اقترح رئيس أساقفة الجزائر، الكاردينال جان بول فاسكو، على السلطات الفرنسية، إعلان «اعتراف كامل بجرائم الاستعمار في الجزائر»، بوصفه مدخلاً لعودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها، ولإزالة التوترات الدبلوماسية الحادة التي تشهدها حالياً؛ بينما توقّع مراقبون إمكانية تخفيف عقوبة السجن بحق صحافي فرنسي متهم بالإرهاب، على خلفية ما وصفوه بمؤشرات إيجابية تدل على انفراج محتمل في الأزمة.
وصرَّح رجل الدين المسيحي الكاثوليكي لصحيفة «آفاق» الحكومية الجزائرية التي تصدر باللغة الفرنسية، بأن سبب المشكلات التي تحول دون علاقات عادية بين فرنسا ومستعمرتها القديمة «يتمثل في عدم اعتراف الفرنسيين بماضيهم الاستعماري في الجزائر»، في إشارة إلى إنكار جريمة الاحتلال الذي دام 132 سنة، ورفض تحمُّل مسؤولية الجرائم التي ارتُكبت.
وأكد فاسكو أن «كل استعمار هو عنف، هو اغتصاب لشعب. والمأساة تكمن في أن هذا العنف لم يُعترف به بالكامل. هذا الصمت هو ما يُبقي التوترات بين الجزائر وفرنسا حية حتى اليوم». وقال: «يجب أن نجرؤ على تحقيق مصالحة الذاكرتين، ليس من أجل الاتهام؛ بل لتحرير الأجيال القادمة».

عقبات في طريق «مصالحة الذاكرتين»
وطُرحت فكرة «مصالحة الذاكرتين» أو «سلام الذاكرتين»، في 2017، إثر وصول إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة في فرنسا. وتم تداولها عندما زار الجزائر مرشحاً للرئاسة عشية الانتخابات، ثم رئيساً في 2022؛ حيث أكد أنه لا يجد أي حرج في كسر التابوهات (المحظورات) المرتبطة بالاستعمار ورواسبه، بعكس الرؤساء الذين سبقوه، على أساس أنه لا ينتمي إلى الجيل الذي له صلة بهذه القضية. ولكنه مع الوقت واجه صعوبات في تخطي عقبات كثيرة، من بينها إصرار الجزائريين على أن يُعلن إدانة صريحة للاستعمار الفرنسي، يتبعها بتقديم اعتذار للجزائر، في مقابل رفض قاطع من الطيف السياسي الفرنسي بكل مشاربه؛ خصوصاً اليمين التقليدي واليمين المتطرف، لإقدامه على هذه الخطوة الجريئة.
وحسب كبير أساقفة الجزائر: «حان الوقت لنتعرف بعضنا على بعض، ونسعى لبناء أخوَّة حقيقية. هذه ليست مجرد كلمات رجل دين؛ بل كلمات إنسان متمسك بالحقيقة وبالصداقة بين الشعوب... أقول ذلك عن اقتناع».
وأشار جان بول فاسكو إلى أن هناك في الجزائر «جرحَ ذاكرة عميقاً مرتبطاً بالتاريخ الاستعماري»، موضحاً أن «هذه الذاكرة لم تُشفَ بعد. بعد أن عشت هنا أكثر من عشرين عاماً، أشعر بهذا الألم: إنه ليس مجرد ألم تاريخي؛ بل ألم شخصي ووجداني».
وتحفَّظ الكاردينال عن الخوض في تفاصيل اللقاء الذي جمعه بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في 22 سبتمبر (أيلول) الماضي، مكتفياً بالقول: «كان لقاء أخوياً، وعلامة على الثقة. ولهذا لم أدلِ بأي تصريح علني احتراماً لطبيعة هذا اللقاء».
ويأتي نداء الكاردينال فاسكو لمعالجة «آلام الذاكرة» في وقت تتعالى في فرنسا أصوات متزايدة، ترفض أي اعتراف رسمي بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر بين عامي 1830 و1962.
وكان آخر من عبَّر عن معارضته لمثل هذه الخطوة، وزير النقل فيليب تابارو، نجل أحد قادة «منظمة الجيش السري» التي نفَّذت اعتداءات وتفجيرات في الجزائر وفي فرنسا، عقب الإعلان عن استفتاء تقرير المصير الذي مهَّد للاستقلال في 5 يوليو (تموز) 1962؛ إذ قال يوم الجمعة الماضي على قناة «سي نيوز» المقرَّبة من اليمين المتشدد: «لا يجب أن نعتذر؛ لا عن الماضي ولا عن الحاضر». ويعكس تصريح تابارو معارضة قطاع من الأوساط السياسية الفرنسية لأي مصالحة أو اعتراف بالجرائم الاستعمارية في الجزائر.
مؤشرات إيجابية
وتمرُّ العلاقات بين البلدين، منذ صيف 2024، بأسوأ مرحلة منذ الاستقلال، وتحديداً عندما أعلن «الإليزيه» اعترافه بمغربية الصحراء. فقد كان هذا الموقف سبباً في تجميد العلاقات، وإثارة ملفات قديمة متعلقة بالاستعمار و«الذاكرة» وأوضاع المهاجرين الجزائريين في فرنسا (نحو 5 ملايين)، و«اتفاق 1968» الذي يضبط مسائل الإقامة والدراسة والتجارة و«لم الشمل العائلي» بالنسبة للجزائريين في فرنسا.

وفي سياق متصل، أعلن محامي الصحافي الرياضي الفرنسي، كريستوف غليز الذي حُكم عليه في الدرجة الأولى بالسجن لمدة 7 سنوات في الجزائر، بحسابه على «فيسبوك»، أن جلسة استئنافه ستُعقد في 3 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بمحكمة تيزي وزو (110 كيلومترات شرق العاصمة).
وحُكم على غليز (36 عاماً) الذي تعاون مع مجلتَي «سو فوت» و«سوسايتي» الفرنسيتين، في 29 يونيو (حزيران) بالسجن، بتهم تشمل «تمجيد الإرهاب» و«حيازة منشورات بهدف الدعاية التي تضر بالمصلحة الوطنية».
وتتهمه السلطات الجزائرية بأنه كان على اتصال بأحد مسؤولي نادي الشباب الرياضي القبائلي لكرة القدم الذي يشغل أيضاً منصب مسؤول في «حركة الحكم الذاتي في القبائل»، المصنَّفة كمنظمة إرهابية.
ويتوقع محامون وحقوقيون تخفيف الحكم في الدرجة الثانية، أو استفادة الصحافي من البراءة، كخطوة إيجابية مفترضة من طرف القضاء الجزائري؛ خصوصاً أن دلالات مشجعة بعثت بها السلطات الفرنسية منذ أيام؛ حيث صرَّح وزير الداخلية الجديد لوران نونييز بأن باريس «بحاجة إلى استئناف التعاون الأمني مع الجزائر» الذي تأثر بالأزمة السياسية، عادّاً أن هذا التعاون «يساعدنا على إحباط أعمال إرهابية محتملة في فرنسا».




