مدينة طرابلس عاصمة للثقافة العربية... والبؤس اللبناني

توفيق سلطان: رفيق الحريري مُنع عليه العمل في المدينة

الجامع المنصوري الكبير في طرابلس (أرشيفية)
الجامع المنصوري الكبير في طرابلس (أرشيفية)
TT

مدينة طرابلس عاصمة للثقافة العربية... والبؤس اللبناني

الجامع المنصوري الكبير في طرابلس (أرشيفية)
الجامع المنصوري الكبير في طرابلس (أرشيفية)

يشكو كبار مدينة طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، من التردي الكبير في أوضاع المدينة التي تحتفل بتتويجها «عاصمةً للثقافة العربية» بعد أن باتت على هامش التطور، بل تعاني تأخراً على جميع المستويات، بعد أن كانت رائدة في التطور المدني في لبنان.

ويقول ابن المدينة، توفيق سلطان، إن «المدارس الخاصة كلها صارت خارج طرابلس. كلية التربية والتعليم بمبناها التراثي مغلقة. مسرح الإنجا العريق الذي يتسع لـ800 كرسي هُدم. يوجد في لبنان 22 متحفاً وليس في طرابلس متحف. كان ثمة مكتبه قضوا عليها. لا توجد بلدة حولنا بلا فندق باستثناء طرابلس. قرب بيتي مدرسة فندقية مغلقة، هي أوتيل ومطبخ لم يُستخدم بعد، كلّف 800 ألف دولار، لماذا لا يتم تلزيمه؟».

صديق الرؤساء والزعماء في لبنان والعالم العربي، يفتح لك صناديقه وصوره، وهو يستعيد تاريخاً حافلاً، مع كمال جنبلاط، حيث لا يزال منخرطاً في الحزب الاشتراكي، وكذلك ترى صورة له مع الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري وكثر آخرين. تشاهده على خط بارليف، وفي جنازة جمال عبد الناصر.

توفيق سلطان (أرشيفية)

«تخلّت الدولة عن طرابلس، طوّقوها وحاصروها، خنقوا أهلها، زوّروا تمثيلها بقوانين انتخاب سيئة، وانتخابات أسوأ. أوصلوا طبقة سياسية لا قدرة لها على حمل طرابلس، بقيمتها التاريخية والجغرافية». وحين نسأله: من هم؟ يقول: «جميعهم دون استثناء».

يروي سلطان أن وزيرة النقل الهولندية قالت للوزير السابق عمر مسقاوي، إن «موقع طرابلس فريد من نوعه». وفي رأيه أن طرابلس لها من المرافق ما يجعلها كنزاً. مرفأ طرابلس مساحته شاسعة، وإمكاناته كبيرة. ربطه بطريق إلى دمشق يكلف مليوني دولار، ويقع قرب سكة حديد بطول 35 كلم حتى الحدود السورية. أما مرفأ بيروت فمخنوق، لا تمكن توسعته متراً واحداً، تخرج منه الشاحنات وتمر في قلب العاصمة، وتأخذ طريق الجبل الصعب إلى الشام، وتكاليفه عالية. هو متيقن أن «طرابلس لا تزدهر إلا إذا رُبطت بسوريا. الحرب ستنتهي وطرابلس عليها أن تتهيأ». سكة الحديد التي تربط لبنان بسوريا معطلة منذ 40 سنة. تم شراء حديد السكك، ووضع حجر أساسها منذ 15 سنة، والعمل لم يبدأ.

قلعة طرابلس قبل التشوهات العمرانية التي أحاطت بها (أرشيفية)

يسمونه «أبو المرفأ». يروي أن والده كان رئيساً لبلدية طرابلس في الخمسينات. وتعمل في الميناء شركة إيطالية، اقترحت تطوير الميناء ليزداد عمقه من 7 إلى 11 متراً. «ذهب أبي ورئيس بلدية الميناء سعدي غازي، وأنا عند كميل شمعون. كان عمري 15 سنة. دخل شمعون واستقبلنا بترحاب، عندما أخبره أبي باقتراح الطليان تغيَّر لونه، وهبّ واقفاً وقال: أستاذ سلطان مرفأ طرابلس لن يكون. حين يصبح لمرفأ بيروت 100 حوض بيصير عندكم مرفأ. من بيروت إلى أنطلياس وأبي يردد: لماذا كل هذا التعصب؟ بقيت هذه الحادثة محفورة في رأسي، وبقيت كل حياتي أتابع المرفأ».

يتحدث توفيق سلطان عن محاولاته لتطوير المرفأ. دعمه الرئيس السابق للحزب التقدمي وليد جنبلاط، ورئيس البرلمان نبيه بري، لكن ثمة دائماً مَن يعترض. تمنى بناء إهراءات لحفظ القمح، قبل انفجار مرفأ بيروت، ولم ينفَّذ. في النهاية تمت بعض المشاريع بتمويل ذاتيّ من المرفأ نفسه، الذي له وفرة اليوم 20 مليون دولار، تعهدت الدولة بدفع 30 في المائة من المشروع، ولم تدفع.

يكرر سلطان أن «طرابلس في التاريخ أهلها عملوها. لم يكن من ماء، أسسوا شركة (رشعين). جرّ مهندس من بيت سلهب المياه 17 كيلومتراً إلى طرابلس، باعت النساء مصاغهن وفرش الصوف وأواني النحاس، لتمويل المشروع. شركة الكهرباء قاديشا الأمر نفسه، كانت تبيع سوريا 200 ميغاواط قبل الحرب، كذلك سكة الحديد التي موّلها طرابلسيون».

يتحدث عن «مصفاة النفط المعطلة منذ 40 سنة». «أكثر من 5 ملايين متر مربع، مساحة المصفاة، ثروة هائلة بالإمكان تشغيلها وتسييل الغاز فيها. يوجد خط غاز أنابيب ممتد من سوريا إليها، كلّف 25 مليون دولار، إضافةً إلى 500 موظف».

يتناسل الكلام عن المشاريع المهمَلة. الملعب الأولمبي يُفترض أن يكون ثروة «صرفوا على بنائه 20 مليون دولار، وتركوه بلا موقف للسيارات. بمقارنة بينه وبين ملعب صيدا الأولمبي، نجد الثاني في كامل بهائه، أما الأول فليس مفهوماً إن كان ملعباً أم ثكنة عسكرية».

أيضاً المحاولة لإقامة شركة كهرباء خاصة «نور الفيحاء»، كان على رأسها الرئيس نجيب ميقاتي، لم تكتمل وفُضَّت بعد تأسيسها، «لأن رئيس الجمهورية حينها ميشال عون قال لنا، اسألوا جبران باسيل. أقمت مؤتمراً صحافياً وأعلنت أننا لا نمشي وراء جبران، وإنما نتعامل مع الدولة».

«المشاريع الكبرى بحاجة لأكتاف تحملها. النخبة الطرابلسية سافرت»، يعطي مثلاً: غسان غندور، من عائلة غندور التي كان لها مصانع في طرابلس، كلها أُقفلت. يقيم في اليونان عنده بواخر عملاقة تنقل 300 ألف طن. هناك نافذ الجندي، يقيم في السعودية، مشاريعه في لبنان وخارجه. سفيان الصالح ابن الشيخ صبحي الصالح من أكبر المهندسين في الإمارات. لماذا لا يستعان بالنخبة ويقام مجلس لإنماء طرابلس؟

يعتقد توفيق سلطان أن الانحدار الطرابلسي جاء تدريجياً. مع إعلان لبنان الكبير، قامت مظاهرات في طرابلس ضد الانفصال عن سوريا، كان رفضاً اقتصادياً وليس سياسياً. طرابلس كانت تخدم الساحل والداخل السوريين، البرجوازية السورية كانت لها بيوت في طرابلس. والمدينة مرفأ طبيعي لسوريا. يقول سلطان: «الفرنسيون قالوا للبطرك حويك عند الاستقلال، ما يهمك من طرابلس، ستخلّ بالديمغرافيا، قال لهم: إذا تركت طرابلس خارج خريطة لبنان الكبير، ستشكّل منافسة لبيروت».

خان الخياطين في طرابلس (أرشيفية)

ركز الإنجليز على ميناء حيفا، والفرنسيون أرادوا إبراز دور بيروت. أوائل القرن التاسع عشر، كان عدد سكان طرابلس أكبر من سكان بيروت.

يتحدث عن بدء نمو بيروت في ذلك الوقت، وظهور شركة «دريجانس»، التي سيّرت عربات تجرها البغال من بيروت إلى الشام، واختُصر الوقت إلى 11 ساعة مع استراحة في شتورة. الشركة نفسها تولت تسيير القطار، بمعونة شركة سويسرية ثم رصفت الطريق.

«خُنقت طرابلس وكُتمت أنفاسها. نهاية الأربعينات كان في طرابلس مستشفى أميركي، تم هدمه، ومستشفى إيطالي لا مثيل له اليوم».

يستذكر يوم أعدمت إيطاليا عمر المختار وكان في طرابلس 7 راديوهات فقط. خرج ما يقارب 30 ألف طرابلسي، وأحرقوا القنصلية الإيطالية في المدينة، وحين حاول عبد الحميد كرامي تهدئتهم، تعرضوا له.

«لبنان الكبير أصبح حقيقة. عبد الحميد كرامي كان مع تركيا، البعض صار بعدها مع الإنجليز، لم تكن عروبة رجالات الاستقلال صافية. عبد الحميد وغيره استقووا بالإنجليز للتخلص من الفرنسيين. قفزوا من العروبة».

صار مرفأ بيروت ينمو ويضمر مرفأ طرابلس. الجامعات تُفتح في بيروت، وتُغلَق عندنا. طرابلس وميناؤها، كانا مركزاً لتجار الأخشاب، ولها امتداد إلى الإسكندرية والإسكندرون. أُقيمت مشاريع فاقدة للرؤية. «عندما صار طوفان نهر أبو علي في منتصف الخمسينات، تعاملوا مع النهر كأنه الأمازون، حوّلوه إلى مجرور، تلاه سقف النهر، وإقامة سوق للثياب المستعملة فوقه. هذه فاجعة».

حين نسأله، لماذا الشكوى؟ ولماذا لم يقم رفيق الحريري بمشاريع تُنقذ طرابلس، وهو كان مقرباً منه؟ «كان ممنوعاً عليه أن يعمل في البلد، حتى في بيروت بحدود، تُقصقص جوانحه كي لا يطير. سافرت إلى مصر لسنوات وحين عدت هُدِّدتُ، وتمت مضايقتي».

ساحة التل في طرابلس (أرشيفية)

قدم لرفيق الحريري خمسة مشاريع لطرابلس، «واحد لمنطقة التل الأثرية التي أردنا أن نحدّثها، ونقيم مرآباً تحتها، واعترض الناس. ومشروع منطقة سياحية تربط بين شط الميناء والجزر البحرية وامتدادها خان التماثيلي الثري بمساحته الكبيرة، ولم نتمكن منه. ومحطة التسفير حيث أقيمت اثنتان في بيروت وصيدا، لكنّ محطة طرابلس كانت دونها عقبات».

اتُّهمت طرابلس بالظلامية وأُلبست ما ليس لها. «لكنّ المجلس البلدي الذي ليس فيه مسيحي واحد، اجتمع واتخذ قراراً بتسمية سبعة شوارع باسم مطارنة. وفي المدينة شارع الراهبات، وشارع الكنائس، ومار مارون، وحارة السيدة. هل في جونية شيء مشابه؟ لقد ألبسوا المدينة ثوباً تنكرياً».


مقالات ذات صلة

ترحيب عربي ودولي بتشكيل الحكومة اللبنانية... «فصل جديد ومشرق»

المشرق العربي الرئيس اللبناني جوزيف عون يوقع مرسوم تشكيل حكومة نواف سلام في قصر بعبدا (أ.ف.ب) play-circle

ترحيب عربي ودولي بتشكيل الحكومة اللبنانية... «فصل جديد ومشرق»

رحبت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، جينين هينيس بلاسخارت، بتشكيل حكومة جديدة في لبنان، عادّة أنها تمثّل «فصلاً جديداً ومشرقاً» للبلاد.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي سوريون يحاولون عبور الحدود إلى لبنان عقب سقوط بشار الأسد (إ.ب.أ)

عون والشرع يتفقان على التنسيق لضبط الحدود ومنع استهداف المدنيين

أفادت الرئاسة اللبنانية، الجمعة، بأن الرئيس جوزيف عون أجرى اتصالاً هاتفياً مع الرئيس السوري أحمد الشرع.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي رئيس الوزراء اللبناني المكلف نواف سلام يصل للقاء الرئيس اللبناني جوزيف عون بالقصر الرئاسي في بعبدا (رويترز)

عون يجتمع مع سلام سعياً إلى حل مشكلة الحكومة اللبنانية

أفادت الرئاسة اللبنانية، اليوم الجمعة، بأن الرئيس جوزيف عون عقد اجتماعاً مع رئيس الحكومة المكلف نواف سلام في قصر بعبدا.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي جرافة تابعة للجيش اللبناني تفتح طريقاً قطعت بالردم جراء القصف الإسرائيلي في الطيبة بجنوب لبنان (أ.ف.ب)

إسرائيل تصعّد بالقصف الجوي في شرق لبنان وجنوبه

عاد الطيران الحربي الإسرائيلي ليكثّف نشاطه في الأجواء اللبنانية مستهدفاً مناطق حدودية في شرق لبنان وجنوبه.

بولا أسطيح (بيروت)
المشرق العربي صورة تداولها رواد مواقع التواصل لموقع الغارات الإسرائيلية التي استهدفت بعلبك (أرشيفية - إكس)

غارات إسرائيلية ليلية على جنوب لبنان وشرقه

شنّ الطيران الإسرائيلي ليل الخميس غارات على جنوب لبنان وشرقه، بحسب ما أفاد الإعلام الرسمي، على رغم وقف إطلاق النار بين الدولة العبرية وحزب الله.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

وفد إسرائيلي يصل الدوحة لإجراء محادثات بشأن وقف إطلاق النار في غزة

مقاتلو «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» لحظة تسليم الرهائن الإسرائيليين «للصليب الأحمر» اليوم (د.ب.أ)
مقاتلو «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» لحظة تسليم الرهائن الإسرائيليين «للصليب الأحمر» اليوم (د.ب.أ)
TT

وفد إسرائيلي يصل الدوحة لإجراء محادثات بشأن وقف إطلاق النار في غزة

مقاتلو «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» لحظة تسليم الرهائن الإسرائيليين «للصليب الأحمر» اليوم (د.ب.أ)
مقاتلو «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» لحظة تسليم الرهائن الإسرائيليين «للصليب الأحمر» اليوم (د.ب.أ)

قال أومير دوستري، المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اليوم الأحد، إن الوفد الإسرائيلي وصل إلى العاصمة القطرية الدوحة لإجراء محادثات بشأن وقف إطلاق النار في غزة، وفقاً لوكالة «رويترز».

في السياق نفسه، ذكر موقع «أكسيوس» الأميركي، أمس السبت، أن الوفد الإسرائيلي المتجه إلى الدوحة سيناقش «مسائل فنية فقط»، ولن يتطرق إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة.

وطالبت عائلات المحتجزين الإسرائيليين نتنياهو بمنح وفد التفاوض بالدوحة تفويضاً كاملاً لاستكمال الاتفاق «حتى إعادة آخر محتجز».

وأشار بيان الرابطة التي تمثل عائلات المحتجزين، إلى رسالة من مصدر سياسي تفيد بأن الوفد الذي سيغادر في وقت لاحق إلى قطر سيناقش «أموراً فنية» فقط للاتفاق، وأن مجلس الوزراء لن يناقش المرحلة الثانية إلا عند عودة نتنياهو من زيارته للولايات المتحدة.

وبموجب اتفاق غزة الذي أنهى قتالاً استمرَّ أكثر من 15 شهراً، سيتم إطلاق سراح 33 رهينة محتجزين لدى فصائل فلسطينية في غزة خلال الأسابيع الستة الأولى من وقف إطلاق النار، في مقابل المئات من المعتقلين الفلسطينيين الذين يقضي كثير منهم أحكاماً بالسجن المؤبد في إسرائيل.

وتشمل مفاوضات المرحلة الثانية الإفراج عمّا يزيد على 60 رجلاً في سن الخدمة العسكرية. ومن المفترض أن تتيح المرحلة الثالثة إعادة إعمار قطاع غزة وتحديد نموذج للحكم للقطاع الفلسطيني الصغير.