سؤال صعب لم تجب عنه التطورات الميدانية، يلمس مستقبل حركة «حماس» وقدرتها على خوض حروب مستقبلية، انطلاقاً من قدراتها العسكرية التي يغلفها قدر كبير من الغموض، ومدى تأثير نحو 9 أشهر من القتال على السلاح وخطوط الإمداد.
حرب انتقامية هي الأعنف طيلة عقدين، بدأتها «حماس» باستراتيجية «المواجهة المستمرة والتوثيق»، لكن وتيرة تحركاتها انكمشت يوماً بعد يوم على وقع خسائر كبيرة، حتى دخلت مرحلة «التراجع الميداني»، و«تكنيك الأكمنة» المستندة لدعم لوجيستي من شبكة أنفاق معقدة.
تلك التطورات الميدانية المتسارعة وضعت «القدرات العسكرية» لحركة «حماس»، في صورة «العقبة الكبرى» في طريق الهدنة، وحرّكت تساؤلات بشأن احتمالية أن تكون عملية «طوفان الأقصى» آخر حروبها.
تلك التساؤلات وضعتها «الشرق الأوسط»، أمام خبراء عسكريين وسياسيين عرب وغربيين، اتفقوا في معظمها على أن معركة «طوفان الأقصى» التي أشعلتها «حماس» مع إسرائيل، قبل 9 أشهر، قد لا تكون «آخر الحروب»، وإن كانت قد أضعفت قدرات الحركة عسكرياً، وأثرت بشكل لافت على خطوط الإمداد ودفعها لنقل العمليات القتالية إلى «حرب مدن».
وتقف تل أبيب بين تمسك وزير الدفاع يوآف غالانت، في 3 يونيو (حزيران) الحالي، بـ«تفكيك (حماس) بوصفها سلطة حاكمة وعسكرية»، واعتراف متحدث الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري في 19 من الشهر نفسه، بأن هدف القضاء على الحركة «بعيد المنال»؛ ما أثار غضب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وقتها ودفعه لتجديد تعهده بالقضاء عليها.
تراجع «تكتيكي»
وفي 7 أكتوبر (تشرين الأول)، بدأت «حماس» تحركاً عسكرياً لأول مرة باستراتيجية «المواجهة المباشرة المستمرة»، قبل أن تنكمش وتيرة عملياتها إثر حرب إسرائيلية غير مسبوقة، وتدخل مرحلة «حرب الأكمنة» المستندة لدعم لوجيستي من شبكة أنفاق معقدة.
وظهر ذلك مع «توغل إسرائيل في رفح الفلسطينية، حيث اعتمدت «حماس» على أساليب الكر والفر، ونصب الكمائن، واستخدام القنابل بدائية الصنع، وتجنب المناوشات المباشرة كما كانت مع بداية الحرب، لا سيما مع خسارة نصف مقاتليها من 20 إلى 25 ألفاً إلى 9 إلى 12 ألفاً»، وفق ما نقلته «رويترز» عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين مطّلعين في 6 يونيو الحالي.
ذلك التراجع لا يراه متحدث «حماس» حسام بدران، في حديث مع «الشرق الأوسط» صحيحاً، مؤكداً أن «كتائب الحركة موجودة في كل المناطق بغزة، وجيش الاحتلال فشل في القضاء عليها، رغم قدراته وإمكاناته على مدار نحو 9 أشهر».
ويضيف: «بعض الأطراف كانت تظن أننا لن تستمر سوى أسابيع، لكن نؤكد أننا الآن لدينا القدرة والإمكانات للاستمرار ما دام هناك احتلال».
آخر الحروب؟
هذا الإصرار الذي تتحدث عنه «حماس» واستمرارها في مواجهة «المحتل» يطرح تساؤلات بشأن إمكانية أن تكون حرب «7 أكتوبر» الأكبر والأضخم بتاريخ الصراع وآخر الحروب؟
وزير الخارجية المصري السابق، نبيل فهمي، يعتقد في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن هذا «الطرح يفتقد جوهر المشكلة المرتبطة بوجود الاحتلال الذي يجب أن يزول».
ويتمسك فهمي بـ«أهمية عدم حصر المشكلة بين (حماس) وإسرائيل، وجعلها فقط بين فلسطين وإسرائيل»، مؤكداً أن «(حماس) ليست أول ولن تكون آخر تيار فلسطيني يتصدى للاحتلال، وسبقها في الثمانينات تيارات أخرى، وستستمر الحروب ما بقيت المشكلة».
يتفق معه نائب رئيس هيئة الأركان الأردني الأسبق، الفريق محمود قاصد والعسكريان المصريان السابقان سمير فرج، وعادل العمدة، والعميد اللبناني المتقاعد، هشام جابر في أحاديث منفصلة مع «الشرق الأوسط» بأن «حرب 7 أكتوبر لن تكون آخر حروب (حماس)، ما استمر الاحتلال».
وفي حديث مماثل مع «الشرق الأوسط» يستبعد المحلل السياسي الأميركي، مايكل مورغان، أيضاً أن «تكون آخر حروب (حماس)، في ظل عدم تنفيذ حل الدولتين»، معتقداً أنه «ما دامت لا توجد دولة فلسطينية، فسيجري استخدام (حماس) إسرائيلياً لتدمير أي أمل محتمل في ذلك والعودة للمواجهات كل فترة».
ومع تقديرات استمرار المواجهات بين «حماس» وإسرائيل لما بعد الحرب الحالية، تطرح أسئلة حول ترتيبات البقاء والنهاية المحتملة، سواء بمسار نزع السلاح أم البحث عن بديل لحكم غزة، والاندماج في جيش موحد حال تأسيس دولة فلسطينية مستقلة.
وحول ذلك، يتوقع وزير الخارجية المصري السابق، نبيل فهمي، «ألا تتجاوب (حماس) أو غيرها مع فكرة نزع السلاح بالكامل، وسترفض تمكين إسرائيل أمنياً من غزة، أو فرض ترتيبات على الجانب الفلسطيني»، مستبعداً «تماماً» أي مشاركة عربية في أي «ترتيبات تلعب دور الشرطي لإسرائيل».
ويستبعد الخبير الفلسطيني، أستاذ النظم السياسية والقيادي بحركة «فتح»، جهاد الحرازين في حديث مع «الشرق الأوسط»، «إمكانية نزع سلاح (حماس) أو المقاومة بشكل عام»، ويرى أن «الحل في تأسيس دولة فلسطينية ينطوي فيها الجميع تحت لواء جيش واحد وسلاح واحد».
وتتحرك السعودية ومصر ودول عربية وأوروبية للتعجيل بعقد مؤتمر دولي للسلام، لتنفيذ حل الدولتين في ظل اعترافات غربية بدولة فلسطينية مستقلة، بينما يرفض نتنياهو خيار إقامة دولة فلسطينية، ويتمسك بالقضاء حالياً على قدرات «حماس» التي تتلقى دعماً إيرانياً متنامياً منذ بداية الحرب عبر أذرع طهران بالمنطقة لا سيما من الحوثيين و«حزب الله».
خيار تدمير القدرات
وإزاء طرح نتنياهو، لا يتفق نبيل فهمي، مع الوصفة الإسرائيلية التي تربط بين نهاية الحرب وتدمير «حماس»، قائلاً إن «تخفيض قدرات (حماس) العملياتية ممكن، لكن هل يمكن توفير الأمن لإسرائيل بالقضاء عليها؟»، ويجيب: «لا، لأن هناك رفضاً فلسطينياً للاحتلال يتنامى في ظل عدم وجود دولة فلسطينية».
ويرى مايكل بريجنت، زميل معهد هودسون الأميركي في قضايا الإرهاب واستراتيجية الدفاع، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن «(حماس) في الوقت الحالي، جرى إضعافها، وتراجعت قدراتها».
ويعتقد أنه من أجل «القضاء على (حماس) يجب على تل أبيب زيادة عملياتها الاستخبارية التي تركز على مستودعات أسلحة وذخيرة (حماس) للمضي قدماً في القضاء عليها».
ويرى بريجنت أن أي وقف إطلاق نار بغزة حالياً «يعني إعادة تجميع (حماس) لصفوفها، وإعادة تسليحها، وأنها ستكون قادرة على شن هجمات في المستقبل».
ولا تستبعد الخبيرة الأميركية المختصة في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، إيرينا تسوكرمان، في حديث مع «الشرق الأوسط»، «احتمالية تفكيك قيادة وسلطة (حماس) بغزة»، وترى أن «هذا سيستغرق وقتاً بسبب الطبيعة المرهقة لحرب المدن».
وترجح تسوكرمان، «عودة (حماس) للظهور بأجزاء من غزة قامت إسرائيل بتطهيرها»، مقترحة «مزيداً من البقاء والسيطرة بعد التطهير، وتنفيذ استراتيجية تنهي الأنفاق بشراكة إقليمية، والبحث عن حل لوصول المساعدات الإنسانية بعيداً عنها».
ووفق تقديرات «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» الأميركي للأبحاث في يناير (كانون الثاني) 2024، اكتسبت «حماس» قدراتها العسكرية بـ«دعم إيران و(حزب الله)»، منذ سيطرتها على القطاع في 2007.
ويحتاج تفكيك «حماس» وفق تلك التقديرات إلى «استراتيجية دائمة صعبة ومعقدة، من 3 عناصر: تحرك أمني مستمر بعد الحرب لضمان عدم قدرة الحركة على إعادة تشكيل صفوفها، وتدشين عملية إعادة إعمار فورية لغزة بعيداً عن عناصرها، وتنشيط السلطة الفلسطينية وطرحها بديلاً عملياً فعالاً».
مستقبل العمليات
وسط التباين إزاء القضاء على قدرات «حماس» التي تقول تقديرات إنها أطلقت 10 آلاف صاروخ وقذيفة منذ بداية الحرب، تتجه الأنظار لمستقبل العمليات الحالية مع دخول حرب «7 أكتوبر» الشهر التاسع.
على مستوى إسرائيل، ستلجأ تل أبيب إلى الخطة «ج» وهي عبارة عن عمليات عسكرية استخباراتية مركزة في قطاع غزة، وفق ما أوردته «هيئة البث الإسرائيلية» الرسمية في 21 يونيو الحالي.
وتحدثت الهيئة عن أن تل أبيب تستعد للإعلان قريباً عن هزيمة «حماس» في رفح الفلسطينية، كاشفة عن «بدء الذراع العسكرية لـ(حماس) عملية الترميم».
أما بالنسبة إلى «حماس»، فيقول الخبير العسكري المصري سمير فرج: «وفق المتوفر من معلومات، فإن (حماس) لديها 4 كتائب في مدينة رفح الفلسطينية، بخلاف 24 كتيبة أخرى متفرقة لكن في حالة قتال. ومع تراجع الذخيرة ونقص العتاد تلجأ (حماس) إلى حرب الكمائن وقتال المدن بعيداً عن المواجهة المباشرة، وهو ما سيدفع إسرائيل إلى التركيز على العمليات الاستخباراتية الدقيقة».
وفي السياق نفسه يرى الفريق محمود قاصد أنه «مع ميل ميزان القوة للجيش الإسرائيلي ستنشط (حماس) في الرصد المبكر والاستدراج، وتفخيخ مواقع، وتضليل العدو ضمن نشاطات استخبارية وعمليات معقدة مثل عملية التسلل خلف خطوط العدو في رفح (في 7 يونيو الحالي)، مستندة في عملياتها لوحدات إسناد بالأنفاق، وأخرى فوق الأرض وبمعدات وذخائر وقوة بشرية أقل».
كذلك يعتقد الخبير العسكري اللبناني، العميد المتقاعد، هشام جابر، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن «(حماس) لجأت لتكتيك حرب المدن والعبوات المتفجرة لرغبة في الحفاظ على ما تبقى من ذخيرتها، وإدراكاً منها أن الحرب ستطول ولمواجهة إمكانات الجيش الإسرائيلي المتفوق تسليحاً».
ويرى الخبير في شؤون «حماس» وقريب الصلة بالحركة، إبراهيم المدهون، أن تكتيكات الحركة «تعتمد حالياً على النفس الطويل، وانتقلت من ضرب الصواريخ للعمليات على الأرض»، لافتاً إلى أن «(كتائب القسام) التي كانت قبل الحرب أكثر من 50 ألفا، ولديها 5 ألوية هي لواء غزة، والشمال، والوسطى، وخان يونس، ورفح تعمل بكفاءة عالية وطرق مختلفة في أماكن وجودها».
وفي المقابل، دعا الخبير العسكري المصري اللواء عادل العمدة إلى «عدم تضخيم قدرات (حماس) العسكرية»، مؤكداً أن «أي حديث عن تفاصيلها هو من وحي الخيال»، قبل أن يستدرك «لكن الحركة لديها سلاح مهم هو الأنفاق، والذي لم تستطع قدرات إسرائيل القتالية والجوية والبحرية النيل منه».
وفي ظل تغير تكتيكات العمليات وامتلاك «(حماس) سلاح الأنفاق الذي لم يجرِ القضاء عليه»، وفق اللواء فرج، فمن المتوقع أن يدخل «الجيش الإسرائيلي مواجهة أصعب، ويتجه لتغيير عملياته».
ويرجع ذلك إلى أن «حرب المدن التي تنتهجها (حماس) حالياً تعد مقبرة الجيوش. الجيشان الأميركي والروسي لم يحققا انتصارات في أفغانستان بعد سنوات طويلة، واضطُرا للانسحاب».