أعادت الهجمات الإيرانية الأخيرة التي طالت منشآت قريبة من ميناء حيفا الإسرائيلي تسليط الضوء على الهشاشة الأمنية والاقتصادية في شمال إسرائيل. فمع تصاعد التوتر العسكري، أصبحت مدينة حيفا، التي تضم أحد أهم المواني الاستراتيجية في إسرائيل، نقطة اختناق تهدد الاقتصاد الإسرائيلي بخسائر فادحة في قطاعات الشحن والطاقة والاستثمار.
وخلال الأسبوع الأخير، شهدت حيفا وسواحلها تصعيداً غير مسبوق بعد استهداف صاروخي إيراني طال مواقع قريبة من ميناء حيفا، بما في ذلك منشآت نفطية حيوية ومصفاة «بازان». وعلى الرغم من عدم إصابة الميناء بأضرار مباشرة وفقاً لتصريحات مشغله، فإن أغلب المستثمرين والمراقبين استقبلوا رسالة واضحة ولا لبس فيها بأن البنية التحتية الاقتصادية لإسرائيل أصبحت في مرمى النيران.
وقد جاء هذا التصعيد في وقت حساس يشهد فيه الميناء إعادة هيكلة تشغيلية واستثمارية منذ أن اشترت شركة «آداني بورتس» الهندية امتياز تشغيل الميناء بصفقة بلغت 1.2 مليار دولار في عام 2023، وذلك ضمن مساعي إسرائيل لخصخصة بنيتها التحتية وتعزيز الاستثمارات الأجنبية.
خسائر مباشرة
الضربة الأولى التي تلقتها إسرائيل لم تكن في البنية التحتية المادية، بل في ثقة الأسواق وشركات الشحن الدولية. حيث أعلنت شركة «ميرسك» الدنماركية، إحدى أكبر خطوط الشحن العالمية، يوم الجمعة، تعليق جميع رحلاتها إلى ميناء حيفا مؤقتاً، مما أحدث اضطراباً فورياً في حركة الواردات والصادرات عبر الميناء.
وتزامن مع هذا القرار ارتفاع كبير في أقساط التأمين على السفن التجارية المتجهة إلى المواني الإسرائيلية، إذ وصلت النسبة إلى ما بين 0.7 و1.0 في المائة من قيمة السفينة، مقارنة مع 0.2 في المائة فقط قبل أسبوع من التصعيد.
ويترجم هذا الارتفاع إلى تكلفة إضافية بملايين الدولارات أسبوعياً، تتحملها شركات الاستيراد والتصدير الإسرائيلية، ومن ثم؛ يتم تحميلها للمستهلك النهائي، بما يسفر عن قفزة أكيدة في التضخم.
كما أن هذا الوضع قد يؤدي إلى تفضيل خطوط الشحن وجهات بديلة في البحر المتوسط، مثل ميناء بورسعيد المصري أو ميناء بيريه اليوناني، وهو ما يقلل من تنافسية ميناء حيفا ويهدد حصته السوقية.
الطاقة في مرمى الخطر
ومن أبرز الخسائر المادية المباشرة توقف مصفاة «بازان» لتكرير النفط، الواقعة على مقربة من الميناء، عن العمل إثر الهجمات. وتعد المصفاة حجر الزاوية في إنتاج الوقود والطاقة في شمال إسرائيل، وتعطلها يعني تأخيراً في توزيع الوقود وزيادة فورية في تكاليف الطاقة.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن كل يوم تعطيل للمصفاة يكلّف الاقتصاد الإسرائيلي نحو 3 ملايين دولار، بالنظر إلى اعتماد الصناعات والنقل المحلي على منتجاتها، وذلك وفقاً لتقرير حديث لصحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية.
ورغم محاولات إسرائيل بث رسائل طمأنة، ومن بينها تصريح لوزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، يوم الجمعة، مفاده أن قطاع الطاقة يعمل بشكل لا تشوبه شائبة ولا يوجد نقص في الوقود، فإن الأخطر من ذلك بحسب المراقبين والمحللين، أن هذا الانكشاف الأمني قد يدفع شركات الطاقة العالمية إلى إعادة النظر في استثماراتها في الحقول البحرية الإسرائيلية مثل «كاريش» و«ليفياثان»، التي تعتمد بدورها على بنية النقل في حيفا لتصدير الغاز إلى الأسواق الأوروبية.
«آداني» تدفع الثمن
ومن بين أبرز الضحايا المباشرين على المدى المتوسط كانت شركة «آداني بورتس»، التي تدير الميناء منذ مطلع 2023. فقد تراجعت أسهم الشركة بنسبة 3 في المائة خلال أسبوع واحد من التصعيد، ما يعكس قلق المستثمرين من مخاطر المنطقة. وتواجه الشركة حالياً ضغوطاً متزايدة من مساهميها لإعادة تقييم موقفها الاستثماري في حيفا، لا سيما مع احتمال حدوث جولات تصعيد أخرى.
ويرى خبراء الاقتصاد أن هذه التوترات ستؤثر سلباً على خطة إسرائيل لاستقطاب استثمارات أجنبية إضافية في مشاريع البنية التحتية، بما فيها خصخصة مواني أخرى مثل أسدود وإيلات.
ماذا بعد؟
من المتوقع أن تتحرك الحكومة الإسرائيلية لتقديم ضمانات تأمينية لشركات الشحن والاستثمار، وربما مراجعة عقود الامتياز طويلة الأجل لتوفير حماية قانونية واقتصادية للشركاء الأجانب.
كما أن اعتماد إسرائيل على عدد محدود من المنافذ البحرية يجعلها عرضة لضغوط سياسية وأمنية مضاعفة، مما يثير تساؤلات حول جدوى تنويع سلاسل الإمداد وتوسيع الشراكات الإقليمية.
ووسط هذا الوضع المرتبك، تكشف أزمة ميناء حيفا عن هشاشة البنية التحتية الاقتصادية الإسرائيلية أمام التهديدات الجيوسياسية. وبينما تتعامل تل أبيب مع تبعات أمنية وعسكرية آنية، فإن تكلفة هذه التوترات الاقتصادية ستستمر في التزايد ما لم تُعالج بتخطيط استراتيجي طويل الأمد. ويكمن التحدي الحقيقي حالياً في استعادة ثقة المستثمرين وشركات النقل، وضمان استمرارية حيوية ميناء يشكل عصباً مركزياً للاقتصاد الإسرائيلي.