قرب جدار تعلوه الأسلاك الشائكة بين الحدود السورية - التركية، شمال غرب سوريا، مشى العسكري المسلح تجاه الجانب السوري نحو طفل كان يلهو مع أطفال آخرين، كالمعتاد، بالتسلق على الجدار، سحبه بقوة نحوه وراح يضربه دون سبب واضح للطفل الضحية ثم نقله إلى الجانب التركي ليكمل التعذيب الذي ترك كدمات واضحة على جسمه وصدمة نفسية لن تزول بسهولة.
«الشرق الأوسط» رصدت الاعتداءات التي تتكرر مع أطفال ومزارعين، لم يتسببوا بأي تجاوز يستحق عنف الحرس الحدودي.
كشفت الثواني القليلة في مقطع فيديو انتشر سريعاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي في فبراير (شباط) الماضي، عن واقع مرير ومستمر، عند الحدود الفاصلة بين مخيمات «تل الكرامة» في ريف إدلب الشمالي وولاية هاتاي التركية.
ومنذ أن أغلقت تركيا حدودها الجنوبية في وجه الفارين من الحرب عام 2016، بعد اتفاق مع الاتحاد الأوروبي على وقف تدفق اللاجئين براً وبحراً نحو أوروبا، تواترت الأخبار عن تعرض مئات السوريين للقنص والتعذيب عند محاولتهم قطع الحدود من خلال التهريب.
لكن الاعتداءات التي بات يخشى منها سكان الشمال الغربي، تحدث على الأراضي السورية أيضاً، لنازحين صدف أن مخيمهم ملاصق للجدار الحدودي الذي بدأت تركيا إنشاءه عام 2019، يفاجئهم عناصر حرس الحدود التركي من وقت إلى آخر باعتداء دون مبرر واضح، سوى الترهيب أو العنصرية أو حتى التسلية.
قنص أطفال وكبار سن
«طلب مني العسكري قدّاحة»، قال عبد الرحمن، الفتى الذي ظهر بمقطع الفيديو الرائج، متحدثاً لـ«الشرق الأوسط». وتابع: «ثم جذبني وبدأ يضربني، جاء عسكري آخر وضربني أيضاً، واستمر الاثنان بضربي أثناء نقلي إلى النقطة العسكرية التركية. احتُجزت ليلة كاملة لدى العساكر الأتراك»،
العنف استمر إلى حين تدخل ضابط تركي بإسعافه ومن ثم نقله صباحاً إلى بوابة حدودية ليعود إلى منطقة الشمال الغربي السوري.
بعد أسابيع قليلة على الحادثة، لا تزال الرضوض واضحة على جسد عبد الرحمن، الذي لم ينل أي اعتذار ولا حصل على تعويض، لكنه على الأقل يشعر بـ«الامتنان» حيال من لم يقم بضربه من الأتراك.
وبحسب عبد الرحمن، فإن الاقتراب نحو الجدار الحدودي من جديد للهو مع صحبه، لن يحدث في أي وقت قريب «لم أعد أجرؤ على الاقتراب من الجدار»، لكنني أتمنى أن يعاقب المسؤولون الأتراك من قاموا بضربي».
توثيق دولي
وكانت المنظمة الدولية «هيومن رايتس ووتش»، قد وثّقت في تقريرها الصادر في أبريل (نيسان) 2023 تحت عنوان «حرس الحدود الأتراك يعذبون ويقتلون السوريين»، ارتكاب الحرس انتهاكات متنوعة ضد السوريين «دون ملاحقة قانونية جدية من الطرف التركي».
وسجل مراقبون حقوقيون 11 حادثة إطلاق نار من قِبل حرس الحدود الأتراك على المدنيين في الجانب السوري، بين مايو (أيار) 2016 حتى مطلع عام 2023، قُتل خلالها ما لا يقل عن ستة أشخاص وجُرح ستة آخرون، بحسب تقرير المنظمة الحقوقية الذي دعا تركيا إلى «وضع حد للإفلات من العقاب»، للعمل على وقف الانتهاكات «الروتينية» على الحدود السورية.
وفي 13 مارس (آذار) من العام الماضي، قنص جندي تركي فلاحاً سورياً يبلغ من العمر 59 عاماً أثناء حراثة أرضه في قرية خربة الجوز بريف إدلب الجنوبي، حيث «أطلق عليه النار وظل الجندي يحدق بالضحية لثوان، قبل أن يعود إلى شاحنته ويغادر المكان»، بحسب ما أوردت «هيومن رايتس ووتش» عن شهادة اثنين من أقربائه.
في حالة أخرى: كانت ياسمين، طفلة تبلغ من العمر سبع سنوات، تلعب في السابع من يناير (كانون الثاني)، قرب الشريط الحدودي مع ابنة خالها، عندما قرر أحد العساكر الأتراك قنصها بطلقتين متتاليتين على فخذها وقدمها اليسرى.
«أصابها هبوط بالقدم»، قال خليل، خال الطفلة ياسمين لـ«الشرق الأوسط، شارحاً الحالة الطبية المتعلقة بتلف الأعصاب في طرفها الأيسر الذي أدى إلى تفاوت طول في قدميها ومعاناتها من صعوبة المشي.
لم تعد ياسمين قادرة على اللعب مع أصدقائها، بل أصبحت تتحاشى مغادرة المنزل بالكامل بعد تعرّضها للتنمر من بقية الأطفال ووصفها بـ«العرجاء» نتيجة إصابتها.
خليل، المقيم مع عائلة أخته في بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي، قال إن ازدحام مخيمات النازحين في المنطقة الحدودية «الآمنة»، يدفع الأطفال للعب في المساحات الواسعة المكشوفة قرب الجدار الحدودي.
«كل عام تتكرر حالات مماثلة» بحسب خليل، مشيراً إلى اعتداءات الأتراك عبر الحدود التي تتفاوت ما بين رمي الحجارة والسباب وإطلاق الرصاص أو التجاهل التام. يقول: «العام الماضي حصلت حادثة في الريف الجنوبي (محافظة إدلب)، وفي اليوم ذاته (الذي تعرّضت فيه ياسمين لإطلاق النار) حصلت حادثة في مخيم الكرامة».
معلومات عن أطمة
يذكر أن 3.4 مليون شخص من أصل 5.1 مليون مقيم في شمال غربي سوريا، هم من النازحين والمهجرين قسرياً من المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام السوري، بينهم مليونان يقيمون في المخيمات، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة.
بلدة أطمة في ريف إدلب الشمالي، تضم الكثير من المخيمات المزدحمة التي بدأ تشكلها منذ عام 2012، استمرار التوترات الأمنية كان له الأثر الأكبر في دفع السكان للجوء إلى أقرب نقطة ممكنة من الحدود التركية بحثاً عن الأمن؛ إذ إن تركيا ليست مجرد جار حيادي في الصراع الدائر في البلاد منذ 13 عاماً، بل تدخلت سياسياً وعسكرياً لسنوات كضامن للفصائل المسيطرة على المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام.
كما استقبلت الجارة الشمالية نحو 3.5 مليون لاجئ سوري على أراضيها، وكانوا خلال السنوات الماضية مادة للتحريض والاستغلال الدعائي من قِبل الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد، ترافق مع تصاعد خطاب الكراهية وموجات العنصرية بين الأتراك تجاه السوريين.
وعلى الرغم من أن إدلب لا تخضع للإدارة التركية المباشرة، على غرار ريف حلب الشمالي، وإنما تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» المصنفة إرهابياً من قِبل الولايات المتحدة، تُعدّ تركيا المنفذ الاقتصادي الوحيد للمنطقة والمنفذ لدخول المساعدات الإنسانية التي يحتاج إليها 4.2 مليون شخص؛ ما يجعلها المتحكم الأول بمصير السكان في الشمال الغربي.
يشعر خليل بالعجز أمام نظرات ياسمين الحزينة وآلامها المستمرة في ساقها العاجزة؛ إذ لا أمل بمحاسبة المعتدي ولا الحصول على تعويض أو إثارة اهتمام تركي بالحادثة.
يقول وهو يبتسم رداً على سؤال عن جهوده بالشكوى ورفع قضية ضد الحرس في تركيا: «المشتكى لله وحده، ما من أحد نشتكي إليه سوى الله».