«أدلجة التراث» ظاهرة ضخمة تشمل جميع أنحاء العالم الإسلامي

لم ينجُ منها إلا قلة قليلة من المثقفين النقديين التنويريين الأحرار

محمد عمارة
محمد عمارة
TT

«أدلجة التراث» ظاهرة ضخمة تشمل جميع أنحاء العالم الإسلامي

محمد عمارة
محمد عمارة

اطَّلعتُ باستمتاع كبير على كتاب المفكر العراقي المعروف الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بعنوان: «مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث»، وفيه يتحدث عن جملة من مشاهير الفكر العربي والإيراني، من أمثال: علي الوردي، وحسن حنفي، وداريوش شايغان، ومحمد عمارة، وجودت سعيد... إلخ. منذ البداية يعيب علينا المؤلف انشغال الفكر العربي كلياً بالفكر الغربي، وإهماله الفكر الشرقي في الهند واليابان والصين؛ بل وإهماله حتى الفكر الإيراني المعاصر والمجاور، ما عدا في الأربعين سنة الأخيرة. ولذلك يحاول سد النقص، والتحدث عن جملة من المفكرين العرب والإيرانيين على حد سواء.

ولكن الملاحظ هو أن حتى المثقفين الإيرانيين مهووسون بالفكر الغربي الأوروبي الأميركي، تماماً كما المثقفين العرب. والسبب هو أن الغرب سيطر على العالم طيلة القرون الأربعة الأخيرة، وبالتالي فجميع مثقفي الأمم الأخرى أصبحوا مضطرين للتموضع قياساً إلى الفكر الغربي غصباً عنهم. وهذا الكلام لا ينطبق على المثقفين العرب والإيرانيين فقط، وإنما ينطبق على جميع مثقفي العالم، من أتراك وروس وصينيين ويابانيين... إلخ. وذلك لأن الحداثة الغربية أصبحت ظاهرة كونية، وتشكل مرجعية كبرى لجميع مثقفي العالم. فمن لا يعرف ديكارت أو كانط أو هيغل أو نيتشه أو ماركس أو فرويد أو هيدغر، أو حتى هابرماس المعاصر لا يعد مثقفاً. هذه حقيقة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، إذا ما أردنا أن نفهم ما يجري حالياً؛ بل وحتى منذ مائتي سنة. وسوف يظل الأمر كذلك حتى يظهر فلاسفة كبار لدى الأمم الأخرى، في حجم من ذكرناهم من فلاسفة الغرب.

حسن حنفي

هل يوجد فيلسوف عربي أو إيراني أو تركي، أو حتى روسي أو صيني، في حجم ديكارت أو كانط أو هيغل... إلخ؟ هل يوجد هيغل تركي؟ أقصد مفكراً تركياً في حجم هيغل الألماني؟ هل يوجد كانط إيراني أو ديكارت عربي؟

على أي حال، الفصل الذي لفت اهتمامي في كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو ذلك المخصص للدكتور حسن حنفي، وكذلك الفصل المخصص للدكتور محمد عمارة. فلنحاول أن ندخل في التفاصيل قليلاً هنا. الشيء الغريب العجيب في الدكتور حسن حنفي هو أنه كتب عدة مقالات جريئة جداً في نقد الأصولية الظلامية، بعد مقتل الرئيس أنور السادات. ولكنه في الوقت ذاته كثيراً ما أثنى على جماعة «الإخوان المسلمين»؛ بل وحتى على مفكرهم الراديكالي سيد قطب الذي يصفه بالإمام الشهيد! فكيف يستقيم ذلك؟ كيف يعقل هذا التناقض؟ من أخطر الأشياء لدى حسن حنفي هو الجمع بين المتناقضات؛ أي بين الشيء وعكسه، دون أن يشعر بأي مشكلة. وهذا ما عابه عليه أيضاً، وبقسوة، جورج طرابيشي.

يلخص الدكتور عبد الجبار الرفاعي رأيه في حسن حنفي قائلاً: «لا يكترث حنفي كثيراً بالوظيفة المحورية للدين في إثراء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، وتكريس صلة الإنسان الوجودية بالله. ولكنه يشدد باستمرار على ضرورة تحويل الدين إلى آيديولوجيا».

ثم يضيف قائلاً هذا الكلام المهم: «من يقرأ حسن حنفي يندهش من الحضور الطاغي لتأويله الآيديولوجي للدين، وإفراطه في تطبيق آيات القرآن الكريم والنصوص الدينية والتراث بمنطق آيديولوجي على الواقع».

ولكن كل حركات الإسلام السياسي -أو المسيس- قامت بأدلجة الدين والتراث. وهذا ما عابه الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان على الخميني والثورة الخمينية. وبالتالي فليس غريباً أن يسقط حسن حنفي في الخطأ ذاته. نقول ذلك، وبخاصة أنه كان من جماعة «الإخوان المسلمين» في بداياته. ونحن نعرف مدى ارتباط الثورة الإسلامية الإيرانية بجماعة «الإخوان المسلمين» المصرية. فالمرشد علي خامنئي هو مترجم سيد قطب إلى الفارسية. وبعد اغتيال الرئيس السادات، أصدرت إيران طابعاً لتخليد خالد الإسلامبولي، وعليه صورته المرعبة. وبالتالي فأدلجة التراث ظاهرة ضخمة تشمل جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولم ينجُ منها إلا قلة قليلة من المثقفين النقديين التنويريين الأحرار.

إنهم لا يقرأون التراث لكي يفهموه ضمن ظروفه وحيثياته ومشروطياته القديمة، كما يفعل محمد أركون مثلاً، وإنما يقرأونه لكي يسقطوا عليه هموم الحاضر وقضاياه، أو لكي يسقطوه عليها. إنهم يستغلونه آيديولوجياً لكي يخلعوا المشروعية الدينية القداسية على أحزابهم السياسية، ولكي ينسفوا مشروعية الأنظمة القائمة باعتبارها خارجة على الدين والشريعة في رأيهم. وبما أن جماهير الشعب متدينة جداً، وبما أنهم يعرفون ذلك، فإنهم برعوا في أدلجة الدين واستخدامه كسلاح فعال وفتاك لتحقيق مآربهم.

وهنا نلاحظ الشيء الغريب التالي، وهو أن حسن حنفي الذي قدَّم نفسه كمثقف حداثي تنويري، هو في الواقع من أشد المدافعين عن «الإخوان المسلمين». ولكن لا ينبغي أن نظلمه أكثر من اللزوم. فهو يبقى حداثياً وتنويرياً، والدليل على ذلك أنه يعترف صراحة أو ضمناً بأن رؤية «الإخوان» للعالم مغلقة أو منغلقة، ويعيب عليهم النزعة الحادة المتطرفة في تفكيرهم. ويستنكر تصنيفهم الخاطئ للمجتمع المسلم إلى إسلام وجاهلية. وهنا تكمن الخطيئة الكبرى لسيد قطب.

ولكن حسن حنفي -كما يقول عبد الجبار الرفاعي- سرعان ما يعود في كتابات عديدة إلى تبجيلهم، ويفتعل دوراً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً استثنائياً اضطلعوا به في مصر. فكيف يمكن أن نفسر كل هذه التناقضات؟ هل يريد الرجل أن يجمع بين الماء والنار في يد واحدة؟ هل يريد أن يرضي جميع الناس؟ أم هل يريد أن يثبت أنه حداثي وتراثي في الوقت ذاته؟ ربما كان هذا الحل الأخير هو الأمثل لتفسير شخصية حسن حنفي. فهو لا يستطيع أن يقدم نفسه كمثقف حداثي تنويري تخرَّج في «السوربون» إذا ما اكتفى بكونه من مداح «الإخوان المسلمين»، ولا يستطيع أن يرضي الشارع العربي الأصولي إلا إذا أثبت أنه «إخوان مسلمين»! هنا تكمن مشكلة حسن حنفي. ولذلك فإنه راح يلعب على الحبال. وفي نهاية المطاف خسر الدنيا والآخرة. فلا مثقفو الحداثة يعدونه جزءاً أصيلاً منهم، ولا مثقفو القدامة يعدونه متديناً فعلاً.

كان ينبغي على حسن حنفي أن يحسم أمره: إما من معسكر التنوير والتقدم، وإما من معسكر الرجعية والتأخر. ولكنه أراد أن يلعب على كل الحبال، ويربح على كل الجهات. ولكن هذه ليست مشكلته وحده، وإنما مشكلة كثير من المثقفين العرب، بمن فيهم المقيمون في عواصم الغرب الكبرى، كباريس ولندن وبروكسل وواشنطن... إلخ. هم أيضاً يخجلون من كونهم متعاطفين في أعماقهم مع التنظيمات الإخوانية الأصولية، ولذلك يحرصون كل الحرص على أن يظهروا بمظهر المثقفين الحداثيين العصريين.

الشيء ذاته يمكن أن يقال عن محمد عمارة، الذي خصص له عبد الجبار الرفاعي فصلاً كاملاً بعنوان موفق يلخص مسيرته كلها: «محمد عمارة من الماركسية إلى السلفية». منذ بداية الفصل يقول المؤلف هذا الكلام البليغ: «لأننا محكومون بالتراث وقيمه وأحكامه، ترسخت لدينا تقاليد الاحتفاء المبالغ به بالأموات، والإفراط في الثناء على آثارهم، والإعلاء من قيمة منجزهم، وتجاهل ما أنتجته هذه الآثار من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة في حياتهم وبعد وفاتهم».

التعلق الأعمى بالأسلاف تخلَّى عنه اليابانيون كلياً... ولذلك نجحت انطلاقتهم الحضارية وانتصر تنويرهم

هذا المقطع النقدي العميق مهم جداً؛ لأنه يحذِّرنا من الانبطاح أمام القدماء. فهم ليسوا معصومين لمجرد أنهم من الأسلاف والآباء والأجداد. ينبغي أن ننظر إليهم نظرة تاريخية. ينبغي أن نموضعهم ضمن مشروطيات عصرهم القديم الذي لم تعد له علاقة بعصرنا. فمعارفهم وحاجياتهم لم تعد لها علاقة بمعارفنا وحاجياتنا.

هذا التعلق الأعمى بالأسلاف تخلى عنه اليابانيون كلياً، ولذلك نجحت انطلاقتهم الحضارية، وانتصر تنويرهم، كما ذكرنا في مقال سابق.

أخيراً، يقول عبد الجبار الرفاعي عن محمد عمارة هذا الكلام الصائب والدقيق: «لم ينتبه من كتبوا عن محمد عمارة لتحولاته ورحلته الفكرية الطويلة من الماركسية إلى السلفية، ومحطاته الاعتقادية المتعددة، وكيف أضحت آثاره المتأخرة تنقض كتاباته المبكرة. نقرأ كتابات تصنفه على أنه مفكر تنويري وعقلاني ومجدد، وأحد رواد النهضة، وغير ذلك من توصيفات لا ينطبق أي توصيف منها على محطته الاعتقادية الأخيرة».

لا تعليق. الكلام واضح جداً. فقط نطرح هذا السؤال، وبه نختتم: كيف يمكن لمفكر يحترم نفسه أن يلتحق بالحركات الإخوانية الظلامية ويدافع عنها بشراسة، بعد أن كان قد أمضى جُل عمره الأول في الدفاع عن قيم العقلانية والتقدم والحداثة؟


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق
TT

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

صدر حديثاَ للباحث د. هاشم نعمة فياض، كتاب بعنوان «موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق»، عن دار أهوار للنشر والتوزيع في بغداد، وهو يقع في 224 صفحة.

ويضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي مع التركيز على حالة العراق. ويعالج الكتاب قضايا مثل نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك يتناول الكتابات الماركسية الجديدة والنمو الحضري في البلدان النامية، اللاجئون العراقيون في أوروبا: تحليل مقارن، اتجاهات الهجرة الطلابية من البلدان العربية وتحولاتها، تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة، العلاقة بين الخصوبة السكانية ومكانة المرأة في المجتمع، العراق مثالاً، وجفاف الدلتا في العراق وآثاره.

ومن المواضيع الأخرى صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها، والعلاقة بين الديمقراطية والتنمية، والتعافي الاقتصادي بعد الجائحة، وعصر التنوير والجغرافيا، والجغرافيا والثقافة، وغيرها.

ويقول المؤلف إن هذه الموضوعات كُتبت أو تُرجمت في أوقات مختلفة، وارتأى جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول الباحثين والقراء عموماً.

يركز الباحث على تحليل تطور نمو سكان الحضر في العراق زمانياً ومكانياً، ويمهد لذلك بخلفية نظرية تخص التحضر الهامشي وعلاقته بتوسع النظام الرأسمالي، ويتناول توزيع سكان الحضر على مستوى المحافظات، ويحلل مكونات النمو الحضري خصوصاً الهجرة الريفية - الحضرية إلى المدن الكبيرة مثل بغداد، ومدى مساهمتها في تضخم عدد سكانها، ويدرس الهجرة القسرية، ويتوقف عند التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن نمو سكان الحضر وما أفرزته من مشكلات كبيرة على مستوى أزمة السكن، خصوصاً السكن العشوائي والفقر والبطالة، ومساهمة ذلك بعد عام 2003 في تغذية الموقف السلبي من قبل الشباب تجاه الأحزاب الدينية والسياسية الحاكمة، وعلاقة ذلك باندلاع «انتفاضة تشرين 2019»، كما يعالج إشكالية هيمنة المدن الكبيرة على الشبكة الحضرية ونتائجها.

وبالنسبة إلى هجرة العراقيين يذكر الباحث أن هناك كثيراً من الأسباب المتشابكة التي تقف وراء موجات هجرة العراقيين القسرية في مراحل مختلفة من تاريخ العراق. ولعل أبرز الأسباب يكمن في فشل الدولة العراقية الحديثة والخلل في بناء الدولة - الأمة، وعدم الاستقرار السياسي نتيجة تعاقب الأنظمة المستبدة الفاقدة للشرعية التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وإقامة نظام الحزب الواحد المتمثل في حزب البعث وانتهاجه سياسات القمع السياسي والفكري والتبعيث القسري والتمييز القومي والديني والمذهبي والمناطقي، والحروب الداخلية والخارجية التي ساهم هذا النظام في اندلاعها، وكذلك احتلال العراق في عام 2003 وما تبعه من تفكك مؤسسات الدولة وإقامة نظام يتبنى المحاصصة الطائفية والإثنية، وشيوع ظاهرة الإرهاب والفساد وارتفاع معدلات البطالة وتدني الخدمات الأساسية، مما دفع آلاف العراقيين وخصوصاً الشباب، إلى طلب اللجوء لأوروبا خاصة.