معارك غزة... هل تطول وتصير حرب استنزاف؟

إسرائيل و«حماس» لم تنتقلا من التكتيك إلى الاستراتيجية

جنود إسرائيليون خلال عمليات في قطاع غزة (الجيش الإسرائيلي- أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون خلال عمليات في قطاع غزة (الجيش الإسرائيلي- أ.ف.ب)
TT

معارك غزة... هل تطول وتصير حرب استنزاف؟

جنود إسرائيليون خلال عمليات في قطاع غزة (الجيش الإسرائيلي- أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون خلال عمليات في قطاع غزة (الجيش الإسرائيلي- أ.ف.ب)

حتى الآن، لم ترتقِ الحرب على غزة من المستوى التكتيكي إلى الاستراتيجي. ينطبق هذا القول على التنظيمات الفلسطينيّة، كما على الجيش الإسرائيلي. فالوصول إلى المستوى الاستراتيجي لا بد من أن يكون بعد تحقيق تراكمات ونجاحات على المستوى التكتيكي. بعدها، يتدخّل البُعد السياسي للترجمة العملية للنجاح العسكريّ. لكن البقاء في المستوى التكتيكي لفترة طويلة قد يعني حرب الاستنزاف، وفيها يربح عادة من لديه عمق لوجستي، إن كان في السلاح أو العديد.

لكن أحد أهم شروط حرب الاستنزاف، هو استعداد المجتمع لتقديم التضحية الاقتصاديّة والسياسيّة، والأهم هي التضحية البشريّة. ألم يقل المفكّر البروسي كارل فون كلوزفيتز، إن «الحرب هي السياسة لكن بوسائل أخرى»؟

قد يؤدّي النجاح التكتيكي -في بعض الأحيان- إلى تدمير أو إبادة العدو بشكل كامل. وبذلك لا تتكرّر الحرب. هكذا حصل مع ثوّار التاميل في سريلانكا، خسروا الحرب كما خسروا قضيّتهم السياسيّة. وقد يؤدّي التكتيك إلى تعب الأفرقاء المتقاتلين، وبحيث يصبح الثمن لاستمرار الحرب أكبر بكثير من الأرباح الممكن تحقيقها. عندها، يتدخّل فريق ثالث لترميم الفجوة بين المتقاتلين، ولرسم سيناريو الإخراج السياسي لوقف الحرب، فيُصوّر كل فريق نصره حسب الصورة التي يريد تقديمها إلى مجتمعه. وقد يتضمّن هذا التصوير بُعداً دينيّاً، بحيث لا يمكن النقاش فيه.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية – رويترز)

لا يندرج سيناريو التدمير الكامل والشامل (Annihilation) على الصراع العربي- الإسرائيلي، والذي خرج منذ فترة من صفة العروبة والقوميّة، وقد استمر أكثر من قرن من الزمن. فالقرب الجغرافيّ بين الفلسطينيين واليهود، كما اعتماد الفريقين معادلة الربح الصفريّة (Zero Sum Game) قد يجعل أي إخراج سياسي لاشتباك معيّن بينهما وكأنه استراحة للمحارب، وبحيث يذهب الفريقان بعدها للاستعداد للجولة العُنفيّة القادمة.

التكتيك حالياً

دخلت إسرائيل إلى قطاع غزة عسكريّاً، مع الأمل بتحقيق الأهداف السياسية التي وضعها نتنياهو. كانت الخطة العسكريّة تقول بانتهاء الحرب في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي حدّاً أقصى. لم تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر لدى الجيش الإسرائيلي.

فوجئت إسرائيل بمدى استعداد حركة «حماس» للحرب. كما تفاجأت بكميّة السلاح؛ خصوصاً المُضاد للدروع، ومن التصنيع المحلّي. لم تعتقد إسرائيل أن لدى «حماس» قطاع غزة آخر، تقريباً؛ لكن تحت الأرض.

مقاتل من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» في نفق بغزة (أ.ف.ب)

وفوجئت إسرائيل أيضاً بأن عقيدتها العسكريّة القتالية لا تتماشى مع هذا النوع من الحروب. وإذا كان خبراء قد صنّفوا الجيش الإسرائيلي بأنه الأحدث في العالم، والأكثر ابتكاراً (Innovative) للتكتيكات الجديدة؛ خصوصاً خلال الحرب وسير المعارك، فهو حتى الآن قد أخفق في إيجاد الحلول للقضاء على «حماس».

في المقابل، اعتمدت «حماس» على فرضيّات متعدّدة الأبعاد، لحساب ردّ الفعل الإسرائيلي بعد عملية «طوفان الأقصى». فهي تعد نفسها خبيرة بالعقل السياسي الإسرائيليّ، كما العقل الأمنيّ. ومن بعض هذه الفرضيّات:

- لن تجرؤ إسرائيل على الهجوم البري الشامل على القطاع، بسبب عدد الرهائن الكبير لدى الحركة. كما أن الهجوم البرّي يتطلّب كثيراً من الفرق العسكرية، وهذه الفرق تعتمد بغالبها على الاحتياط الذين يشكلون العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي. وأن الحرب ستطول لأنها سوف تكون حرب مدن، ومعها ستكون خسائر الجيش الإسرائيلي كبيرة جداً، وهذا أمر غير مقبول لدى المجتمع الإسرائيلي، وبسبب الرهائن ستذهب إسرائيل إلى التفاوض من أجل صفقة ما.

لكن المفاجأة الكبرى لـ«حماس» تمثّلت في ردّ فعل الولايات المتحدة الأميركية الآني والسريع، لدعم إسرائيل بالسياسة والسلاح.

من جهة إسرائيل

ثمة نجاحات تكتيكية؛ لكن دون تراكمات تؤدّي إلى النجاح الاستراتيجي؛ خصوصاً أن الاستراتيجيّة الكبرى التي وضعها نتنياهو غير قابلة للتحقق.

- يُدمّر الجيش الإسرائيلي ما هو فوق الأرض. كما يسعى إلى تجميع الغزيين في مكان ما، وفصلهم عن مقاتلي «حماس»؛ علّه يصل إلى قيادات الحركة، أو إلى الرهائن، وشبكة الأنفاق المترابطة والمتداخلة مع الأبنية، ففي كل بيت هناك فُتحة نفق.

آليات عسكرية إسرائيلية تنقل جنوداً وصحافيين جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

يسعى الجيش الإسرائيلي إلى إيجاد مخرج لتعثّره عبر التسميات لمراحل الحرب. حالياً ينتقل الجيش إلى المرحلة الثالثة التي تقوم على ما يلي: إنشاء فُقاعات إنسانيّة (Bubbles) لتجميع الغزيين بعيداً عن «حماس» مع حكم محليّ، وضمانات أمنيّة ومعيشيّة، ويسعى الجيش الإسرائيلي إلى تثبيت المنطقة العازلة على حدود القطاع بعمق كيلومتر واحد داخل القطاع، والسيطرة والبقاء في محوري نتساريم وفيلادلفيا، وبعدها تأمين الحريّة العملياتية العسكرية داخل القطاع عندما تدعو الحاجة.

من جهة «حماس»

- الاستمراريّة هي الأساس لدى حركة «حماس» (Survival).

- الانتقال إلى حرب العصابات ضد الجيش الإسرائيليّ. أي القتال بمجموعات صغيرة، رهط من 3 إلى 4 عناصر.

- عدم التخلّي عن الرهائن دون ضمانات تؤمّن بقاء الحركة.

- منع قيام بدائل لها في القطاع، من العائلات أو من العشائر.

- وأخيراً وليس آخراً، كسب الوقت، وإنزال أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي.

في الختام، قد يمكن القول إن المستوى التكتيكي هو الذي لا يزال مسيطراً على المعارك في قطاع غزة، ولا يبدو في الأفق أي إمكانية للخروج منه. وللخروج منه لا بد من فرضه من الخارج، أو الذهاب إلى درجة من التصعيد كبيرة جدّاً.


مقالات ذات صلة

قبيلة «الترابين»: مقتل «أبو شباب» يمثل «نهاية صفحة سوداء» في غزة

المشرق العربي ياسر أبو شباب (وسائل التواصل) play-circle 01:18

قبيلة «الترابين»: مقتل «أبو شباب» يمثل «نهاية صفحة سوداء» في غزة

أكدت قبيلة «الترابين» في قطاع غزة وقوف أبنائها دائماً في صف شعبهم الفلسطيني وقضيته العادلة، ورفضهم تماماً «أي محاولة لزج اسم القبيلة في مسارات لا تمثل تاريخها».

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي دخان يتصاعد بعد الغارات الإسرائيلية شرق مدينة غزة (أ.ف.ب) play-circle 00:36

مقتل 6 فلسطينيين في غارات إسرائيلية على جنوب غزة

قتل 6 فلسطينيين وأصيب آخرون مساء أمس الأربعاء، في غارات إسرائيلية على جنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي الدخان يتصاعد بعد الغارات الإسرائيلية شرق مدينة غزة (أ.ف.ب)

إصابة 4 جنود إسرائيليين في اشتباك مع مقاتلين خرجوا من نفق برفح

أعلن الجيش الإسرائيلي اليوم الأربعاء، أن أربعة جنود أصيبوا في اشتباكات مع مسلحين خرجوا من أحد الأنفاق في شرق رفح بجنوب قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية مسلحون من حركتي «حماس» و«الجهاد» يعثرون على جثة خلال عملية البحث عن جثث الرهائن القتلى في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (رويترز)

إسرائيل تتسلّم جثمان رهينة عبر الصليب الأحمر من غزة

أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اليوم الأربعاء، أن تل أبيب تسلمت عبر الصليب الأحمر، نعش أحد الرهائن كان جثمانه في قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة - تل أبيب)
شؤون إقليمية وصول سيارة تحمل رفات شخص تقول «حماس» إنه رهينة متوفى تم تسليمه في وقت سابق اليوم من قبل مسلحين في غزة إلى السلطات الإسرائيلية إلى معهد للطب الشرعي في تل أبيب... إسرائيل 2 ديسمبر 2025 (أ.ب)

إسرائيل تعلن تسلّم بقايا جثمان رهينة كان محتجزاً في غزة

قالت الشرطة الإسرائيلية، اليوم (الثلاثاء)، إنها تسلّمت بقايا جثمان إحدى الرهينتين المتبقيتين في قطاع غزة قبل نقله إلى معهد الطب الشرعي قرب تل أبيب للتعرف عليه.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب - غزة)

قاسم: مشاركة مدني في لجنة وقف النار تنازل مجاني لإسرائيل

أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
TT

قاسم: مشاركة مدني في لجنة وقف النار تنازل مجاني لإسرائيل

أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)

رفع الأمين العام لـ«حزب الله»، نعيم قاسم، سقف خطابه السياسي، مؤكداً أنّ المشاركة برئيس مدني في لجنة وقف إطلاق النار تمثل «إجراءً مخالفاً للتصريحات والمواقف الرسمية السابقة»، التي كانت تشترط، حسب تعبيره، وقف الأعمال العدائية من قبل إسرائيل قبل إشراك أي مدني في آلية التنفيذ.

وفيما أعرب عن تأييده «خيار الدبلوماسية» الذي تتبعه السلطات اللبنانية، رأى أن تعيين السفير سيمون كرم على رأس الوفد اللبناني، هو «تنازل مجاني لن يغيّر من موقف إسرائيل ولا من عدوانها ولا من احتلالها»، مشيراً إلى أنّ «المندوب المدني ذهب واجتمع فازداد الضغط، وأن إسرائيل ومعها أميركا تريدان إبقاء لبنان تحت النار».

وتأتي مواقف قاسم في وقتٍ لم يعلن فيه رئيس البرلمان نبيه بري اعتراضاً على تعيين السفير سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني، إنما أكد على ضرورة حصر دوره بالإطار التقني وعدم توسيعه إلى مستويات تفاوضية أو سياسية، وهو ما يعكس تمايزاً واضحاً حول هذا القرار بين الحليفين.

تقديم تنازلات في لحظة حساسة

ووصف قاسم في كلمة له خطوة تعيين مدني بـ«سقطة إضافية تُضاف إلى خطيئة 5 أغسطس (قرار الحكومة لحصرية السلاح)» معتبراً أنّه «بدلاً من اتخاذ خطوات إلى الأمام تُقدَّم تنازلات لن تنفع مع إسرائيل»، داعياً الحكومة للتراجع عن القرار، وأن «يجري تفاهم داخلي على قاعدة عدم السماح بأي تنازل حتى تطبق إسرائيل ما عليها».

مناصرون يحملون أعلام «حزب الله» اللبناني في بيروت (أرشيفية - رويترز)

«السفينة الغارقة»

واعتبر قاسم أنّ الحزب «قام بما عليه ومكّن الدولة من فرض سيادتها في إطار الاتفاق»، قبل أن ينتقل إلى تشبيه لبنان بـ«السفينة»، معتبراً أنّ «التماهي مع إسرائيل يعني ثقب السفينة، وعندها يغرق الجميع».

وقال إنه يجب مواجهة العدوان الإسرائيلي التوسعي بكل الوسائل والسبل، مضيفاً: «هناك اتفاق لم يتم الالتزام به رغم التزام لبنان، الاعتداءات ليست من أجل السلاح، بل من أجل التأسيس لاحتلال لبنان ورسم إسرائيل الكبرى من بوابة لبنان».

وفي المقابل، أكد قاسم أنّ «الدولة اختارت طريق الدبلوماسية لإنهاء العدوان، ونحن معها أن تستمر في هذا الاتجاه». لكنه شدد على أنّه «لا علاقة لأميركا وإسرائيل بكيفية تنظيم شؤوننا الداخلية، ولا علاقة لهما بما نختلف عليه أو نقرره في لبنان».

وشدّد على أنّ «الحدّ الذي يجب الوقوف عنده هو حدود الاتفاق الذي يتحدث حصراً عن جنوب نهر الليطاني، ولا وجود لما يسمى ما بعد جنوب نهر الليطاني».

وتابع قاسم: «هم يريدون إلغاء وجودنا»، لكن «سندافع عن أنفسنا وأهلنا وبلدنا، ونحن مستعدون للتضحية إلى الأقصى، ولن نستسلم».


الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
TT

الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)

شكر وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني «كندا على قرارها رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب». وأضاف، في بيان، اليوم (الثلاثاء): «نثمن دعم كندا لسوريا في مسيرتها الحالية نحو الاستقرار وإعادة الإعمار».

وتابع البيان: «إن هذا القرار يشكل لحظة مهمة لتعزيز العلاقات السورية – الكندية، ويمهِّد لمرحلة جديدة من الشراكات المتعددة... إن سوريا تشدد على استعدادها للعمل مع الشركاء الدوليين كافة والتواصل الإيجابي بما يسهم في دعم جهود التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، ويصبّ في مصلحة الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين».


توافق رئاسي ثلاثي لبناني على الجانب «التقني - الأمني» للمفاوضات

رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
TT

توافق رئاسي ثلاثي لبناني على الجانب «التقني - الأمني» للمفاوضات

رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)

أكّدت مصادر وزارية أنه لا خلاف بين الرؤساء الثلاثة، مع دخول المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية مرحلةً جديدةً بإدخال مدني إليها، هو سفير لبنان السابق لدى واشنطن، المحامي سيمون كرم، لترؤس الوفد اللبناني للجنة الـ«ميكانيزم»، بغية تفعيل اجتماعاتها للتوصل إلى اتفاق أمني، قاعدته الأساسية تطبيق وقف الأعمال العدائية، بخلاف اجتماعاتها السابقة التي غلبت عليها المراوحة، وتشاركت وقيادة القوات الدولية «اليونيفيل» في تعداد الخروق والغارات الإسرائيلية.

ولفتت إلى أن توافق الرؤساء على إخراج الـ«ميكانيزم» من الدوران في حلقة مفرغة، تلازم مع رسم حدود سياسية للتفاوض، محصورة بوقف الخروق والاعتداءات الإسرائيلية، والانسحاب من الجنوب، وإطلاق الأسرى اللبنانيين، وإعادة ترسيم الحدود وتصحيحها، انطلاقاً من التجاوب مع تحفّظ لبنان على النقاط المتداخلة الواقعة على الخط الأزرق والعائدة لسيادته.

رئيس الحكومة نواف سلام مجتمعاً مع السفير سيمون كرم (رئاسة الحكومة)

وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط» إن لبنان يصر على حصر جدول أعمال المفاوضات ببنود أمنية لا يمكن تجاوزها للبحث في تطبيع العلاقات اللبنانية - الإسرائيلية، والتوصل إلى اتفاقية سلام بين البلدين، وهذا ما أجمع عليه رؤساء «الجمهورية»، العماد جوزيف عون، و«الحكومة»، نواف سلام، و«المجلس النيابي»، نبيه بري، الذي كان أول من اقترح إدخال مدنيين للـ«ميكانيزم»، ومن ثم أصروا على تكرار موقفهم في هذا الخصوص استباقاً لانعقاد الجولة الأولى من المفاوضات، بحضور الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس ومشاركة كرم فيها، بما يتعارض مع جدول أعمالها الذي حدده رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.

وقالت إن نتنياهو يريد تكبير الحجر لتحريض «حزب الله» على الدولة وإرباكها، فيما يواصل جيشه خروقه واعتداءاته لتأليب بيئته عليه، وهذا ما تبين باستهدافه عدداً من المنازل الواقعة بين جنوب نهر الليطاني وشماله، رغم خلوها من مخازن لسلاح الحزب. ورأت بأنه يواصل ضغطه بالنار لإلزام لبنان بالتسليم لشروطه، وإن كان يدرك سلفاً أنه لا مجال أمام المفاوضات لخروجها عن جدول أعمالها التقني - الأمني، بالتلازم مع إصرار الحكومة اللبنانية على تطبيق حصرية السلاح بيد الدولة، ولا عودة عنه.

وتوقفت المصادر أمام تأكيد بري أنه كان أول مَن اقترح إدخال مدنيين للـ«ميكانيزم»، وسألت، أين يقف الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم من اقتراحه؟ وهل سبق أن اعترض على اقتراح «أخيه الأكبر» في هذا الخصوص؟ رغم أنه في كتابه المفتوح إلى الرؤساء الثلاثة أكّد رفضه للمفاوضات مع إسرائيل، ليعود لاحقاً إلى تصويب ما حمله كتابه هذا، بتكليفه قيادياً في الحزب بأن ينقل رسالة إليه مفادها أنه لم يكن هو المقصود به، لقطع الطريق على افتعال مشكلة داخل البيت الشيعي.

كما سألت قاسم، ألم يوافق الحزب على اجتماعات الـ«ميكانيزم»، ما دام «أخوه الأكبر» هو مَن يفاوض باسمه وكان وراء التوصل لاتفاق وقف النار مع الوسيط الأميركي آنذاك أموس هوكستين؟ وقالت إنه ليس لدى الحزب من أوراق سوى رفع سقف اعتراضه على المفاوضات، ولم يعد يملك ما يسمح له بأن يعيد خلطها في ضوء اختلال ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، بعد أن أفقده إسناده غزة منفرداً توازن الردع وقواعد الاشتباك.

الدخان يتصاعد في بلدة المجادل في جنوب لبنان إثر استهدافها بقصف إسرائيلي يوم الخميس (أ.ف.ب)

ولفتت المصادر إلى أن الحزب يفتقد إلى أي بدائل لقلب موازين القوى، ويكتفي بتسجيل اعتراض من العيار الثقيل على المفاوضات، من دون أن يكون في وسعه ترجمته عسكرياً، رغم إصراره على تمسكه بسلاحه واتهامه حكومة سلّام بارتكاب خطيئة بموافقتها على حصرية السلاح التي يُفترض أن تتقدم بدءاً من شمال الليطاني حتى حدود لبنان الدولية مع سوريا، بالتلازم مع تسجيل تقدم في المفاوضات.

ورأت أن الحزب مضطر لوزن موقفه، لأنه ليس وارداً كسر علاقته بعون وتهديد تحالفه ببري، ما يُسبّب انكشافه فيما هو بأمس الحاجة لحماية الداخل، إضافة لما يترتب على «خدش» علاقته بهما من تداعيات سلبية على الطائفة الشيعية، لا يريدها ويتفداها، وما هو المانع من أن يضع ما لديه من أوراق بعهدة بري، كونه الأقدر منه على مراعاته للمزاج الشيعي الذي ينشد تحرير الجنوب، وإفساحاً في المجال أمام عودة أهله إلى قراهم، ولا يرى من منقذ غيره، ويتطلع إليه خصومه على أنه الممر الإلزامي للتوصل إلى تسوية تُعيد إدراج لبنان على لائحة الاهتمام الدولي، وتفتح كوّة لإعادة إعمار البلدات المدمرة، خصوصاً أنه يحظى بعلاقات دولية وعربية، بخلاف الحزب الذي لم يعد له سوى إيران.

وأكدت المصادر أن دخول المفاوضات في مرحلة جديدة كان وراء الضغط الأميركي على إسرائيل لمنعها من توسعتها للحرب، بعد أن استجاب لبنان لطلبها بتطعيم الـ«ميكانيزم» بمدني كُلّف برئاسة وفده، وتمنت على «حزب الله» الوقوف خلف الدولة في خيارها الدبلوماسي، وأن مخاوفه من أن تؤدي إلى ما يخشاه بالتوصل مع إسرائيل إلى اتفاقية سلام ليست في محلها، ما دام أن حليفه بري هو أول من أيد تطعيمها بمدنيين، وبالتالي ما المانع لديه من أن يعطيها فرصة ليكون في وسعه بأن يبني على الشيء مقتضاه لاحقاً، بدلاً من أن يُبادر من حين لآخر إلى «فش خلقه» بسلام، رغم أنه ليس فاتحاً على حسابه، وينسق باستمرار مع عون، ويتعاونان لتطبيق حصرية السلاح التي نص عليها البيان الوزاري للحكومة.

وكشفت أن التواصل بين عون وبري لم ينقطع، وهما قوّما قبل انعقاد الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء الأجواء التي سادت اجتماع الـ«ميكانيزم» في الناقورة، وقالت إن بري كان أوصى النواب المنتمين لكتلته النيابية، والمسؤولين في حركة «أمل»، بعدم التعليق لا سلباً ولا إيجاباً على كل ما يختص بالمفاوضات، وأن توصيته جاءت بناءً على رغبته في حصر الموقف به شخصياً لتفادي إقحام محازبي الطرفين في سجال، سرعان ما يتحول إلى مناوشات في الشارع، فيما الحزب يحرص، كما تقول قيادته، على تحصين علاقته بحليفه الأوحد في الساحة اللبنانية، بعد أن تفرّق عنه شركاؤه السابقون في محور الممانعة بتأييدهم حصرية السلاح.

وقالت المصادر إن الحزب يدرك جيداً أن الأبواب ما زالت مقفلة أمام تصويب علاقاته العربية والدولية، بخلاف بري. وسألت على ماذا يراهن، بعد أن رفضت قيادته المبادرة المصرية إصراراً منها، حسب مصادر دبلوماسية غربية لـ«الشرق الأوسط»، بأن ترهن موقفها بالمفاوضات الأميركية - الإيرانية، ليكون بمقدورها أن تضعه في سلة إيران، لعلها تتمكن من الحفاظ على نفوذها في لبنان بعد تراجع محور الممانعة في الإقليم؟

لذلك، سيأخذ الحكم والحكومة علماً باعتراض «حزب الله»، من دون أن يكون له مفاعيل تصعيدية بتحريك الشارع لتفادي الاحتكاك مع محازبي «أمل»، ما دام أن انطلاقة المفاوضات لا تلقى اعتراضاً من بري، وتبقى تحت سقف تحرير الجنوب تطبيقاً للـ«1701»، إلا إذا ارتأى الدخول في مزايدة شعبوية مع حليفه لا طائل منها، وستؤثر سلباً على حمايته، على الأقل داخل طائفته.