يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر
TT

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يكشف كتاب «بوادر التجديد في شعرنا المعاصر»، للدكتور يوسف بكار، عن جوانب تجديدية في المضمون الشعري وتشكيلاته الفنية، متناولاً قصيدتين لخليل مطران وإبراهيم طوقان نموذجاً لذلك.

وجاء الكتاب، الصادر في طبعته الثانية عن «الآن... ناشرون وموزعون»، في 3 أقسام؛ تناول الأول قصيدة «الجنين الشهيد» لخليل مطران التي نُشرت أول مرة عام 1905 في مجلة «الهلال»، ثم نُشرت في ديوانه الذي أصدره عام 1908.

ويذكر بكار قصة هذه القصيدة؛ إذ نظمها الشاعر وهو يتمشى وفي يده ورقة يدوّن فيها خواطره، وما إن وصل إلى مبتغاه حتى كان قد أتمّ نظمها، ولكن دون تشطير، وهنا خطر له أن القافية لا تَسَعُ المعاني ولا تؤدي الفكرة التي يريدها، واستصعب أن ينظمها من جديد، فعاد أدراجه، وما أتمّ ليلته إلا وقد فرغ منها.

ويشير بكار إلى أن هذه القصيدة قد تكون من «الشرارات العصرية الأولى التي تطايرت عن قدح زناد القضية الفنية التي أضحت فيما بعد خلافية، وهي: الوزن الواحد والقافية الواحدة وآثارهما السلبية على طول القصيدة».

ويؤكد الباحث أن هذه القصيدة مثال واضح على الواقعية الاجتماعية؛ لأنها جرت في القاهرة وشهد الشاعر مجرياتها بنفسه، ومضمونها أن فتاة غريبة قدمت إلى المدينة لفقرها، وسوّل لها والدها العمل في مكان وضيع، فتتعرض هناك للإساءة.

ويرى بكار أن هذه القصيدة تجلت فيها الوحدة العضوية القائمة على تسلسل المشاهد وانسجامها مع هدف القصيدة العام وعاطفتها المركزية، وكذلك مع تطور الأحداث والإيحاء والصور الجزئية التي تتحرك في مدى الصورة الكلية الكبرى.

ويتناول القسم الثاني من الكتاب قصيدةَ «مصرع بلبل» لإبراهيم طوقان، وهي، وفق الباحث، تكاد تكون القصيدة الوحيدة في ديوان طوقان التي تعالج داءً اجتماعياً ينتهي بصاحبه إلى الإفلاس في المال أو الصحة. ويقول بكار إن القصيدة تعدّ بذلك وجهاً من وجوه الواقعية الاجتماعية؛ لأنها تمثل جانباً من سيرة الشاعر الذاتية خلال مدة إقامته في بيروت مدرساً بالجامعة الأميركية، التي كان قد تخرج فيها عام 1929، وكان هناك فرق كبير بين بيروت التي أقام فيها طالباً ثم مدرساً، وبين نابلس؛ قريته الكبيرة آنذاك، ففي حين كانت بيروت مفتوحة على كل شيء، كانت نابلس حصناً منيعاً للتقاليد والعادات الاجتماعية العربية الموروثة.

أما مضمون القصيدة، فجاء «مبنياً على رمزية تُمثل الواقع في المدن الكبرى حين يدخل غمارها الشاب القادم من قرية صغيرة... هذه الحياة الصاخبة تخلب ذلك الشاب بزخرفها وفنونها؛ تجتذبه فيرتمي بين أحضانها، ثم تسفر هذه الحياة عن وجه كالح وتنقشع نشوتها عن صحوٍ مضى أوانه، فإذا هناك الإفلاس في المال والصحة والمستقبل».

ويوضح بكار أن «البطل» في قصيدة طوقان هو المرأة، و«الضحية» هو الرجل، في حين أن المرأة كانت في قصيدة «الجنين الشهيد» لخليل مطران هي «البطل والضحية» في آن.

ويرى بكار أن الذروتين الأولى والثانية في قصيدة طوقان «من الذرى المتعاقبة زمنياً، وهما ذروة الحب وذروة الشهوة، وهناك ذروة ثالثة هي ذروة المشكلة الوطنية، وذروة رابعة في الشكل والمضمون، تعتمد التوزيع الدرامي خارج نطاق الغنائية في الشكل، وتعمّق نظرة كونية في المقالات الكبرى من الحياة في المضمون».

ويشير بكار إلى أن «البناء الفني في هيكل القصيدة لم يكن عادياً يعتمد الوزن الواحد والروي الواحد من مطلع القصيدة إلى مقطعها؛ لأنه بناها بناءً آخر على غير بحرٍ وعلى غير قافية، مستفيداً من تجديدات الوشاحين الشكلية في عروض القصيدة القديمة».

واشتمل الكتاب على قسم ثالث ضم مقالات متصلة بموضوعه؛ هي: «التجديد في الشعر» لخليل مطران، و«سخافات الشعر العربي» لإبراهيم طوقان، ومقالان عن الطبعة الأولى من الكتاب للدكتور إبراهيم خليل ومحمد المشايخ.

ويوسف بكّار باحث وأكاديمي أردني، وحائز «جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» عن مجموعة أعمال في الترجمة عن الفارسية.


مقالات ذات صلة

كاثرين ستوكيت... امرأة بيضاء تتحدث بصوت امرأة سوداء

ثقافة وفنون كاثرين ستوكيت

كاثرين ستوكيت... امرأة بيضاء تتحدث بصوت امرأة سوداء

بعد 15 عاماً من صدور روايتها الناجحة «المساعدة» التي أثارت الكثير من النقاش والنقد بسبب تصويرها حياة الخادمات السود في الجنوب

ألكسندرا أولتر
ثقافة وفنون «الحيوان في القرآن الكريم»... دراسة في علم الدلالة

«الحيوان في القرآن الكريم»... دراسة في علم الدلالة

عن دار «البشير»، صدر كتاب «الحيوان في القرآن الكريم - دراسة دلالية» للباحث د. محمد حمدي درويش الذي يستعرض جانباً مهماً ولافتاً من جوانب الإعجاز البلاغي

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون رواية تونسية عن «الهرب المستمر من القدر»

رواية تونسية عن «الهرب المستمر من القدر»

صدر حديثاً عن «دار نوفل / هاشيت أنطوان» رواية «رأس أنجلة» للكاتبة التونسية إيناس العباسي، وفيها تروي حكاية شقيقتين تونسيتين تهاجران لأسباب مختلفة

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون تأملات في العالم الأدبي لعبد الفتاح كيليطو

تأملات في العالم الأدبي لعبد الفتاح كيليطو

يتأمّل الكاتب والناقد المغربيّ صدّوق نور الدين العالَمَ الأدبيّ لعبد الفتاح كيليطو، الكاتب والروائيّ المغربيّ المعروف من خلال كتاب صدوق الجديد «القارئ والتأويل»

«الشرق الأوسط» (عمّان)
كتب إيمانويل تود

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً.

سوسن الأبطح

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر
TT

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر

لطالما حظيت روايات الكاتبة الأسترالية هيلين غارنر بتقدير كبير من الأشخاص الذين أثق بذوقهم. ومع ذلك، عندما كنت أبدأ بقراءة رواياتها كنت أرتد عنها مثل مركبة فضائية أخطأت في العودة إلى الغلاف الجوي للأرض. لا بد أن يكون لكل قارئ كاتب أو اثنان من هذا القبيل، كاتب أو اثنان يشعر بأنه يجب أن يُعجب بهما لكنهما لا يكونان كذلك أبداً. بدت أعمال غارنر، في قراءاتي الموجزة ركيكةً، ركيكة وتفتقر إلى الصقل.

والآن يأتي كتاب «كيف تُنهي قصة»، وهو كتاب بوزن ثقيل للغاية يجمع 3 مجلدات من مذكراتها اليومية من 1978 إلى 1998، بدءاً من منتصف الثلاثينات من عمرها. يقع هذا الكتاب في أكثر من 800 صفحة، وهو يضم كثيراً من مذكرات غارنر اليومية (دون صلة مباشرة). كدتُ أضع هذا الكتاب جانباً أيضاً لأنه يبدأ بداية مرتجلة ومترددة.

نقاد الكتب، مثل العاملين في مجال النشر، يبحثون دائماً عن عذر للتوقف عن القراءة. لكن بعد فترة من الوقت بدأتُ في الانسجام مع صوتها. وبحلول ربع الطريق، كنتُ غارقاً بين يديها تماماً. ويا لخطئي الفادح!

هذا الكتاب موجه إلى الانطوائيين، الحذرين والمتشائمين، غير المتيقنين من مظهرهم أو ذوقهم أو موهبتهم أو مكانتهم الطبقية. تمتلك غارنر صوتاً مثالياً للتعبير عن مخاضات القلق والضيق في وقت متأخر من الليل، بعضها أكثر هزلية من البعض الآخر. أسلوبها في النثر واضح وصادق ومقتصد؛ إما أن تقبله أو ترفضه، على الطريقة الأسترالية.

وهي في سردها من النوع الذي قد يُخطئ الناس في اعتبارها أحد العاملين في مهرجانات الكتاب. يتوجَّه الناس إليها على نحو مفاجئ ويسألونها: «ما الخطب؟» (وهذا أمر أكرهه بصورة خاصة أيضاً). وهي تخشى على آداب المائدة. يقول لها المصورون أشياء مثل: «إن هيئة وجهك ليست هي الأفضل».

إذا سبق لك أن نظرت إلى صورة فوتوغرافية لنفسك وشعرت بالذهول من قبح مظهرك، حسناً، إن غارنر هي صاحبة السبق في هذه التجربة:

* لقد عرضت عليّ بعض الصور التي التقطها لي العام الماضي وصُدمت من قبح مظهري: بشرة مرقطة، ووجه مجعد، وقَصة شعر قبيحة، وتعابير داكنة. أعني أنني صُدمت للغاية. وذعرت من احتمال أن أكون بمفردي الآن لبقية حياتي.

يمتد إحساسها بعدم الجدارة إلى كتاباتها الخاصة. تقول: «أنا مجرد حرفية ذات مستوى متوسط». و«الحزن ليست كلمة قوية للغاية لما يشعر به المرء أمام ضعفه وتواضعه». إنها تحارب مستويات من «متلازمة المحتال» من الدرجة الفائقة للغاية.

احتفظ الكُتّاب بمذكرات لأسباب لا تُعد ولا تُحصى. تمنت آناييس نين أن تتذوق الحياة مرتين. وكانت باتريشيا هايسميث تتوق إلى توضيح «الأمور التي قد تهاجم ذهني وتحتل مُخيلتي». كما أرادت آن فرنك أن تستمر في الحياة بعد موتها. وشعرت شيلا هيتي بأنها إذا لم تنظر إلى حياتها من كثب فإنها تتخلى عن مهمة بالغة الأهمية.

تلك هي غرائز غارنر أيضاً. لكنها تقول أيضاً وبكل افتتان: «لماذا أكتب هذه الأشياء؟ جزئياً من أجل متعة رؤية القلم الذهبي يتدحرج على الورق كما كان يفعل عندما كنت في العاشرة من عمري». كانت هذه الكتابة تخدم غرضاً أكثر جدية. إذ قالت غارنر ذات مرة لمجلة «باريس ريفيو»: «المذكرات اليومية هي الطريقة التي حوَّلتُ بها نفسي إلى كاتبة - تلك هي الـ10 آلاف ساعة خاصتي».

تتألق تفاصيل حياتها اليومية دوماً في هذا الكتاب - النباتات المزروعة في الأصص التي تنمو إلى جانبها، ورحلات التسوق («كيمارت، ومنبع كل الخير»)، وحفلات العشاء، وغسل ملابسها الخاصة في دلو، وإزالة فضلات الكلب، وإصلاح التنورة، والذهاب إلى السينما، والاحتفاظ بنسخة من كتاب «الفردوس المفقود» في الحمام الخارجي. تعيش أحياناً في شقق صغيرة في المدينة، وأحياناً أخرى في منزل ريفي حيث ترى الكوالا، والكنغر، والنسور، والكوكابورا.

هذا هو تقريرها عن إحدى وجبات تناول العشاء في الخارج: «في منزل الهيبيز لتناول العشاء، وجدت في شريحة الكيشي التي أتناولها عنصرين غريبين: عود ثقاب مستعمل وشعر. أخفيتهما تحت ورقة الخس وواصلنا الحديث».

حديثها الأدبي يتسم بالحماسة والبراعة: «تظل العاطفية تتطلع من فوق كتفها لترى كيف تتقبل الأمر. لكن (الانفعال)، على الرغم من ذلك، لا يهتم سواء كان أحد ينظر إليه أم لا».

إنها تقيّم منطقة الانفجار حول بعض الأمور المملة. عن عشاء مع أكاديميين، تكتب قائلة: «أعفوني من افتراض كبار السن الهادئ بأن أي شيء يقولونه مهما كان مملاً أو بطيئاً أو رتيباً يستحق أن يُقرأ وسوف يحظى بجمهور».

لا يحتاج هذا الكتاب إلى جرعة من الدراما، ولكن الجرعة تأتي لا محالة. بعد زيجتين فاشلتين، تدخل غارنر في علاقة مع كاتب صعب المراس ومتزوج، تدعوه باسم «ڨي». (إنه الروائي موراي بايل). وفي نهاية الأمر يتزوجان، وتزاحم احتياجاته احتياجاتها فتغلبها. ثم تشرع في الشعور وكأنها دخيلة في شقتها الخاصة. فهو الذي تحق له الكتابة هناك، بينما يجب عليها الذهاب إلى مكان آخر للعمل. إنه يغار من أي نجاح تحرزه بنفسها. فأيهما هو المضيف وأيهما الطفيلي؟

يبدأ الزوج علاقة غرامية مع امرأة أخرى، وهي رسامة، ويراوغ ويكذب. تتظاهر غارنر، لأشهُر، بأنها لا تلاحظ ذلك. وتتشبث به لفترة أطول مما تتصور. ويصبح الأمر مروعاً. فعلاقتهما صارت الوعاء الذي تتكسر فيه عظامها حتى تستحيل إلى عجينة. وتكتب فتقول: «للمرة الأولى، بدأت أفهم نفسية النساء اللاتي يبقين مع رجال يضربونهن باستمرار».

العمل هو خلاصها وجسرها إلى العالم. خطتي هي أن أعود إلى كتبها الأخرى، وأن أخوض فيها هذه المرة لما هو أبعد من حجم كاحلي.

*خدمة «نيويورك تايمز»