المترجم... التداخل بين نقل الأدب ونقده

إعادة بناء النصوص عملية نقدية بامتياز

محمد عناني
محمد عناني
TT
20

المترجم... التداخل بين نقل الأدب ونقده

محمد عناني
محمد عناني

حين دخلت تجربة الترجمة قبل سنوات، أظنها تقارب العشرين الآن، كنت أحمل تجربة في النقد الأدبي والتحليل الثقافي تفوق تجربتي في الترجمة كثافة وتتجاوزها زمنياً. كنت ناقداً أو باحثاً يترجم. هكذا أتصور الآن تجربتي وأنا أعود إليها متأملاً. أعود لأتبين أولاً أن الدخول في فضاء الترجمة لم يعن انتقالاً من وظيفة إلى أخرى أو من شخصية إلى أخرى مغايرة. لم أنقطع عن دراسة الأدب ولا عن مشاغل فكرية متنوعة. جاءت الترجمة لتتسق مع ما قبلها أو لتجد مكاناً مناسباً أو لتكون قبعة أخرى بين قبعات أُخر لم أتوقف عن تبديلها بين الفينة والفينة، والكتاب والآخر.

إدوارد فيتزجيرالد
إدوارد فيتزجيرالد

لكن تجربة الترجمة استدعت سؤالاً رئيساً أحسبه مطروحاً على تجارب أخرى: ما العلاقة بين الترجمة والنقد لا سيما حين يكون كلاهما متصلاً بالأدب؟ هل ثمة علاقة بين ترجمة الأدب ونقده؟ وكيف تؤثر ترجمة الأدب على نقده أو العكس؟ هل يمكن القول، بتعبير آخر، إن الترجمة الأدبية لون من ألوان نقد الأدب؟

المعروف لدى الجميع أن الترجمة لون من ألوان التفسير، فالمترجم يسمى «مفسراً» بالإنجليزية interpreter وربما في لغات أخرى وهي حقيقة لا جدال فيها، فالمترجم ينقل الدلالات من لغة إلى أخرى حسب فهمه، الأمر الذي يخضع تلك الدلالات لتفسيره، فهو مفسر لا ناقل حرفياً، مهما بلغ حرصه على الأمانة في النقل. لكن لا شك أن تفسير نص أو كلام مباشر قليل الالتباسات، مثل تبادل التحيات أو الأوامر أو الأخبار الموجزة، غير تفسير نص مركب مثل النصوص الدينية أو الأدبية أو الفلسفية العالية الكثافة والمتعددة الدلالة. تتعالى مستويات التفسير بتعالي مستويات النصوص، وحين ندخل في التفسير نكون دخلنا فيما نسميه النقد الأدبي الذي يقوم في جانب كبير منه، كما هو معروف، على تفسير النصوص.

أثناء دراستي لأدب اللغة الإنجليزية، أي الإنجليزي والأميركي، كنت بين طلبة أميركيين، شأني في ذلك شأن من درسوا أدب تلك اللغة في بلادها. وكانت المنافسة صعبة مع أهل اللغة لا سيما حين يأتي الأمر إلى تحليل النصوص الأدبية الشعرية بوجه خاص. وأذكر أنني استعنت بالترجمة لتحقيق سبق ولو طفيف على بقية الطلاب. اكتشفت أن ترجمة القصائد تكشف دلالات لم تخطر ببالي عند قراءتها دون ترجمة. كأن تعريض النص لعدسات لغة أخرى أو إدخاله مختبراً ثقافياً ولغوياً مغايراً يستنطق فيه ما لا يمكن استنطاقه لو قرئ بصورة مباشرة.

تجربتي في ترجمة بعض الأعمال الأدبية، الشعرية بصفة خاصة، أكدت لي أنني لم أبتعد كثيراً عن نقد تلك الأعمال، أو أنني في حقيقة الأمر أقوم بعملية مزدوجة أثناء الترجمة: يدخل النقد في هيئة انتقاء النصوص أولاً ثم في تفسيرها والبحث عن الدلالة الأقرب إلى الأصل والأنسب للغة المترجَم إليها. ذلك أن اختيار النص للترجمة هو فعل نقدي أولي وأساسي، هو تعبير عن قناعة بأن النص جدير بالترجمة، تماماً مثل اختيار نص للقراءة. أن نمد أيدينا إلى كتاب ونقلبه ونتخذ قراراً بقراءته أو تركه هو بحد ذاته ممارسة للنقد، هو تقدير لأهمية الكتاب أو جمال أسلوبه أو الأخذ باعتبارات أخرى.

جبرا إبراهيم جبرا
جبرا إبراهيم جبرا

في تاريخ الترجمة أعمال كثيرة ترجمت أكثر من مرة، عشرات المرات أحياناً، وما يدعو بعض المترجمين لإعادة ترجمة عمل أدبي ما مرة أخرى هو في الغالب موقف نقدي إزاء ما ترجم من قبل، موقف ناقد يتأسس على الكشف عن عيوب في الترجمة سواء كانت أخطاء واضحة أو عدم اتفاق في تفسير عنوان أو جملة أو فقرة أو العمل بأكمله. رواية إرنست همنغوي (أو همنغواي، كما يكتب عادة) The Old Man and the Sea ترجمها منير البعلبكي في خمسينيات القرن الماضي مختاراً للعنوان كلمة «شيخ» لتكون «الشيخ والبحر»، وجاء بعده من ترجم الكلمة نفسها إلى «العجوز» ثم اعترض آخرون فأعادوا ترجمة الرواية - ليس بسبب العنوان وحده طبعاً - ولكن ليغيروا العنوان أيضاً ويعيدوه إلى ما اختاره شيخ المترجمين البعلبكي مبررين ذلك بأن «العجوز» لا تعبر عن مسألة أساسية في الرواية هي كفاح الصياد المسن وعدم استسلامه للسمكة المتفلتة، بل إن كلمة «عجوز» تناقض إصرار الصياد بإظهاره «عاجزاً». ولم يكن كل ذلك سوى رؤى نقدية تجاه العمل.

وتتكرر تلك الرؤى النقدية في ترجمات أخرى مثل ترجمة «رباعيات الخيام»، وفي رأيي أنه قبل الترجمة تمثل النقد في صناعة عمل اسمه «رباعيات الخيام»؛ لأن عمر الخيام لم يكتب نصوصاً تحت عنوان واحد بذلك الاسم (بل إن هناك من يشكك في كتابته إياها أو مجملها أساساً)، وإنما جاء من بعده من جمع تلك الرباعيات ورتبها ومنحها عنواناً سارت به عبر التاريخ، إلى أن جاء المترجمون ومنهم البريطاني إدوارد فيتزجيرالد ليترجمها إلى الإنجليزية في ترجمة مشهورة قال بعضهم إنها أفضل من قصائد فيتزجرالد نفسه، الذي عرف بوصفه شاعراً من شعراء العصر الفكتوري.

لكن فيتزجيرالد الذي أنجز ترجمته في أواسط القرن التاسع عشر مارس النقد أولاً من خلال الانتقاء، مترجماً ما رآه مناسباً أو صالحاً للترجمة حسب رؤيته الشخصية. لكنه مارسه ثانية ولكن من زاوية غير أدبية أو نقدية، وإنما من زاوية متعالية، من زاويته بوصفه بريطانياً تستعمر بلاده أنحاء كثيرة من المعمورة، أي أنه نظر إلى العمل بوصفه وصياً عليه وهو البريطاني حامل الثقافة «الأرقى».

في رسالة كشف عنها بعد وفاة فيتزجيرالد بوقت طويل ذكر المترجم البريطاني لصديق له أنه أدخل تعديلات كثيرة على النص من منطلق أن الفرس ليسوا على مستوى عالٍ في نظم الشعر، وأن من واجبه بوصفه بريطانياً متحضراً أن «يحسّن» النص (أوردت نص كلامه الباحثة البريطانية سوزان باسنيت في كتاب لها حول الأدب المقارن).

إعادة بناء النصوص سواء من خلال التحرير أو الترجمة عمليةٌ نقدية بامتياز، ولنا أن نتذكر أن معظم الشعر العربي ما قبل الحديث أعيدت بناء مروياته في دواوين أو في مختارات لم يدر بخلد الشعراء أنها ستأخذ الشكل الذي أخذته لاحقاً، فقد كانت بالنسبة لمعظمهم قصائد ألقيت في مناسبات مختلفة ولم يجمعها أكثرهم، وبالذات في عصر ما قبل الإسلام.

كثير من الشعر الإنجليزي حتى عصر شكسبير على الأقل جاءنا بهذه الطريقة، من خلال المحررين ومؤرخي الأدب. وأشير في هذا السياق إلى سونيتات شكسبير كمثال تأثر بالتحرير الأدبي من خلال جمع قصائد لم يجمعها الشاعر نفسه. لكن فيما يتعلق بالترجمة اتضح ذلك في نماذج كثيرة منها ما آلت إليه السونيتات في الترجمات العربية وهي كثيرة، وإن لم تصل إلى ما وصلت إليه ترجمات الخيام، سواء كانت ترجمات جبرا إبراهيم جبرا، أو بدر توفيق، أو أخيراً محمد عناني. المقارنة بين هذه الترجمات أقنعتني مرة أخرى بأن الترجمة عمل نقدي بامتياز، سواء في اختيار ما يرى المترجم مناسبته أو إمكانية ترجمته أو في لغة الترجمة نفسها، وهي محك رئيس بالطبع للعملية النقدية، حيث تعاد صياغة الصور وتنتقى المفردات، كما يتضح، ليس من مقارنة الترجمات بعضها ببعض، وإنما من مقارنتها بالأصل.

محمد عناني هو الوحيد الذي ترجم السونيتات كاملة، لكن هذا لا يعني غياب المعالجة النقدية لا سيما أنه اختار ترجمتها إلى نصوص موزونة مقفاة. وقدرة المترجم لا ينبغي أن توهم القارئ بأنه بقراءة الترجمة يقرأ الأصل أو يقترب منه بصورة دقيقة أو أمينة. المترجم حاضر بانتقائه للمفردة والتركيب، بتفسيره للنص ابتداءً. الباحث الأميركي لورنس فينوتي بنى نظرية في الترجمة حول ما أسماه «اختفاء المترجم» أو ما فرض عليه من توارٍ غير عادل كما لو كان مجرد ناقل (وكتاب فينوتي أحد منجزات عناني في الترجمة). كثيرة هي النماذج التي تؤكد اشتباك الترجمة بالنقد، فقد كان من الممكن، مثلاً، التوقف عند ترجمة أحمد الصافي النجفي لرباعيات الخيام الذي يوضح في مقدمته لها كيف انتقى، وماذا لم يترجم، وكيف صاغ ما ترجم، إلى غير ذلك من مسائل تقع في صلب النظر النقدي في الأدب. لكن المقام لا يتسع لأكثر من هذا خشية الإطالة والإملال. الترجمة لون من ألوان التفسير، فالمترجم يسمى «مفسراً» بالإنجليزية interpreter وربما في لغات أخرى، وهي حقيقة لا جدال فيها


مقالات ذات صلة

السعودية واليونان ترسخان تبادلهما الثقافي

يوميات الشرق وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان مستقبلاً نظيرته اليونانية لينا مندوني في جدة (واس)

السعودية واليونان ترسخان تبادلهما الثقافي

ترأس وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، ونظيرته اليونانية لينا مندوني، الاجتماع الأول للجنة الثقافة المنبثقة من «مجلس الشراكة الاستراتيجية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق عمل الفنانة السعودية تارا الدغيثر استند إلى أساطير سومرية (الشرق الأوسط)

«مفكرة أبريل»: 3 أيام من الإنصات العميق لما تخفيه الذاكرة وتبوح به الأصوات

لا ترى «مفكرة أبريل» في بينالي الشارقة نقطة وصول، وإنما سبيل يتشعَّب إلى طرق وأساليب تُواصل التشكُّل والتطوُّر حتى بعد انتهاء الفعالية...

فاطمة عبد الله (الشارقة)
يوميات الشرق إعادة الإضاءة على الأعمال التي صنعت الذاكرة الثقافية العربية (صور مايا الحاج)

«عشرون»: في مواجهة الذاكرة المُهدَّدة والفراغ المُعلَّب

يَعبُر «عشرون» من مجرّد برنامج عن ترتيب الأعمال، إلى مشروع في قلب المعركة الثقافية. وهي معركة لا تُخاض بالسلاح، وإنما بالكلمة والذاكرة والاختيار.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق نداء مفتوح لمواجهة التكوينات والمواقف المتفاوتة (الشارقة للفنون)

«مفكرة أبريل»: لقاء الفنّ والحوار في نسيج تكوينات جديدة

بالإضافة إلى كونها حدثاً ثقافياً، تُشكل «مفكرة أبريل» دعوة مفتوحة لتكوين مقاربات جديدة نحو التبادل وبناء الشبكات المجتمعية، وإعادة تخيّل الهياكل الداعمة للحياة.

فاطمة عبد الله (الشارقة)
ثقافة وفنون «كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

يحفل تاريخ الشعرية العربية بهاجس الارتحال، فقد كانت الرحلة غرضاً رئيسياً ومركزياً من أغراض الشعر العربي، واحتلت الناقة رمزيتها في تراثنا الشعري بصفتها رفيقة.

عمر شهريار

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها
TT
20

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

يحوّل عاطف عبيد في مجموعته القصصية «راوتر شيخ البلد» فضاء قريته بشوارعها وأزقتها ومفارقات حياتها وبشرها إلى مادة خصبة للحكي، واصطياد القصص والحكايات، بل حفرها أحياناً من أبسط الأشياء ألفة وعادية. يعزز ذلك أن النزعة الحكائية لدي الراوي (الكاتب) تبدو تلقائية مفعمة بالبساطة، تنحاز للحكاية بما تقوله وتوحي به، وأيضاً بما لم تقله، أو تعبر عنه بشكل غير مباشر، حتى لوكان في شكل موقف إنساني خاطف، كما أنها قصص حريصة على القارئ، لا تشتته في متاهات سردية، لا بداية لها ولا نهاية؛ هي إذن كما يقول في تقديمه لها موجهاً خطابه للقارئ: «لا تبحث عن هذه القرية في خرائط (غوغل)، فكل الحكايات خرابيش مبعثرة على جدار روحي، لا تسأل عن طريقة ترتيبها في الكتاب، فلا توجد خرابيش مرتبة».

تضم المجموعة الصادرة حديثاً عن دار «بتانة» بالقاهرة 31 قصة قصيرة، تشكل فيما بينها حلماً دائماً بالمكان وظلاله القروية الحانية، ودرءاً للبس والشبهات يؤكد عبيد أن «كل القصص من خيال المؤلف»، غير أنه مع ذلك يمتلئ بغبارها ويلوذ بها كأنها بيته الأول الذي لا يفارقه طيلة حياته. بهذه الروح ابنة البداهة والفطرة يقدم شخوصه، يرسم ملامحها وصورها وأفعالها وأقوالها بواقعية شديدة، منحازاً للغته وخطابه القروي في مواجهة صلف المدينة وجهامتها وأقنعتها المصطنعة.

ومن ثم، تركز أغلب قصص المجموعة على عادات وطقوس القرية سواء في لحظات الفرح والدفء الحميمية، أو في لحظات الألم والحزن العابرة، ومنذ القصة الأولى «نظارة طبية» حتى الأخيرة من «يوميات موسى مهدي» يبدو صراع القرية مع فكرة التقدم مباغتاً، كأنه الزمن المسروق من الأنا، فالأب القاسي يحنو على طفله بعد أن يعرف بضعف نظره وحاجته لنظارة طبية، ويسامره ليلاً وهو يحكي له قصة سيدنا يوسف، بعد أسبوع يجمع الطفل بعض أطفال القرية، وتتحول المصطبة القابعة تحت شباك والده إلى مسرح صغير خاص «قلدت أبي في الحكاية، وغيرت نبرة صوتي، تضاعف عدد الصبية، كنت أعلم أنه يسمعني من وراء الشباك، وكنت أرفع صوتي حتى يصل إليه، حكيت القصة كاملة... وشرحت قصة زليخة ويوسف والنسوة والسكين، وصراع الملك ويعقوب الصابر، حتى فتح أبي الشباك وقال لي مبتسماً: ادخل نام علشان بكره حنعمل النضارة».

يشكل التوسل بالحكي في تقليد الأب، أو الكبار من أصحاب الخبرة بوجه عام، أحد الدوال المركزية في المجموعة، بخاصة في تناقل التراث شفاهياً والحفاظ على الموروث الثقافي والاجتماعي للقرية، مسقط رأس كاتب هذه السطور أيضا. كما أنها تعكس الحاجة الملحة في التعبير عن الذات، ولو بتقمص أصوات الآخرين وتقليدهم. مما يعني أن الحكي لا منطق محدداً له، إنما هو حالة مفتوحة بحيوية على الماضي والحاضر، على ما كان وما سوف يكون، هو ابن السذاجة والفطنة معاً، فعلبة سالمون «ماكريل» تصبح تهمة وموضعاً للحسد، وإدانة بالتهور لأحد الفلاحين، بعد أن كادت تودي بحياة قطة حشرت رأسها داخلها، وذلك في قصة «علبة صفيح» التي لا تتجاوز الصفحة الواحدة: «وبينما كانت تصرخ (القطة) بشدة كان كل من في الشارع يفكر: مين الفاجر اللي جاب علبة سالمون كبيرة؟».

تعكس رمزية العلبة مدى تردي الوضع الاجتماعي لدى الكثير من أهالي القرية، بينما تلعب السذاجة دور الترجمان الخفي لما يدور في أجواء القصص من مشاعر إنسانية تختلط فيها العاطفة المشبوبة بالحب، والمهمشة في طوايا الجسد والروح، بما تفرضه العادات والتقاليد من طرائق وأفكار يجب مراعاتها، والخوف من الغد المجهول، ووتيرته المتسارعة في عالم التكنولوجيا والإنترنت، حيث أصبح للقرية صفحة خاصة على «فيسبوك»، يعلن عنها الراوي في قصة بعنوان «ورد» لا تتجاوز بضعة أسطر قائلاً: «أول منشور على صفحة بلدنا على (فيسبوك) كان تهنئة بعيد الحب الفلانتاين... تعليقات كثيرة مع وضد... غير أن هناك تعليقاً لفت نظري من الحاج مسعد الغلبان كتب فيه: رغم كل الغيطان اللي في بلدنا، بس معندناش ولا مشتل ورد».

بهذا التعليق الأسيان تنفتح قصص المجموعة على براح التقدم وأمواجه المتسارعة، فها هو «عمي حافظ»، سمكري وخبير بوابير الجاز في البلد، يغادر المهنة بوجهه الراسبوتيني الواثق: «مع ظهور أول بوتاجاز في فرح عمتي شويكار في أوائل الثمانينيات اهتز عرش راسبوتين، حتى رأيت من أسبوعين حفيده ينقر بمفتاح فرنساوي على أنابيب الغاز في حواري القرية الحائرة».

لا تشعر القرية بالقلق أو الضجر مما يشي به المستقبل، بل كثيراً ما يعمها الفرح، بخاصة بعد أن اتسع عدد أعضاء صفحتها على «فيسبوك»، وأنهم يملكون حرية التعبير عن رؤاهم سواء مع أو ضد. يتجلى هذا المناخ في قصة «راوتر شيخ البلد» التي وسمت عنوان المجموعة، وهي من أطول القصص بها. فبعد موت عبد العزيز العيسوي الفلاح المميز في هيئته ولبسه، ويحكى أن جده كان شيخاً للبلد أيام الملك فاروق. حصد الخبر الحزين 600 تعليق في أقل من خمس دقائق على (فيسبوك)، لكن الأمر لا يسلم من الغمز واللمز على الرجل. يتم نقل العزاء في بث مباشر على صفحة البلد، وتغلق التعليقات. بعد العزاء اجتمع أولاد شيخ البلد السبعة، واتفقوا على أنهم في حاجة لعمل صدقة جارية ترحماً على روح والدهم، ثم قرروا تركيب راوتر سريع على باب دارهم، يقدم خدمة الإنترنت مجاناً، من دون كلمة سر، وبجواره يكتب على لوحة بلاستيكية «الفاتحة والدعاء لصاحب الراوتر المرحوم».

تزاحم الناس والتفوا حول الراوتر، وأصبح التجمع حول الدار بمثابة مولد، باعة جائلون نصبوا أدواتهم قرب المكان، حتى البيوت المجاورة بدأت تؤجر مصاطبها لمن أراد أن يجلس في حرم الراوتر، وتتوقف الأجرة على مدى قربها منه. لقد أنشأ الراوتر قرية أخرى موازية تعرف حقيقة ما يدور حولها في العالم، لكن الشجار ازداد بين أولاد شيخ البلد والناس حول سرعة الراوتر، وهددت ابنته بخلعه لأنهم أصبحوا لا يستطيعون النوم من كثرة الهرج والمرج والسهر حتى الصباح، يتدخل ضابط الشرطة ويكشف حقيقة الراوتر المجاني، وأنه مجرد حيلة لمعرفة أخبار البلد، قاموا بتركيبه ويدفعون تكاليفه بالاتفاق مع ابنه بناء على وصية المرحوم بأن«يظل ينقل إلينا أخبار البلد حتى بعد موته».

على هذا المنوال تجري قصص هذه المجموعة الممتعة... ثمة عين حكّاءة تختزل الأشياء وترى ما وراءها، في جدل حي ما بين الفطنة والإيهام بالسذاجة، قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها لا ينفصل فيها الموقف عن خطابه، المروي عنه، والمروى له معاً. التقطها عاطف عبيد بمهارة وصنع منها عالماً فنياً مليئاً بالدهشة والشجن.