الجزائر في 2023... تقارب مع الشرق خارجياً وتحسين المعيشة داخلياً

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وقائد الجيش سعيد شنقريحة يعطيان إشارة انطلاق مشروع محطة القطار في الجلفة (رئاسة الجمهورية)
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وقائد الجيش سعيد شنقريحة يعطيان إشارة انطلاق مشروع محطة القطار في الجلفة (رئاسة الجمهورية)
TT

الجزائر في 2023... تقارب مع الشرق خارجياً وتحسين المعيشة داخلياً

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وقائد الجيش سعيد شنقريحة يعطيان إشارة انطلاق مشروع محطة القطار في الجلفة (رئاسة الجمهورية)
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وقائد الجيش سعيد شنقريحة يعطيان إشارة انطلاق مشروع محطة القطار في الجلفة (رئاسة الجمهورية)

في حين كان توجيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبَون بوصلة التعاون الخارجي لبلاده نحو الشرق، بزيارتين مهمتين إلى روسيا والصين، فإن الحدث الأبرز على الصعيد الدولي بالنسبة إلى الجزائر عام 2023 كان تميُّز الوضع الداخلي بتحسن لافت لاحتياطي العملة الصعبة، الأمر الذي سمح للحكومة باتخاذ قرار برفع أجور 2.8 مليون عامل، يبدأ تنفيذه مطلع العام الجديد. وفيما كان منتظراً أن يزور تبون فرنسا في مايو (أيار)، فاجأ المراقبين بزيارة إلى موسكو، الحليف السياسي التقليدي للجزائر، في يونيو (حزيران)، مبدياً ضمناً دعمه للرئيس فلاديمير بوتين في المواجهة مع الغرب، بسبب الحرب التي يشنها على أوكرانيا. وقد أكدت الجزائر، رسمياً، أنها لا تدين العملية العسكرية الروسية ولا تؤيدها، وأن موقفها هو «عدم الانحياز لأي طرف».

توسيع الشراكة مع روسيا

ومن روسيا، صرّح تبون بأن شعب الجزائر «حر وسيبقى حراً»، وذلك عندما سُئل عن «ضغوط» غربية مفترضة تتعرض لها الجزائر بسبب «تقاربها مع موسكو»، من خلال تكثيف تعاونها معها، خصوصاً طلبها المزداد على شراء السلاح الروسي. وكان أعضاء في الكونغرس الأميركي قد طالبوا وزير الخارجية أنتوني بلينكن في عام 2022 بإنزال عقوبات ضد الجزائر، بذريعة «وجود مخاطر من زيادة لافتة لمشترياتها من السلاح الروسي»، ولأن هناك صفقة سلاح بين البلدين يجري التفاوض حولها بقيمة 7 مليارات دولار.

الرئيس تبون خلال زيارته روسيا ولقاء الرئيس بوتين في الكرملين 17 يونيو 2023 (الرئاسة الجزائرية)

ومن أهم ما أسفرت عنه الزيارة الروسية تعديل «اتفاق الشراكة الاستراتيجية» الذي يضبط إطار التعاون الثنائي منذ أكثر من 20 سنة، وذلك بتوسيع القطاعات المعنية بالشراكة، لتشمل المجالات العلمية والاقتصادية والتجارية، بما في ذلك الميدان العسكري، علماً بأن الجزائر تعد ثاني شريك تجاري لروسيا في القارة الأفريقية، وذلك بحجم مبادلات قارب 3 مليارات دولار عام 2021، وهي من أكبر زبائن موسكو في مشتريات السلاح منذ عهد الاتحاد السوفياتي.

زيارة «تاريخية» إلى الصين

وفي يوليو (تموز)، أجرى تبون زيارة وصفت بـ«التاريخية» إلى الصين، انتهت بالتوقيع على 19 اتفاقية تشمل العديد من مجالات التعاون، وحملت دلالات سياسية، فُهم منها أن الجزائر «اختارت موقعها في عالم تميزه الاستقطابات». وقد أعلن تبون أن بلاده «تناضل من أجل علاقات دولية أكثر توازناً، لا يطغى فيها القوي على الضعيف».

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً تبون 18 يوليو 2023 (د.ب.أ)

وتحت هذا الشعار، سعت الجزائر إلى دخول مجموعة «بريكس»، وطلب تبون رسمياً خلال زيارتيه إلى موسكو وبكين دعمهما لتحقيق هذا الهدف، باعتبارهما من ركائز هذه المجموعة. وشكل رفض المجموعة الملف الجزائري، خلال اجتماعها في جنوب أفريقيا أغسطس (آب) الماضي، صدمة وخيبة أمل كبيرتين إزاء «الحليف الروسي» الذي كان يعول عليه بوضع نفوذه في الميزان حتى تميل الكفة لصالح الجزائر. وكان تبون أعلن نهاية 2022 أن عام 2023 «سيكون سنة تتويج النجاحات الاقتصادية للبلاد بالتحاقنا بـ(بريكس)».

استمرار التوتر مع فرنسا

وتميَز عام 2023 أيضاً باستمرار التوتر مع فرنسا التي كان تطور العلاقات معها دوماً بمثابة شأن داخلي، بالنظر لقوة الصلات التاريخية والإنسانية بين البلدين، التي تعود إلى فترة الاستعمار. ففي فبراير (شباط)، نشبت أزمة حادة بين البلدين، عندما اتهمت الجزائر المخابرات الفرنسية بأنها «أجلت سراً» معارِضة كانت ممنوعة من السفر، تدعى أميرة بوراوي، سافرت خلسة إلى تونس عبر الحدود البرية، ومن تونس منحتها الممثلية الدبلوماسية الفرنسية الحماية القنصلية، باعتبارها تحمل الجنسية الفرنسية. وعدّت الجزائر الحادثة «انتهاكاً لسيادتها».

عناق بين الرئيسين تبون وماكرون في قمة المناخ بمصر في نوفمبر 2022 (الرئاسة الجزائرية)

ولاحقاً، في أبريل (نيسان)، أعلن الرئيسان تبون وإيمانويل ماكرون في مكالمة هاتفية طي هذا الملف الساخن على أساس أن «سوء فهم شابه»، وعاد البحث من جديد في مشروع زيارة يقوم بها تبون إلى باريس، لكن أحداثاً أخرى حالت دون إنجازها، منها لائحة قدمها اليمين الفرنسي التقليدي إلى البرلمان لإلغاء اتفاق الهجرة الثنائي الذي يعود إلى عام 1968، على أساس أنه يعيق مسعى الحكومة إلى الحد من الهجرة السرية. وقبل أسابيع قليلة، أجهض نواب حزب الرئيس ماكرون واليسار هذه الخطوة.

زيادة في الأجور يهددها التضخم

على الصعيد الداخلي، ضبطت السلطات ساعة العمل الحكومي على «تحسين القدرة الشرائية للمواطن»، وتعهد تبون في كل تصريحاته بأن 2023 «ستكون سنة الإقلاع الاقتصادي وترقية معيشة المواطن». وفي الأيام الأخيرة من العام، أعلنت الحكومة أن «زيادات مهمة» للأجور سيستفيد منها 2.8 مليون عامل في الوظيفة العمومية، بدءاً من يناير (كانون الثاني) 2024. في الوقت ذاته، نشر «الديوان الوطني للإحصائيات» دراسة تفيد بأن نسبة التضخم فاقت 9 بالمائة في عام 2022، معلناً ارتفاعاً فاحشاً لأسعار كل المواد والخدمات، الأمر الذي ألحق ضرراً بالغاً بالقدرة الشرائية لملايين من أصحاب الدخلين المتوسط والمحدود.

ويرى خبراء الاقتصاد المستقلون عن الحكومة أن الزيادات المقررة في الأجور ستتسبب في ارتفاع التضخم، لأنه لم يقابلها انتعاش اقتصادي، مشيرين إلى أن الموظف لن يستفيد منها إلا لبضعة أشهر، في انتظار موجة ارتفاع جديدة في الأسعار ستقضي عليها.

ركود سياسي في انتظار الانتخابات الرئاسية

أما سياسياً، فقد ظل المشهد العام راكداً، باستثناء حركة ظرفية أحدثها مؤتمر حزب «جبهة التحرير الوطني»، الذي يملك الريادة في البرلمان والمجالس البلدية والولائية، إذ اختار أعضاؤه القيادي المغمور عبد الكريم بن مبارك، أميناً عاماً، بدلاً من أبو الفضل بعجي، الذي كان أعلن ترشحه لولاية ثانية، لكن اتضح أن السلطات العليا قررت إبعاده في المرحلة المقبلة التي تتميز بالتحضير لانتخابات الرئاسة (قبل نهاية 2024)، والتي يعول على «الجبهة» لحشد التأييد لها ودفع أكبر عدد من الجزائريين للإدلاء بأصواتهم فيها.

وكان الحزب الواحد سابقاً بمثابة آلة دعائية ضخمة لمرشحي النظام للرئاسة. وشذّ عن هذه القاعدة مرة واحدة فقط في «رئاسية 2004»، عندما انقسمت السلطة إلى جناحين: جهاز مخابرات بقيادة الجنرال محمد مدين، رشح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لولاية ثانية، وقيادة أركان الجيش برئاسة الجنرال الراحل محمد العماري، الذي رشح رئيس الحكومة آنذاك علي بن فليس، وانتهت الجولة بفوز بوتفليقة.

وفي مايو (أيار) 2023، أعلنت الجزائر بمناسبة احتضانها مؤتمراً دولياً حول التصدي للمخاطر الكبرى، أن معدل إنفاقها على مخططات مواجهة الكوارث الطبيعية، يفوق 225 مليون دولار سنوياً، وذلك في الـ15 سنة الماضية.

صيف كارثي

وكان صيف 2023 كارثياً بسبب النيران المستعرة في بعض محافظات الشرق، حيث خلفت الحرائق التي شبَت في غطائها النباتي 34 قتيلاً من بينهم 10 عسكريين وصلت ألسنة اللهب إلى قاعدة لهم بسفح الجبل، دون أن تتمكن فرق الإنقاذ من الوصول إليهم لإجلائهم. وأحصت محافظة بجاية (200 كلم عن العاصمة)، لوحدها الحصيلة الأعلى بمصرع 16 شخصاً من عائلة واحدة.

وتواصلت الحرائق في البلاد خلال سبتمبر (أيلول)، إذ أعلن الدفاع المدني تصديه لألسنة اللهب في ولايات شمالية، لم تخلف أي خسائر بشرية. وقد تزامنت هذه الحرائق مع موجة حرَ غير عادية، ضربت عدة ولايات حيث تجاوزت درجات الحرارة 40. وطُرح من جديد، على إثر هذه الأحداث، جدل حول «اليد الإجرامية»، التي تسببت فيها، واستبعدت الحكومة التغيرات المناخية كسبب للحرائق، التي طالت كامل الغطاء النباتي في بلدان جنوب المتوسط خلال الصيف.

وكانت الحكومة أطلقت في سبتمبر الماضي، ترتيبات عاجلة للتعامل مع كوارث طبيعية محتملة، تضمنتها مراجعة شاملة لقانون الأخطار الكبرى. ونصت المراجعة القانونية على «مخطط يقظة لتسيير المخاطر الكبرى ومواجهتها»، تكفلت بتنفيذه 5 وزارات، وتضمن إطلاق منصة رقمية في كل محافظات البلاد الـ58، تهتم بتتبع التغيّرات المناخية في كل المناطق، وتبليغ السلطات العمومية عن أي خطر يُمكن أن يهدّد المنطقة وسكانها.

وجاءت هذه الترتيبات، حسب الصحافة المحلية، عاكسة لمخاوف ناتجة عن الزلزال الذي ضرب المغرب والفيضانات، التي أغرقت مدينة درنة في ليبيا خلال الشهر نفسه.


مقالات ذات صلة

الجزائر: قائد الجيش يشدد على «تعزيز المناعة الأمنية» للبلاد

شمال افريقيا قائد الجيش خلال زيارته مركز الهندسة الميكانيكية العسكرية (وزارة الدفاع)

الجزائر: قائد الجيش يشدد على «تعزيز المناعة الأمنية» للبلاد

شنقريحة يؤكد على «وضع الركائز الأساسية لصناعة عسكرية جزائرية، واعدة ومتكيفة مع متطلبات الدفاع عن الوطن وبأيادٍ جزائرية خالصة».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا مكان انعقاد القمة الروسية - الأفريقية في سوتشي (روسيا اليوم)

هجوم جزائري على المغرب وفرنسا في «قمة سوتشي»

في 25 يوليو (تموز) الماضي، أبدت الجزائر سخطاً شديداً عندما أبلغتها باريس، عبر القناة الدبلوماسية، بأنها قررت دعم «خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا الرئيس تبون مستقبلاً السكرتير الأول لـ«جبهة القوى الاشتراكية» في يونيو 2022 (الرئاسة)

الجزائر: حزب معارض يستنكر اعتقال قيادييه «في ظروف غامضة»

ندد حزب «جبهة القوى الاشتراكية» الجزائري المعارض باعتقال قياديين من صفوفه «في ظروف يلفها الغموض».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا علي بن حاج قيادي «جبهة الإنقاذ» التي تم حلها (متداولة)

الجزائر: إضراب «إسلاميين» معتقلين عن الطعام لـ«تأخر» محاكمتهم

بدأ عدد من «الإسلاميين» في الجزائر إضراباً عن الطعام داخل سجنهم بعاصمة البلاد، احتجاجاً على طول مدة إقامتهم في الحبس الاحتياطي.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا من لقاء سابق بين الرئيس تبون ونظيره الفرنسي (الرئاسة)

قرار جزائري يهدد العلاقات التجارية مع فرنسا

جمعية البنوك والمؤسسات المالية الجزائرية تُبلغ البنوك بإجراء جديد يتعلق بوقف معالجة عمليات الاستيراد والتصدير من وإلى فرنسا.

«الشرق الأوسط» (باريس)

«غزيو مصر» لم يحملوا الغربة في حقائبهم

مائدة تجمع مصريين وغزيين داخل شقة في القناطر الخيرية (الشرق الأوسط)
مائدة تجمع مصريين وغزيين داخل شقة في القناطر الخيرية (الشرق الأوسط)
TT

«غزيو مصر» لم يحملوا الغربة في حقائبهم

مائدة تجمع مصريين وغزيين داخل شقة في القناطر الخيرية (الشرق الأوسط)
مائدة تجمع مصريين وغزيين داخل شقة في القناطر الخيرية (الشرق الأوسط)

منزل بسيط في مدينة «القناطر الخيرية»، يخبرك موقعه على الخريطة أنك تحتاج إلى عبور جسر وترعة حتى تصل إليه، بعد 25 كيلومتراً من ميدان «التحرير»، وسط القاهرة. تقف حبيبة على بابه تنتظر الضيوف، ومريم في الشرفة تترقب، بينما الجدة تجلس مرتدية الثوب الفلسطيني المميز، والأم تعد المنسف في المطبخ. يوم جمعة يذكرهم بأيامهم التقليدية في غزة قبل الحرب، حين كانت العائلة تجتمع على الطعام.

تتحدث الأم نهى عبد الرازق، الشهيرة بأم حبيبة، لـ«الشرق الأوسط»، بينما تعدّ الغداء، عن مشاعر كثيرة حملتها أسرتها معها من القطاع؛ القلق على زوجها الذي تركوه خلفهم مضطرين، وهو من الصم والبكم، الحزن على القطاع، الصدمات النفسية العالقة بحقائبهم القليلة التي خرجوا بها من هناك: «لسه بنتي الصغيرة بتسألني ماما هو ممكن السقف هذا يقع علينا».

ثم تُلمح إلى شعور جيد وحيد نبت في مصر بالألفة، قائلة وهي تشير إلى ضيوفها من المصريين والغزيين: «مثل هذه الزيارات بتهون علينا كتير». وتتذكر: «هناك مصريون عملوا لبناتي عيد ميلاد في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي حتى يفرحوهن».

أم فلسطينية تعد المنسف الشهير للضيوف (الشرق الأوسط)

جاءت الأسرة للعلاج في مارس (آذار) الماضي، «دخلت مريم ذات السنوات السبع المصابة بحمى البحر المتوسط، العناية المركزة لمدة أسبوعين في مستشفى القناطر، وبعدها رآنا مصريان يتطوعان لمساعدة الغزاوية، ووفرا لنا شقة في قرية أبو الغيط، جوارنا»، حسب نهى.

وتضيف: «في القرية الأهالي لم يتركونا، كل يوم يطرقون علينا الباب، مرة بسؤال عن الصحة، وأخرى ببعض الجبن أو الألبان أو الدجاج». وحين اضطرت الأسرة للانتقال إلى قرب المستشفى لمواجهة أي طارئ للصغيرة، وفر لها المصريان نفسهما الشقة الثانية.

نهى عبد الرازق تجري مكالمة فيديو مع زوجها الموجود في غزة وتعرفه على ضيوفهم في شقتهم بالقناطر الخيرية (الشرق الأوسط)

عائلة الجدة ليست حالة استثنائية؛ إذ لاحظت «الشرق الأوسط» انتشار العائلات الفلسطينية في مناطق مختلفة، ليس داخل القاهرة والجيزة فقط، بل في قرى ومناطق شعبية دون التكتل في تجمعات سكنية، على عكس الجاليات العربية الأخرى، حيث تمركز السوريون، سواء في التجارة أو السكن، في منطقة «6 أكتوبر»، والسودانيون في منطقة فيصل، واليمنيون في الدقي، لكن الغزيين ذابوا وسط المصريين.

وقدّر السفير الفلسطيني في مصر دياب اللوح عدد الوافدين بعد الحرب، بـ103 آلاف فلسطيني، خلال الفترة من 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحتى مايو (أيار) الماضي، وفق تصريح له الشهر الماضي.

وانقطع التدفق الفلسطيني إلى مصر مع إغلاق معبر رفح بعد سيطرة الجيش الإسرائيلي عليه من الجانب الفلسطيني، منذ مايو الماضي، ورفض القاهرة التنسيق معه.

ويوجد في مصر حتى نهاية سبتمبر الماضي، 792 ألفاً و783 لاجئاً وطالبَ لجوء من 62 دولة، وفق تقرير لمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. لا يتضمن هذا الإحصاء الفلسطينيين؛ إذ أوضحت وثيقة للمفوضية في فبراير (شباط) الماضي، أن مساعداتها للوافدين الفلسطينيين في مصر لا تتم بشكل مباشر، بل عبر الهلال الأحمر المصري.

أجواء الأُلفة

تفتح نهى مكالمة فيديو مع زوجها بلغة الإشارة، لتعريفه على الضيوف، فيما يغدق عليهم الابتسامات والترحاب. تتذكر وهم في غزة: «لم يكن يستدل على القصف سوى من وميضه الكبير المفاجئ، يقوم يتحسسنا في الظلام ليتأكد أننا بخير، ثم يجري على الشباك ليرى ما يحدث».

فرح الأب حين رأى الضيوف، وكذلك من قبل حين حكت له حبيبة ذات الـ12 عاماً، عن صديقاتها الكثيرات في المعهد الأزهري الذي التحقت به جوار منزلها الجديد. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «كل اللي تعرف إني من غزة تيجي تقولي بالله صاحبيني»، هذا بخلاف أصدقاء عائلتها الذين يزدادون كل يوم.

حسام المصري والناشط الفلسطيني أمان يحتفيان بالمنسف ويشاركان حبيبة ومريم اللعب (الشرق الأوسط)

مثل حبيبة، أصبح لدى العم محمد مصلح الشهير بـ«أبو مصباح»، والذي دخل العقد السادس من عمره، أصدقاء مصريون كثيرون، يشاركهم جلسات المقهى يومياً في منطقة «الكيت كات» الشعبية بحي إمبابة شمال محافظة الجيزة: «قالوا لي حين تعود إلى غزة ستقطع بنا (نشتاق إليك)، فأرد ضاحكاً: وماذا أفعل أضلني هون»، مشيراً إلى أنه بعد الحرب سيترك أسرته ويعود: «أعمَّر البيت ثم يلحقون بي».

اختار «أبو مصباح» هو وأولاده الستة وزوجته، المنطقة الشعبية باقتراح من الزوجة التي سمعت عنها من حكاوي والدتها المصرية، لكن لم تسنح لها الفرصة من قبل لزيارتها. ورغم أن الزوج قلق في البداية من مواجهة صعوبات في الاندماج، لكن سرعان ما تبددت المخاوف، وحلّت الألفة بالمكان وناسه. ولفت أيضاً إلى أن الأسعار في المنطقة جيدة سواء في الإيجارات أو الطعام، وهذا هوّن على أسرته الكبيرة العيش.

أنساب ممتدة

لا يتعجب الكاتب الفلسطيني محسن الخزندار من اندماج وافدي غزة في المجتمع المصري، بل يعدّه من طبائع الأمور. ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «بين المصريين والغزيين اختلاط في الأنساب كبير وممتد عبر أجيال، بدأ مع استعانة محمد علي بك الكبير بشبان مصريين أغلبهم من محافظة الشرقية، لحفر ترعة في غزة، وظل بعضهم هناك وتزوجوا وأنجبوا... الأجيال التالية جاءت إلى مصر للزواج من أقاربهم والعكس، ما حوّل العلاقات من جيرة إلى أنساب»، مشيراً إلى أن عائلته نفسها «الخزندار» أصلها مصري.

يتفق معه أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة المصرية - اليابانية الدكتور سعيد صادق، قائلاً لـ«الشرق الأوسط»، إن الوجود الغزاوي في مصر «قديم منذ 1948، وثقافة الغزيين تشبه ثقافة الصعيد المصري، فلا توجد حواجز ثقافية تحول دون اندماجهم وسط المصريين، بل هم جزء من النسيج المجتمعي المصري بحكم الجغرافيا والتاريخ، ولهم أقارب، وتعلموا في مصر، وبينهم تجارة مع المصريين، لذلك لا يتجمعون في حي واحد مثل المهاجرين الجدد لمصر؛ كالعراقيين والسوريين».

سيارة أجرة لمصري في منطقة المعادي (جنوب القاهرة) عليها ملصق بالعلم الفلسطيني (الشرق الأوسط)

وأوضح صادق أن «وجود الفلسطينيين قديم، وحربهم قديمة... السودانيون في مصر يعيشون في مناطق خاصة، وأولادهم في مدارس خاصة بهم، أما السوري فوجوده قديم في مصر لكنه صغير، التوافد الحديث جاء مع ثورة سوريا وسط اتهامات بتعاطفهم مع (الإخوان)، ومنافستهم الاقتصادية مع المصريين، ما خلق حملات في شبكات التواصل الاجتماعي ضد وجودهم وتأثيرهم على الهوية المصرية».

وتشكل الجالية السودانية في مصر من المقيمين والمهاجرين الجدد، أكثر من نصف عدد الأجانب في مصر، والذين يصفهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنهم «ضيوف مصر»، وتقدر حكومته عددهم بنحو 9 ملايين شخص، بينهم أكثر من 5 ملايين سوداني.

ويؤكد الناشط الفلسطيني رامي أمان، الذي يقيم في مصر منذ عامين، ويتطوع لمساعدة أبناء القطاع ممن وفدوا بعد الحرب، تلك العلاقة الخاصة بين المصريين والغزيين، قائلاً لـ«الشرق الأوسط»، حتى العائلات التي ليس لها نسب في مصر، فغالباً إما مرّوا منها، أو درس أبناؤهم فيها، أو زاروها ولو للسياحة... هي بالنسبة لنا إجازتنا الصيفية، كنا نأتي دائماً ونحن صغار، زرت القناطر الخيرية، ودرست في جامعة بمصر، وأي غزي يرغب في السفر للخارج يمر أولاً بمصر».

ويعدّ معبر رفح البري المنفذ شبه الوحيد لأهالي القطاع، في ظل الحصار الذي تفرضه إسرائيل، حيث تسيطر أيضاً على المنفذ الآخر «معبر كرم أبو سالم».

ويلفت أستاذ علم الاجتماع المصري إلى بُعد آخر في تعامل المصريين مع الغزيين، يتمثل في «المجازر التي تحدث في القطاع، ومتابعتهم لها عن كثب، ما جعلهم لا يرغبون في التربح منهم، عكس الجاليات الأخرى».

سيدات من غزة شاركن في معرض مصري لمنتجات من صنعهن في أكتوبر الماضي (الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية - فيسبوك)

وقبل 9 شهور، عبرت «أم الخليل» الحدود من غزة إلى مصر، لأول مرة، ينتابها قلق شديد وألم. القلق على مصيرها هي وأطفالها الأربعة وهذه أول مرة تغادر القطاع، ولا أحد لها هنا، والألم جرّاء شظايا كثيرة علقت بجسدها إثر قصف منزل مجاور.

تتذكر «أم الخليل»، التي تسكن الآن مدينة «العاشر من رمضان» في محافظة الشرقية، أن الرحلة «استغرقت 6 ساعات قضيناها في الطريق من سيناء إلى مدينة 6 أكتوبر للعلاج في مستشفى الشيخ زايد، وبمجرد دخولنا المعبر، كان فريق الإغاثة المصري يعاملنا بود شديد، وكذلك الممرضون والأطباء والمرضى في المستشفى».

انتقلت إلى «العاشر» بعدما وفرت لها جمعية فلسطينية الشقة، ورغم أن العمارة كان بها وافدون آخرون من غزة، لكن علاقة الصداقة تعمقت أكثر بينها وبين جيرانها المصريين، حتى تعلمت اللهجة المصرية بطلاقة، وأصبحت تستخدمها بإتقان.

اصطحبت الأم أبناءها يوماً إلى أهرامات الجيزة «الولاد قالولي يا ماما بدنا نشوفها». لم يجد الأطفال صعوبة في الاندماج بمصر، خصوصاً أنها كانت حاضرة في غزة بشكل أو بآخر، مثلاً «طفلها الأصغر حمود (اسم تدليل لمحمد) يشجع الأهلي ويشاهد مبارياته بانتظام»، تقول «أم الخليل».

الطفلة الفلسطينية حبيبة داخل منزلها في القناطر الخيرية (الشرق الأوسط)

أما هدى عبد العزيز، التي جاءت إلى مصر وسكنت في «كومباوند الفردوس» في مدينة «6 أكتوبر»، فيشجع زوجها فريق الإسماعيلي، يقول هو «مصنع اللاعبين... منه يأخذ الأهلي والزمالك المواهب»، تتذكر ذلك ضاحكة، فيما تحكي لـ«الشرق الأوسط» تجربة خروجها من القطاع هي وابنتها وزوجات أبنائها وأحفادها إلى مصر، وتعلق: «ليست غريبة عنا ولا نحن غرباء عنها».

لسنا بحاجة إلى سور

اعتادت هدى عبد العزيز زيارة القاهرة كل فترة، تلتقي أقاربها المصريين، بعضهم يسكن منطقة «رابعة العدوية» في مدينة نصر، وآخرون في حي «العجوزة» بمحافظة الجيزة جنوب القاهرة، أما هي فقد اختارت أن تسكن «الفردوس».

تقول: «سمعت أنه جيد وآمن... لذا فضلت أن نسكن فيه أنا وزوجات أبنائي وأحفادي»، وتضيف: «كان مهم لنا ونحن سيدات وحدنا أن نشعر بسور يحوطنا، في أمان».

مع الوقت، عبَرت السيدة الفلسطينية السور، ذهبت إلى «المقطم» و«الحصري» وغيرهما من الأماكن، «كانوا أماناً أيضاً لا فارق». تتحدث السيدة عن رعاية الجيران من المصريين لها، بل مَن تصادفهم ويعرفون أنها من غزة، متذكرة سيدة مصرية التقت بها عند طبيب، وقالت لها: «مصر فيها كتير من الجنسيات، بس أنتم غير».

الجدة الفلسطينية خلال استقبالها الضيوف في منزلها بالقناطر (الشرق الأوسط)

ويقول الناشط الفلسطيني رامي أمان: «إن الفلسطينيين لم يكونوا بحاجة إلى أن يتمركزوا حول بعضهم، أو يحاولوا استحضار غزة في مصر، وهي موجودة بالفعل في كل مكان، انظري إلى السيارات التي تضع ملصقات بكلمة فلسطين، أو الأعلام الموجودة، القضية حاضرة هنا دائماً».

وتستدرك السيدة الفلسطينية أن مصر أيضاً حاضرة دائماً لدى الغزاوية في القطاع: «ابني درس في الأزهر، والأكل المصري أتعلمه من شيفات مصريات مثل نادية السيد. وتشجيع الكرة المصرية أساسي في القطاع، وقت المباريات الكبرى كانت المقاهي تتكدس بالمتفرجين».

«كأننا بغزة»

لدى «أم الوليد» حيلة أخرى لاستحضار غزة في مصر، بعدما تركت القطاع في مارس (آذار) الماضي، مرافقة - هي وابنتها - لابنة أختها التي جاءت لتلقي العلاج، تقول لـ«الشرق الأوسط»: «هناك مصرية تعرفت علينا في مستشفى الشيخ زايد، ووفرت لنا الشقة التي نمكث فيها حالياً في منطقة حدائق أكتوبر، والمنطقة جديدة، حين أسير لركوب المواصلات أضطر للمشي مسافة، أضحك وأقول لبناتي كأننا في غزة، رايحين لمنطقة الجامع».

بدأت «أم الوليد» في مشروع أشغال يدوية، ورسم أعلام فلسطينية على «ماجّات» للشرب، وبيعها عبر «الإنترنت» أو من خلال معارض تشارك فيها، أو بين شبكة معارفها التي تتوسع مع المصريين. ما زال مشروعها في بدايته، وكذلك مشروع مشابه افتتحته هدى عبد العزيز لعمل مشغولات يدوية، وكلتاهما تأمل أن تتوسع أكثر، وتغطي مصاريف إقامتها في مصر.

ويشير الكاتب الفلسطيني، وهو أيضاً أحد رجال الأعمال في القطاع، محسن الخزندار في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «التجارة مفتاح آخر لفهم عمق العلاقات المصرية - الغزاوية، فيستمد التجار المصريون من غزة الزيوت والعطور، ومن مصر يستمد الكثير من الغزيين بضائعهم...مصر شريان حياة لغزة».

ويشير إلى علاقات ممتدة «عبر التاريخ وما قبله، فغزة امتداد لمصر، وخط الدفاع الأول عنها في عصور الفراعنة الذين أقاموا أول نقطة حدودية لهم هناك»، ثم يتقدم بالتاريخ: «في عهد عبد الناصر وما قبله، كل الغزاوية من المفكرين والقادة درسوا في مصر، وإلى الآن تعد ساحة عِلم كبيرة لأهالي القطاع».

وكان السفير الفلسطيني أشار إلى أن في مصر 13 ألف طالب جامعي فلسطيني يدرسون في المعاهد والجامعات المصرية.

فرصة ثانية للتعلم

منحت الحرب في قطاع غزة إبراهيم نعيم (اسم مستعار بناء على طلبه) فرصة ثانية للتعلم، صحيح أنها لم تأتِ به إلى مصر، إذ وفد إليها قبل اندلاعها بشهرين للعلاج دون عائلته، لكنه علِق بعدها هنا، وهم في خيمة نزوح في خان يونس.

يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه حين كان بالقطاع تزوج صغيراً، هو الآن في الـ30 من عمره ولديه 3 أطفال. حين رسب في امتحان الثانوية العامة، ترك التعليم وركز في العمل: «اشتغلت في كل شيء، شيفاً في مطاعم وكهربائياً وعامل رخام».

وخلال إقامته بمصر فكر في أن يمتحن الثانوية العامة مجدداً، وبالفعل خضع للامتحان دون أي عوائق في مدرسة بمدينة الغردقة في محافظة البحر الأحمر، حيث يقيم حالياً ويعمل في مطعم.

مرّ نعيم هذه المرة من الامتحان، ويفكر حالياً في استكمال دراسته بكلية أو معهد، لحين انتهاء الحرب وجمع شمل أسرته مجدداً. يخرج نعيم من الغردقة في إجازته، ويزور العاصمة القاهرة وضواحيها، وتحديداً منطقة «بولاق الدكرور» الشعبية في الجيزة، التي تقطن فيها ابنة عمته المتزوجة من مصري، أو يزور صديق والده في وسط القاهرة المتزوج من مصرية.

وبينما يجمع الغزيون الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» في هذا التقرير، على رغبتهم في العودة إلى القطاع، وتعمير بيوته مجدداً، فإن أحداً منهم لم يشر إلى «الغربة» أو يشكو «الوحشة والقلق».