لعبة الحرب... غزة نموذجاً

«حماس» تعتمد الدفاع الاستراتيجي مقابل الهجوم التكتيكيّ... وإسرائيل تتبنى الهجوم الاستراتيجي مع الدفاع التكتيكيّ

قوات إسرائيلية على حدود قطاع غزة يوم الاثنين (إ.ب.أ)
قوات إسرائيلية على حدود قطاع غزة يوم الاثنين (إ.ب.أ)
TT

لعبة الحرب... غزة نموذجاً

قوات إسرائيلية على حدود قطاع غزة يوم الاثنين (إ.ب.أ)
قوات إسرائيلية على حدود قطاع غزة يوم الاثنين (إ.ب.أ)

لماذا تمارس جيوش الدول لعبة الحرب؟ وهل فعلاً تساعد هذه اللعبة على فهم تعقيدات الحرب وخباياها؟ وهل تسهم هذه اللعبة في إماطة اللثام عن أسرار هذه الحرباء، كما سمّاها المفكّر البروسي كارل فون كلوزفيتز؟ وهل يمكن القول: إن الجيش الذي يُجرّب لعبة الحرب التي يستعدّ لها هو حُكْماً مُنتصر؟ وماذا لو مارس العدو من الجانب الآخر اللعبة نفسها، وجرّب لعبة الحرب؟

يُنظَر إلى المفكّر العسكري البروسي جورج هنريش رودولف رايسويتز (1794 - 1827) على أنه أبو لعبة الحرب (Kriegsspiel). فهي وسيلة للتدريب، وفتح أفق استنباط الحلول الممكنة. وهي تجسيد عمليّ مرئيّ وملموس، لشكل الحرب التي لم تقع بعد. هي مسرح يُجسّد الاستراتيجيّة العسكريّة الكبرى على أرض الواقع. في لعبة الحرب، تُختبر المفاهيم. سُمّيت في بعض الأحيان «صندوق الرمل». يُستعمل الرمل في هذا الصندوق لتجسيد طبيعة أرض المعركة، إن كان في الجغرافيا أو الطوبوغرافيا. فتُنحت الجبال في رمل الصندوق، كما الوديان. وتُرسم حدود الغابات، هذا إذا وُجدت. وعلى الرمل تُرسم الحدود بين القوى العسكريّة وتُحدّد القطاعات. كما يتظهّر الانتشار العملاني للقوى الصديقة كما العدوّة. وبعد الانتهاء من إعداد هذا الصندوق، يبدأ القادة بوضع السيناريوهات الممكنة للعدو عبر تحريك القطع والرموز المزروعة في الرمل، والسعي لخلق الحلول التكتيكيّة، العملانيّة وأيضاً الاستراتيجيّة. لصندوق الرمل مقياس متري كما للخريطة العاديّة، لكنه بثلاثة أبعاد (3D’s).

جنود إسرائيليون يشاركون في العمليات داخل قطاع غزة يوم الاثنين (الجيش الإسرائيلي - أ.ف.ب)

باختصار، إنها عمليّة مُحاكاة (Simulation) لحرب أو معركة لم تحصل بعد. فعلى سبيل المثال، أعدت البحريّة الأميركيّة خطة الحرب البرتقالية (Orange Plan) للأعوام (1930 - 35). ركّزت هذه الخطة على حرب بحريّة مُحتملة مع اليابان في المحيط الهادئ.

في الستينات، جرّبت أميركا لعبة الحرب عن نتائج حرب فيتنام المحتملة. فاتت النتيجة على الشكل التالي: الانتصار سيكون شيوعيّاً، وستصل الحرب إلى طريق مسدود (Stalemate)، وستحصل مظاهرات في الداخل الأميركي مناهِضة للحرب.

قد يستعمل لعبة الحرب فريق سياسي معيّن بهدف تمرير سياسات معيّنة، والتأثير على الخيارات وحتى على الموازنات الماليّة. هكذا يحصل اليوم في أميركا من مايك غاليغر، النائب الجمهوريّ، لتضخيم الخطر الصيني. وبناءً على لعبة الحرب التي أعدّها هذا النائب، يتبيّن أنه يجب على أميركا تسليح تايوان حتى العظم.

«حماس» في مواجهة الجيش الإسرائيليّ

وهنا يمكن الكلام عن حرب غزة الحالية والمواجهة الدائرة بين «حماس» والجيش الإسرائيليّ.

مقاتلون من «كتائب القسام» في حركة «حماس» بمدينة رفح يوم 31 يناير عام 2017 (أ.ف.ب)

«حماس»:

تعتمد هذه الحركة الفلسطينية على الدفاع الاستراتيجيّ، مقابل الهجوم التكتيكيّ. هي هاجمت في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لكنها حالياً تدافع بشراسة داخل قطاع غزة. وبسبب التراكمات الدمويّة مع إسرائيل، أخذت «حماس» الدروس وأدخلتها في عقيدة القتال الخاصة بها. فلنُسمّها خطة الحرب (War Game) المحتملة للحرب مع الجيش الإسرائيليّ. وكي تدافع، فإن عليها أن تصدّ تقدّم الجيش الإسرائيلي إلى أطول فترة ممكنة، وذلك بهدف كسب الوقت مقابل استنزاف هذا الجيش، لتأتي الخطة الدفاعيّة على 3 مستويات:

• تحضير المناطق الخالية تقريباً من السكان (الزراعيّة) للدفاع التأخيري المرن (Flexible Defense)، إن كان في شمال القطاع، أو وسطه، وكذلك في جنوبه، ويكون ذلك عبر زرع الألغام، وحقول المتفجّرات، وأماكن معدّة مسبقاً للكمائن. ومع تخصيص أقل عدد ممكن من المقاتلين لهذه المناطق.

زعيم «حماس» في قطاع غزة يحيى السنوار في احتفال بمناسبة «يوم القدس» في 14 أبريل العام الماضي (د.ب.أ)

• إعداد تخوم المدن للدفاع عنها، وذلك عبر الاشتباك من بُعد. كلّ ذلك مع السعي الحثيث لاستمرار إطلاق الصواريخ بعيدة المدى على الداخل الإسرائيليّ.

• تحضير داخل المدن لحرب أفقيّة على سطح الأرض، وعموديّة إيجابيّة في المباني المرتفعة، كما هي عموديّة سلبيّة تحت الأرض وفي الأنفاق.

الجيش الإسرائيليّ:

بناءً على تجارب القتال مع «حزب الله» اللبنانيّ، ومع حركة «حماس» في قطاع غزة، عمد رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي هرتسي هاليفي، إلى تدريب الجيش الإسرائيلي على الحرب الهجينة (Hybrid)، وذلك حتى قبل وصوله إلى مركز رئاسة الأركان. ارتكزت عقيدته القتاليّة على القتال المُشترك بين القوى (Combined Arms)، وهي:

قوات إسرائيلية على الحدود مع قطاع غزة يوم الاثنين (إ.ب.أ)

• المشاة ومن كل الاختصاصات، قوات عاديّة، قوات خاصة وضمناً القوات المظليّة.

• تحمل هذه القوات آليات مدرّعة مجهّزة بأنظمة حماية خاصة ضد الأسلحة المضادة للدروع (Trophy). ومن هذه الآليات، هناك دبابة الميركافا، بالإضافة إلى حاملتي الجند «إيتان» و«النمر».

• يرافق هذه القوى سلاح الهندسة، والوحدات المتخصصة بكيفيّة إيجاد الأنفاق والتعامل معها كما يجب.

• تشكّل المسيّرات العين المتقدّمة لهذه القوات، كما تشكّل الطوافات الدعم الناري المباشر للهجوم.

• بُنيت مدن لتدريب هذه القوى مشابهة تماماً للمدن الفلسطينيّة.

وأخيراً، تعتمد إسرائيل، وبعكس «حماس»، الهجوم الاستراتيجيّ، مع الدفاع التكتيكيّ. حالياً تدافع «حماس» استراتيجيّاً، كما تهاجم إسرائيل استراتيجيّاً. فماذا ستكون عليه نتيجة هذه الحرب الدمويّة؟ إن غداً لناظره قريب.


مقالات ذات صلة

تقرير: نتنياهو يريد تغيير رئيس أركان الجيش خلال 60 يوماً

شؤون إقليمية (من اليمين) رونين بار مدير «الشاباك» ويسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلية وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء وهرتسي هاليفي رئيس أركان الجيش (حساب كاتس عبر منصة «إكس»)

تقرير: نتنياهو يريد تغيير رئيس أركان الجيش خلال 60 يوماً

قالت هيئة البث الإسرائيلية إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس يريدان تقديم رئيس الأركان الإسرائيلي هيرتسي هاليفي استقالته.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
العالم العربي طائرة تقلع من مطار بيروت يوم 7 أكتوبر 2024 (رويترز)

شركات طيران تعلق رحلاتها للشرق الأوسط مع تفاقم التوتر

دفعت المخاوف من اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط شركات طيران عالمية إلى تعليق رحلاتها إلى المنطقة أو تجنب المجالات الجوية التي تنطوي على مخاطر.

المشرق العربي فتى فلسطيني يقفز قرب صاروخ غير منفجر بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من مخيم النصيرات الجمعة (إ.ب.أ)

دبابات إسرائيلية تنسحب من مخيم النصيرات مخلِّفة عشرات القتلى

قال الجيش الإسرائيلي إن قواته التي تنفذ عمليات منذ الخامس من أكتوبر تستهدف منع مسلحي «حماس» من معاودة تنظيم أنفسهم وشن عمليات.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي جنود إسرائيليون خلال العملية البرية داخل قطاع غزة (رويترز)

تقرير: إسرائيل تخطط للبقاء في غزة… وجنود يكشفون عن بناء معسكرات

قالت صحيفة «الغارديان» البريطانية إن آفي ديختر، وزير الأمن الغذائي وعضو مجلس الوزراء الأمني ​​الإسرائيلي صرح بأن جيش بلاده سيبقى في غزة لسنوات عديدة

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمر صحافي في كازاخستان (رويترز)

فرنسا ترفض توضيح موقفها من توقيف بوتين بموجب مذكرة «الجنائية الدولية»

أحجمت فرنسا عن الإفصاح عن استعدادها لاعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بموجب مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية من عدمه.

«الشرق الأوسط» (باريس)

جنبلاط: دور الجيش أسقط «الأمن الذاتي»... وجعجع: لا عودة إلى ما قبل 7 أكتوبر

اجتماع تكتل «الجمهورية القوية» برئاسة رئيس «القوات» سمير جعجع (حزب القوات اللبنانية)
اجتماع تكتل «الجمهورية القوية» برئاسة رئيس «القوات» سمير جعجع (حزب القوات اللبنانية)
TT

جنبلاط: دور الجيش أسقط «الأمن الذاتي»... وجعجع: لا عودة إلى ما قبل 7 أكتوبر

اجتماع تكتل «الجمهورية القوية» برئاسة رئيس «القوات» سمير جعجع (حزب القوات اللبنانية)
اجتماع تكتل «الجمهورية القوية» برئاسة رئيس «القوات» سمير جعجع (حزب القوات اللبنانية)

قال الرئيس السابق لـ«الحزب التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، إن الدور الذي قام به الجيش اللبناني خلال الحرب أسقط كل الادعاءات السخيفة ولكن الخطيرة بما يُسمى في الأمن الذاتي، في وقت عدّ فيه رئيس حزب «القوات اللبنانية»، سمير جعجع، أن «(حزب الله) ارتكب جريمة كبيرة بحق اللبنانيين»، مؤكداً أنه لا عودة إلى ما قبل 7 أكتوبر.

وتأتي مواقف جنبلاط وجعجع مع ارتفاع الأصوات في لبنان، بعد وقف إطلاق النار، الرافضة لما يقول «حزب الله» على لسان مسؤوليه إنه «انتصار»، لا سيما في ظل الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية التي نتجت عن الحرب التي استمرت أكثر من شهرين.

وتحدّث جنبلاط، في لقاء موسع مع حزبيين، عن اتفاق وقف إطلاق النار الأخير والقرارات الدولية السابقة، قائلاً: «بانتظار الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأرض اللبنانية، وتطبيق كل القرارات الدولية من (1701) إلى اتفاق الهدنة، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن القرار الدولي (242)، الصادر في عام 1967، لا يشمل لبنان، أي أن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا هي عملياً أراضٍ سورية محتلة، إلى أن يجري الترسيم بين الدولة اللبنانية والدولة السورية، وعندها تصبح لبنانية. لكن في الوقت الحاضر ليست لبنانية، والقرار (242) لا يشمل لبنان».

وأضاف: «بانتظار أن تعود إلى الدولة اللبنانية حصرية امتلاك السلاح، وحصرية إعلان قرار الحرب والسلم»، موجهاً التحية إلى «رئيس البرلمان نبيه بري الصديق الكبير والحليف التاريخي، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي؛ اللذين عملا على إنجاح وقف إطلاق النار عبر الوسيط الأميركي آموس هوكستين، وأيضاً الاهتمام الدائم والكبير للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون».

رئيس «الاشتراكي» السابق وليد جنبلاط (رويترز)

من جهته، تحدّث جعجع عن سقوط نظرية «وحدة الساحات»، مشيراً إلى أن نتائج «حرب الإسناد» التي فتحها «حزب الله» كانت دمار غزة كلياً ودمار لبنان، ومنتقداً كلام مسؤولي «حزب الله» عن «الانتصار بمنطق عجيب غريب لا يمت إلى الواقع بصلة».

رئيس حزب «القوات» سمير جعجع (حزب القوات)

وقال جعجع، بعد اجتماع استثنائي عقده تكتل «الجمهورية القوية» والهيئة التنفيذية في حزب «القوات»، لمناقشة اتفاق وقف إطلاق النار: «(حزب الله) أخذ لبنان إلى حرب كان غالبية اللبنانيين ضدها، وبُذلت جهود كثيرة لإيقافها طوال الأشهر الماضية، عبر وزراء خارجية؛ لإقناعه بوقفها، لكنه تمسّك بموقفه وأصر على الاستمرار بما يقوم به».

ورأى أن «(حزب الله) ارتكب جريمة كبيرة في حق اللبنانيين، وفي حق سكان البقاع والجنوب والضاحية، وكنا في غنى عن استشهاد أكثر من 4000، وعن تهجير من تهجّر وتدمير ما تدمّر، ورغم كل هذه الكوارث لا يزال نواب الحزب يتحدثون عن (انتصار) بمنطق عجيب غريب لا يمت إلى الواقع بصلة».

وأضاف: «على جماعة (حزب الله) أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، وعليهم الاجتماع مع قيادة الجيش ووضع خطة لتفكيك بنيتهم العسكرية شمال الليطاني»، مجدداً تأكيد عدم شرعية سلاح «الحزب»، وقال: «نحن في الأساس، لا نعد أن سلاح (حزب الله) شرعي، والقرار الذي وافق عليه الحزب بنفسه لوقف إطلاق النار يشكّل أكبر دليل على عدم شرعية هذا السلاح»، مشدداً: «لا يمكن العودة إلى الوضعية التي كنا عليها قبل السابع من أكتوبر في لبنان».

وأضاف: «ولّى زمن عدم تنفيذ الاتفاقات والتعهدات. الحكومة ومجلس النواب، كما (حزب الله)، يجب أن يقفوا أمام مسؤولياتهم، ويعملوا على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، بما يخدم مصلحة لبنان ويؤمن استقراره. ووفق الاتفاق، السلاح يجب أن يبقى في يد الجيش اللبناني والقوى الأمنية فقط».

وعبّر جعجع في المقابل «عن التعاطف مع العائلات التي فقدت أحد أفرادها ومع الجرحى، وكل من فقد منزلاً أو رزقه، وكل من اضطر إلى ترك منزله».

وأكد جعجع أن «جميع اللبنانيين مع القضية الفلسطينية؛ لأنها قضية حق، ولا يمكن لأحد أن يزايد على الآخر في هذا الشأن، ولكن الكارثة تكمن في زجّ لبنان في المشكلات عبر المتاجرة بهذه القضية، وكأن لبنان هو من يستطيع حلها».