خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ

من بسالات الماضي إلى بسالات الحاضر

مما لاحظته في الأيام الأخيرة في لندن تدفق المحاربين القدماء؛ من شيوخ وعجائز، إلى الشوارع يحملون أوسمتهم ويمشون على عكازاتهم ويحاولون جمع مبالغ زهيدة لمساعدة المرضى والمُقعدين في المستشفيات. وكانت استجابات الجمهور مدهشة. خرج رجل عجوز يحمل أوسمته القديمة على صدره... كان الضابط توم موور يتوقع ويتمنى جمع ألف باوند للمستشفيات ووزارة الصحة. ما إن رآه الناس حتى جادوا بمبالغ سخية له. إذا بهم يتبرعون بمبلغ تسعة وعشرين مليون باوند. تمرّ بريطانيا في الأيام الأخيرة بأزمة وباء «كورونا»، والظاهر أنها ذكّرتهم بصعوبات الحرب العالمية الثانية. ومن نتائج ذلك، أن أوحت لهم بالتحدي والصمود.

الجود بالصوت

أنواع الكرم كثيرة. والحكايات عنها أيضاً كثيرة. المألوف في الكرم العربي أن يأتي بصورة الولائم السخيّة والهدايا الثمينة من طعام أو كساء أو أي مادة ملموسة؛ ساعات، أو كاميرات، أو حلى ذهبية أو فضية، أو كتب... ونحو ذلك. ولكن في الثلاثينات والأربعينات ظهرت أشكال جديدة من الكرم. أشياء مجردة لا تُلمس باليد. لا تستطيع أن تأكلها ولا أن تشربها أو تلبسها أو تبيعها... إنها مجرد أصوات. نعم؛ هدايا صوتية. لم يكن في البلاد العربية أي محطات إذاعية في أوائل الثلاثينات. وبالتالي لم تكن هناك أي حاجة لاستيراد الراديوهات. بيد أن السيد هاشم العلوي الذي كان مديراً عاماً للشرطة في بغداد حصل على جهاز راديو سنة 1932.

من المطارحات الشعرية

كان الشاعر والأديب الدكتور عدنان علي رضا النحوي في طريق عودته من زيارة الهند. شاهدَ فيها مبنى تاج محل الشهير في مدينة اكرا. وكان معه عدد من شعراء وأدباء المملكة العربية السعودية. وكان الدرب طويلاً بين البلدين، رغم كل ما بذلته محركات الطائرات العملاقة. وهل من سبيل لإزجاء الوقت بين الأدباء أفضل من المطارحة الشعرية العبثية. قال أحدهم هاتِنا من هجائك شيئاً يا دكتور. وكان الدكتور الشاعر قد انقطع عن الهجاء منذ أمد ليس بالقصير. ولكن أصحابه ألحُّوا عليه بأن يأتيَ بشيء من قريحته.

نبوكو - نبوخذنصر

ظهرت في القرن التاسع عشر الحركة الصهيونية بوصفها ردَّ فعل ضد انتشار وتعاظم الحملة العنصرية المعادية للسامية. وبوحي الفكرة الصهيونية ظهرت أعمال أدبية وفنية عدة بقلم يهود وغير يهود، تُصوّر قيام دولة يهودية تحتضن اليهود؛ كانت منها الرواية التي كتبها هيرتزل؛ أبو الحركة الصهيونية، بعنوان «وطن قديم - جديد». صوّر فيها قيام الدولة اليهودية وكل ما تميزت به من حضارة ومدنية. انقرض معظم هذه الأعمال الأدبية باستثناء رواية هيرتزل التي تبنتها إسرائيل والمنظمة الصهيونية. ولكن كان بين الأعمال التي انقرضت رواية مسرحية فرنسية، لم يكن لها أي شأن.

ترتيب الأسبقيات

من أكثر الأمثلة الشائعة في البلدان العربية المثل القائل: «حضّر المعلف قبل الحمار»، ويقولون أحياناً قبل الحصان. ويقصد به انتقاد من يسيء ترتيب الأسبقيات في معيشته، فيكون شأنه شأن الرجل الذي يبني المعلف أو الاصطبل قبل أن يكون لديه ما يضعه فيه من حصان أو حمار. شيوع هذا المثل في سائر بلداننا العربية إنما يدل على اعتيادنا في سوء ترتيبنا للأسبقيات. هناك أمثلة عربية أخرى تفيد نفس المعنى أيضاً، ومنها ما يرددونه في فلسطين بقولهم «لباس مالوه وتكته أربا طعشر». أي لا يملك لباساً يستر به نفسه ويشتري تكة اللباس بأربعة عشر ديناراً.

العراق في انتقال

كان من أبلغ البرامج التلفزيونية التي اعتاد على تقديمها تلفزيون بغداد برنامج «العراق في انتقال»، الذي كان يجسم تطور البلاد في العهد الملكي. وكنا نلمس ذلك بصورة خاصة في ميدان الطب. فلم يكن الطب الحديث معروفاً في البلاد عند تأسيس مملكة العراق واستقلال الوطن عام 1920. كان الناس يعتمدون بصورة أساسية على الطب التقليدي الشعبي، ولم يكن هناك غير واحد أو اثنين من الأجانب الذين مارسوا الطب الحديث ودرسوا في الخارج. بيد أن الحكومة العراقية الجديدة بادرت إلى سد هذه الثغرة بجلب الأطباء العصريين والأدوية الحديثة والصيدليات المتخصصة.

قم للمدير ووفِّه التبجيلا

العلاقة بين الوزير والمدير، وبين المدير والجمهور علاقة كانت وظلت مصدراً للكثير من الحكايات والأشعار والأقوال الشعبية. وقد أغنت عالم الأدب العالمي بالكثير من المسرحيات الكوميدية. وما هي بالظاهرة الجديدة. فقد كانت شكوى الشعراء والأدباء والعلماء من الحاجب من مظاهر الحياة العامة في التاريخ العربي. وقد أوردت نماذج من ذلك في مقالاتي السابقة في هذه الصحيفة. ومما يحكى في ذلك أن شاعراً قصد الحسن بن وهب فقابله الحاجب بجفوة وصلافة جعلته يسيء الظن بالحسن حتى اكتشف أن صاحبه براء من ذلك، وإنما هو ديدن الحاجب في التنكر للبعض والتزلف للبعض الآخر ممن يرجون منهم خيراً. وأي خير يرجون من شاعر؟

ما بين الرصافي والزهاوي

ساد ميدان الشعر في العشرينات والثلاثينات في العراق الشاعران الكبيران معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي. وكان فيما بينهما ما يوازي ما كان بين شوقي وحافظ في مصر. نشأ الرصافي والزهاوي في بغداد، وتلقيا علومهما ودراستهما العربية فيها قبل أن يرحلا إلى الآستانة، حيث أصبحا نائبين في «مجلس المبعوثان». نتوقع أن يتطابقا في نزعتهما، ولكن ذلك لم يحدث. كان الرصافي محافظاً في نظرته، في حين مال الزهاوي للحداثة والعصرنة. طرح على المجلس منهاج الدراسة لكلية البحرية. لاحظ الزهاوي أن المنهج يشمل دروساً لصحيح البخاري. فوقف الزهاوي معترضاً قال إن هناك خطأ في التصور.

من بلاغات الحروب

كثيراً ما تمخضت الحروب عن أمثال وأشعار وأقوال خُلّدت في ضمائر الشعوب. من ذلك القول: «مثلما فعل نيرون بروما»، في الإشارة إلى الحاكم المستبدّ والمستهتر الذي لا يبالي بشقاء شعبه. ويشير القول إلى إحراق نيرون روما وتَفَرُّجه وضحكه على ذلك المشهد. ومن الرومان أيضاً جاء القول: «جئت، فرأيت، فاستوليت»؛ (فيني - فيدي - فيشي»، وهي كلمات يوليوس قيصر بعد استيلائه على منطقة الراين الخصبة والغنية من ألمانيا. والواقع أن كلمات كثيرة خُلّدت في التراث الغربي والعالمي من هذا الإمبراطور.

من شخصيات المغتربين العراقيين

برزت في ميدان الاغتراب العراقي شخصيات فذّة كثيرة منذ أيام العهد الملكي. ولكن لم يكن من طبعهم التبجح بمركزهم وفرض هويتهم على الآخرين. الواقع أن كثيراً ما يصطدم الإنسان بهم صدفة في مراكز مهمة في خارج العالم العربي. كان من هؤلاء الرجال السيد جوزيف ازارية؛ أحد أبناء الطائفة الآشورية الكلدانية في شمال العراق. كان والده جورجيس ازارية مستشاراً للملك فيصل الأول في ميدان الأعمال والتجارة، فقد كان من أبرز وأنجح التجار العراقيين في الثلاثينات وخلال الحرب العالمية الثانية. ولكنه قرر الهجرة بعد الحرب إلى أميركا وكندا. استقر أخيراً في مونتريال بكندا سنة 1949.