر المحتل دفاعاً عن الحق والكرامة الإنسانية؛ مثل جيفارا.

ويستحضر الصورة التراثية الأيقونة الشائعة لصلب المسيح، يكررها في لقطات متتالية تشبه البانوراما التشكيلية، حيت يتناثر عليها الضوء والعتمة من زوايا ومساقط مختلفة، ساتراً عورته بالكوفية الفلسطينية الشهيرة، في رمزية حية تمزج الدال بالمدلول، تشي بأن المسيح يصلب من جديد هنا، وأن كل دعاوى الخلاص التي يطلقها المحتل هي محض افتراءات وأكاذيب مضللة.

وفي صور أخرى يبدو القمر بكامل استدارته محلقاً بمفتاح القدس في السماء، وتزينه هذه الكوفية أيضاً؛ محتفظة بنصاعتها برغم القذائف التي تصوب إليها من كل الجهات. كما يستند التوثيق على حقائق دامغة تتمثل في نص القرارات الدولية التي صدرت عن منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1947، وتؤكد حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة فوق أرضهم المغتصبة. لكل هذا يكتب الشاعر فلسطين، يمد ألف «أكتب» في الغلاف، ويأخذ حرف الطاء شكل خريطة فلسطين، كأنه يثبتها في جدار التاريخ كحقيقة غير قابلة للمحو أو النسيان. وكما يقول مستهلاً الديوان:

«أكتب فلسطين لأني لست قاتلاً أو شاهدَ زور

أكتب فلسطين ليتوارى شبحُ المنفى وتغادر الطيور السماوات

المستأجرة

أكتب فلسطين فتعود المستوطنات وطناً

أكتب فلسطين فتطرد القواميس كلمة النكبة ويتراجع الضباعُ إلى

البحر

أكتب فلسطين لأنضم إلى الشهداء في ملكوتهم والضحايا في

محارقهم واللاجئين في مخيماتهم والمقصوفين في عراء الإنسانية

أكتب فلسطين لأنهض في نفسي، وينهض معي من يرى ويسمع

أكتب فلسطين بالأحلام كلها، بيقين الأم الثكلى: سنبقى هنا...

قلنا سنبقى

أكتب فلسطين ضد الوحوش وفى مواجهة المجرمين

ليت لي حيواتٍ لأكتب وأكتب، وأصواتاً لأردد دون توقف، وأيديَ كثيرةً

لأحمل البنادق».

يضم الديوان ثلاث قصائد تشكل الكتلة الأساسية هي: «ناقد في شرفة الطابق العاشر، جوليات وداوود قبل المونتاج، إلهي إلهي... لماذا تركتني»، تعقبها قصيدة طويلة في نحو 50 صفحة تشكل محور الإيقاع لهذه الكتلة، يفكك فيها الشاعر اسم فلسطين ويحول حروفه لأوتار رنانة: «فاء... فلسطين، لام... لأن المسافة صفر، سين... السفاح المسكين، طاء... طبعاً مع الوحوش أفضل جداً، ياء... يا ليل القمر فلسطيني، نون... نحيا سيرة مقاوم». بينما تبدو الذات الشعرية كأنها طفل يقف وسط الخراب على عتبة اللغة والكلام يعيد تهجئة الاسم، كأن الاسم نفسه بمثابة مفتاح للولوج إلى العالم المحيط، ومعرفة خباياه وأسراره، ويتم ذلك في وحدات شعرية تلعب على جدل الاتصال/ الانفصال، لتشكل من خلاله ضفيرة شعرية يتواشج فيها الحدث الدامي المتناثر على الأرض، وما يتركه على عين النص والقارئ من ذبذبة بصرية نازفة أيضاً.

يقول الشاعر في النص الأول «ناقد في شرفة الطابق العاشر»، مستدعياً الآخر الضد، في حوار ضمني أحادي، تعلو فيه نبرة الاستعلاء وادعاء الحكمة، كما يسخر من فكر ما بعد الحداثة باعتباره أسلوباً ينطوي على التشكيك في التصورات والرؤى والأفكار الراسخة، فلا ثقة في العقل والحقيقة والهوية والموضوعية كقيم محفزة على التقدم وبناء المستقبل، في مقابل الترسيخ لفكرة «التشيؤ» معياراً لعالم جديد مصطنع ينهض على منطق السطوة والقوة والنفوذ، وهو المنطق نفسه الذي يحكم عقلية العدو الغاصب في هذه الحرب، نلمس ذلك في مقتطف من هذا النص يقول:

«أيها الشاعرُ،

أحذركَ

جلوسُكَ على الرصيف لا يعطيكَ الحق أن ترى الحرب

لا أحد هنا يتحدثُ عن القتل المنظم أو القتل العشوائي

لا أحد يتكلم عن الإبادة وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها

لا أحد يلتفت إلى الأطفال المقتولين والأطفال الممزقين والأطفال

التائهين تحت الأنقاض

لا أحد

لا أحد من فريقنا يلتفت إلى تلك الأمور المعقدة

تفهمني طبعاً،

اغسل يديكَ من أوحال السياسة لو سمحت

وابتعد عن العشوائيات والباعة المتجولين في المترو ومولد الحسين.

لا يهمني أن تكون غير مرئي

لكن ليس من شأنك أن ترى الطفلة الميتةَ من الجوع،

أو الطفلَ المقتولَ واسمُه مكتوبٌ على جبهته، لأن الموت يُنسي

كثيراً

أو الطفلَ الذي يكتب اسمَ عائلته على كفه قبل أن ينام

أو الطفلَ الذي يقول لأمه: أنا خائفٌ يا أمي، رغم موته منذ

ساعتين

ليس من شأنكَ

أنت مجرد شاعر في صحراء ما بعد الحداثة

عيناك لا تتعدى أوهامَكَ الصغيرة

وخيالكَ لا يتجاوز بابَ بيتكم».

يوثق الشاعر لكل المرايا المهشمة في قصائده بمجموعة من الصور الملتقطة من رحم المأساة في غزة

من ثم، تبرز فكرة المحاكمة في الديوان، وتتخذ منحى هزلياً على لسان هذا المجرم، في نص «سين... السفاح المسكين» الذي يلعب على حرف السين من أبجدية اسم فلسطين، فلا هو يستطيع أن يتخلص من القتل الذي تحول إلى فعل إدمان، كما تبدو محاولات التطهير أشبه بمتاهة وحلقة مفرغة، تتسع كل يوم وتتحول في مواجهة فعل المقاومة الباسلة إلى هاوية، يخشى السفاح أن تبتلعه، لكنه يظل مؤرقاً، يجأر بالشكوى أمام قاضٍ متوهم، صنعه من هلاوس هذا الأرق الممض على مدار سبعة أيام، في دلالة موحية على انطلاقة «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023:

«في اليوم الثالث

جاء السفاحُ المسكينُ للمحكمة

سيدي القاضي:

لن تصدقَ حتى ترى بعينيك

أنا نفسي لم أصدق حتى حملوني في هليكوبتر إلى الشاطئ

يتوالدون من حبات الرمل سيدي

نعم،

الأطفالُ الذين قتلناهم،

لأنهم سيؤذوننا في المستقبل،

رأيتُهم يختبئون في حبات الرمال

ينمون على الصخور مع الطحالب

ويلقى بهم البحرُ مع الموج

ثم يكبرون في الليل تحت ضوء القمر

تصور سيدي...

قصفنا الشاطئ والبحر والأمواج والصخور

لكنهم ما زالوا يختبئون، ثم يتسللون عند الفجر

لا يعقل سيدي القاضي أن نحارب البحر ورمال الشاطئ والصخور

هذه الحربُ غيرُ عادلة

وتستنزفنا كل يوم... كل يوم».

في السياق نفسه، يوسع الديوان درامياً من فضاء هذا المشهد، عبر مسرحية هزلية من فصل واحد بعنوان «الزعماء يصنعون السلام» (Handmade)، أبطالها خمسة شخوص يمثلون القوة العظمى التي تتحكم بمصير العالم، في إشارة إلى الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وتملك حق النقض (الفيتو). يجلسون على قطع من الحجارة بين أنقاض مبنى متهدم تفوح منه رائحة الدماء وأشلاء القتلى، يحولهم النص إلى هياكل بشرية، يتبادلون الحوار حول السلام والموت والأرض وغواية الغزل والحب، وفي آخر تصويت عن مدى استعداد الأرض للسلام «ترتفع أصوات انفجارات وطلقات رصاص وقصف بالطائرات، ويشتعل المسرح ليتفرق الزعماء هاربين بحثاً عن مخبأ».

في ختام هذه الإطلالة على هذه المغامرة الشعرية الشيقة والمتميزة، يترك الشاعر كريم عبد السلام النهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، بينما تطل من قاموس «لسان العرب» كلمة حياة بكل مرادفاتها واشتقاقاتها، كأنها تصارع الموت بكل مرادفاته، تاركاً «لسان الغرب» تعبر عنه الصور الدموية للمأساة، وفي «لسان الحال» يعيد نشر الوثائق الدولية التي تنص على حق الفلسطينيين في الحياة.


مقالات ذات صلة

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

ثقافة وفنون محمد سمير ندا

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

حوار مطول يجيب فيه الكاتب على الجدل واللغط الذي أثير حول روايته «صلاة القلق» الفائزة بجائزة البوكر، ونفى مهاجمته للرئيس الراحل جمال عبد الناصر

رشا أحمد (القاهرة)
كتب الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته.

لطفية الدليمي
كتب «فن الحرب» في ترجمة كاملة عن الصينية

«فن الحرب» في ترجمة كاملة عن الصينية

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة صدرت طبعة جديدة من الكتاب الشهير «فن الحرب» الذي وضعه في القرن السادس قبل الميلاد القائد العسكري الصيني والمفكر الاستراتيجي سون تزو

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

«النقد الأدبي» لأحمد أمين لا يزال صالحاً لإثارة الدهشة

للقاصّ المصري الراحل يحيى الطاهر عبد الله نصّ شهير يحمل عنوان «الحقائق القديمة لا تزال صالحة لإثارة الدهشة»

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مسارات التجريب في القصة المصرية القصيرة

مسارات التجريب في القصة المصرية القصيرة

يسعى الناقد والروائي المصري سيد الوكيل، في كتابه «علامات وتحولات: في ذاكرة القصة المصرية» إلى الوقوف عند أهم محطات التجريب التقني في كتابة القصة القصيرة

عمر شهريار (القاهرة)

«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود

«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود
TT

«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود

«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود

يطرح «كتاب الانفعالات» للفيلسوف والأكاديمي الإيطالي أومبرتو جاليمبرتي الانفعالات بوصفها تعديلاً في كياننا النفسي، وفي علاقتنا بالعالم، مؤسِساً طرحه وتأملاته في ظلال التاريخ، والفلسفة، وعلم النفس، والتكنولوجيا.

صدرت الترجمة العربية للكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة بتوقيع المترجمة المصرية الدكتورة نجلاء والي، ويقع الكتاب في خمسة أجزاء يتنقل فيها الكاتب بين مختلف النظريات التي تشرح الآليات الكامنة وراء الانفعالات، وصولاً لتأثير التقنية الرقمية عليها.

ورغم الجهود العلمية المبذولة عبر التاريخ لرصد الانفعالات، فإن جاليمبرتي يعتبر أنها ما زالت عملية معقدة، ويرجع ذلك إلى أنها تقبع في مناطق مجهولة داخلنا، وتضرب بجذور ثابتة في الجزء الأقدم من عقولنا، وتظهر آثارها في الجزء الأكثر نبلاً في وجداننا، وفي مشاعرنا وحياتنا الاجتماعية، وتوقف الكاتب عند طبيعة الانفعالات التي تتفرق بين علوم ومجالات متعددة، ما بين علم الأعصاب وعلم النفس وعلم التربية والاجتماع، والفلسفة، وحتى بوصفها مسألة «ثقافية».

حالة طوارئ

تتجه بنية الكتاب إلى محاورة النماذج الفلسفية المؤسِسة حول الانفعالات، ومجاورتها مع نماذج أكثر معاصرة، فيعود لأصل الأشياء ورصد رحلة تطوّر المشاعر لدى «إنسان الكهف» الذي يقول الكاتب إنه لولا المشاعر التي كانت تقوده لكان الجنس البشري قد انقرض، حيث يمثل شعوره بالخطر أقدم الانفعالات التي حافظت على حياته، فطوّر استجابة «لحظية» لمواجهة الخطر، حيث الوقت يجب أن يكون وجيزاً بين إدراك العامِل المُحفز للانفعال والاستجابة لها، سواء للامساك بالفريسة قبل هروبها، أو أن يهرب هو نفسه من حيوان مفترس.

ولعل هذا المشهد «البدائي» هو ما طوّر تكريس الانفعال بوصفه «رد فعل عاطفياً عميقاً»، يظهر بصورة حادة ولمدة وجيزة نتيجة محفز بيئي مثل خطر، أو محفز عقلي كذكرى، أو حتى من وحي الخيال، فالانفعال في علم اللغة يعني التحرك فيما وراء الشيء أو ما بعده، كما يشير المؤلف.

يضع الكتاب هذا النموذج الأولي في مُقاربة مع التحليل النفسي لدى فرويد الذي يُفرّق بين الخوف الذي يتطلب وجود شيء معين نخشاه، والقلق الذي يمكن تعريفه بعملية انتظار حدوث خطر، أو الاستعداد له، وقد يكون الخطر نفسه مجهولاً، والرعب المرتقب للخطر دون استعداد مسبق له، وهنا تلعب المفاجأة دورها.

ومن ثم، يتتبع جاليمبرتي حالة التفكيك الفلسفي الطويلة لتعقيدات الانفعالات مثل الغضب، والغيرة، والقلق، حتى الضحك والبكاء، ويستخدم تعبير «فقد النظام» باعتبار الانفعالات صورة من إعادة ضبط هذا النظام المُختل، فالفيلسوف الألماني كارل ياسبرز يرى الضحك والبكاء «آفتين من آفات الجسد، الذي لا يجد لهما طريقاً للخروج»، فيفقد نظامه عند نقطة معينة، ويقول الكاتب: «فقد النظام رمز، كما أن هناك رمزية في كل تعبير وإشارة، ولكنها ليست شفافة في الضحك والبكاء؛ لأن كلاً منهما استجابة متأخرة؛ استجابة على الحافة، يقتصر الضحك والبكاء على الإنسان، فهما ظاهرتان بشريتان فحسب».

كسر العدم

يُحاوِر المؤلِف النموذج الأفلاطوني حول المشاعر ما بين ثنائية الجسد والروح، ويسعى لربطها بأفكار داروين، وكارل يونغ، مروراً بجان بول سارتر الذي يتوقف عن تأمله لدلالة الانفعالات، فعلى سبيل المثال إذا كانت التغيرات الفسيولوجية الناشئة عن الغضب لا تختلف من حيث القوة عن تلك الناجمة عن الفرح، بما في ذلك زيادة في نبضات القلب وزيادة في صلابة العضلات، فهذا التشابه في الظاهر لا يعني أن الغضب شعور قوي بالفرح، وذلك ببساطة لأن دلالة الفرح تختلف عن دلالة الغضب، وإذا لم نفهم الدلالة فلن نفهم الفرح والغضب، وإن حددنا ورصدنا الأسباب والعلامات التي تصاحبهما.

ويؤكد أنه لا يمكن إدراك الانفعالات بمعزل عن سياقها الوجودي الأشمل، فإذا كان وجودنا نفسه انفتاحاً على العالم، فالانفعال إذا هو خبرة هشاشة الوجود في اللحظة التي يبدو لنا فيها هذا الوجود أو العالم مختلفاً وغير مألوف، فيترتب على ذلك فقد السيطرة، والشعور بالخطر الوشيك وتهديد خفي بالعدم يجتاحه، وربما يمكن هنا استعارة صوت هيدغر الذي اعتبر القلق هو «استشعار العدم»، وفي تيه القلق نحاول غالباً أن نكسر الصمت المطبق ببعض الكلمات التي ننطق بها بشكل عشوائي، وهو دليل على حضور العدم؛ فالقلق يكسر العدم.

تسليع المشاعر

تبدو الخبرة الانفعالية إذًا أكثر التجارب التي تظهر لنا هشاشة انفتاح الإنسان على العالم، ويشير الكاتب إلى أنه يظل هناك دائماً قدر من عدم الاتساق بين موضوعية الموقف والشحنة العاطفية التي تصاحبها، أو ما يصفه بـ«الشلل» الذي نشعر به دائماً بما لا يتناسب مع المناسبة التي سببته.

ويتوقف الكاتب عند تسخير «الانفعالات» في العصر الحديث بغرض التسليع، حيث تصبح «تسليع المشاعر» سلعة لترويج سلع أخرى، لا على أساس ما تثيره من انفعالات وليس على أسس عقلانية، بما في ذلك استغلال الساسة للعواطف في الخطابات الشعبوية، علاوة على مخاطر «تبدد الواقع» والعزلة التي يخلقها التواصل الاجتماعي الافتراضي، مُفصِلاً في الجزء الأخير من الكتاب تحديات ما يصفه بـ«النمو الانفعالي» للجيل الجديد، الذي يفتقر للتجاوب العاطفي، والذي يسمح لهم بالشعور اللحظي وقبل التفكير العقلاني، فهو يرى أن شبكة الإنترنت تسببت في «تراجع القدرات العقلية، واختزال عالم الانفعالات والمشاعر الذي لا يمكن التحقق عبر قنواتها»، ويتتبع الكاتب مسارات التعبير الإنساني بدايةً من مراحل ما قبل التاريخ حيث التعبير عن المشاعر بالنحت والرسم على الحجارة، وصولاً للتخلي عن تلك الرموز المرئية مع اختراع الكتابة، وصولاً لأجيال الديجيتال، حيث لم تصل إليهم المعارف من خلال «الكتاب» ولكن من خلال «المشاهدة»، ويؤكد الكاتب في النهاية أنه لا يُدين الإنترنت الذي فتح آفاقاً من الفُرص، ولكن في الوقت نفسه لا يعفيه من دوره في إبعادنا عن الانفعالات واستبدالها بأخرى زائفة تشبه الأوهام والهلاوس: «من يهجر الواقع ويذهب إلى عالم افتراضي، والأكثر من ذلك أن هذا يحدث دون دراية من جانبنا ودون عِلمنا».

تبدو الانفعالات كما يصفها المؤلف طريقة لفهم العالم والتعامل معه، ووسيلة للاستمرار في الوجود، ويدعو لإدراكها ليس بوصفه خللاً فسيولوجياً، ولكن بوصفها «سلوكاً منظماً» يسمح للهروب مما لا يمكن أن يتحمله الإنسان؛ الدموع والعواطف الجياشة التي تجتاح شخصاً عندما يذكّره حديث بحب كبير ضائع لا يمكن استرجاعه، وهي مشاعر يصفها أومبرتو جاليمبرتي بأنها ليست «فوضى تعبيرية، ولكنها سلوك مناسب لوجود غير قادر على مواجهة ما حدث، ولا يستطيع التسليم بالفقد».

يُفصّل المؤلف غاية الانفعال هنا بوصه سلوكاً تعويضياً له القدرة على إثارة حضور آخر قادر على تخفيف المعاناة الناتجة عن وحدة لا يمكن درؤها عند التعبير عن هذه العواطف، لتكون تلك الدموع حلاً مفاجئاً ومباغتاً للصراع.

ويتوقف الكتاب عند محطة الانفعال الجمالي، بوصفها تلك الانفعالات التي تقودنا خارج الواقع وخارج عالمنا، كتلك التي تنتابنا ونحن مشدوهون بالموسيقى، والشِعر والفنون، حيث يستدعي القريب البعيد، لنبلغ نقطة أسمى، أو ما وراء الأشياء، يستدعي الكاتب هنا «هوميروس» الذي كان يستدعي وهو أعمى، ربّات الشعر ليحكين له ما حدث في طروادة، فالانفعال بالفنون يقودنا خارج سطوة العقلانية، ما دعا هايدغر لأن يقول إن الفنانين أكثر عرضة للجنون.