أنشأ القائد الإنجليزي برمبل سوقا للنساء السودانيات اللائي تخصصن في بيع المأكولات الشعبية «الكسرة» أو التوابل العربية والسودانية، بالإضافة إلى العطور التقليدية، فيما يعرف بالخمرة والصندل والدلكة.
أصبحت هذه السوق معلما بارزا لكل من ترغب بكل ما هو تقليدي وشعبي، وأصبحت العاملات في هذه السوق بمثابة قصص متحركة ينقلن تجاربهن من جيل إلى جيل. فمنذ الاحتلال الإنجليزي للسودان وحتى الآن تورث النساء البائعات في السوق أماكنهن لبناتهن وبالتالي لحفيداتهن.
تعد سوق النساء من أهم المعالم التي توضح تنوع الموروث الشعبي السوداني الذي ينحدر من كل القبائل المكونة للنسيج الاجتماعي.
السوق بدت في عهد الإنجليز بـ«الرواكيب»، وهي عبارة عن مظلات خشبية مغطاة بسعف النخل. ومع مرور الزمن تحول سقف هذه الرواكيب إلى ما يعرف الآن «بالزنك الأميركي».
حافظت النساء البائعات على الشكل التقليدي لمنتجاتهن وحتى على طريقة العرض والتسويق، فما زلن يجلسن متراصات الواحدة تلو الأخرى في ممر طويل جدا لكن لا يتعدى عرضه ثلاثة أمتار، تتراص الطاولات الخشبية على جانبي الطريق الذي تعبق منه روائح مختلطة بكل ما يباع من توابل وعطور عتيقة تنفذ إلى الحواس من دون استئذان.
مدخل السوق يزدهي بالأشغال اليدوية فيما يعرف «بالأطباق» وغالبا ما تكون ملونة بألوان، وكان السودانيون يستعملونها لتغطية «الكسرة» أو الخبز وما تبقى من بواقي الطعام ليتطور الأمر، فأصبحت جزءا من ديكور المنزل، خصوصا في المدن الكبرى، بعد أن تسلل الخرز واللؤلؤ إلى نسيجها مكونا صورة من الجمال تجعل الشاري يقع أثير إبداع عميق التأثير.
سوق النساء دائمة الحركة والنشاط فهي سوق كل المواسم. بلا شك رمضان يزيد رغبة ربات البيوت في عمل الأكلات الشعبية السودانية، لذلك تشتهر هذه السوق ببيع ما يعرف بـ«الذريعة» التي يعمل منها أشهر عصير رمضاني «الحلو مر»، الاسم يجمع بين متناقضين، لكن لا شك أن طعم العصير لا يختلف اثنان على حسن مذاقه. أيضا من أشهر المواد الرمضانية التي تباع فيها، الدقيق «المر» وهو ما يعمل به العصيدة التي تكون طبقا أساسيا ودائما في فطور رمضان. ثم يليه الويكة، وهي عبارة عن بامية جافة يصنع منها عدد من الأكلات الشعبية السودانية. ينافس السمن البلدي الويكة إذ يباع في سوق النساء أجود أنواع السمن في السودان. وجوه كثيرة في زحام السوق تبتسم وتتداخل وتبدأ في حوار مع البائعات ومفاصلة على الأسعار تستخدم فيها البائعات حنكة وخبرة السنوات.
«السكات»، هذا هو اسمها، تجلس في مقدمة السوق منذ 30 عاما، وهي أرملة وتعيل أفراد أسرتها وبالقرب منها تجلس الأختان: نفسية خالد، والقسيمة خالد، وهما تجلسان في السوق نفسها منذ 40 عاما، تسمع منهن القصص التقليدية عن الفقر والمعاناة والتعب وما الذي دفعهن للعمل كبائعات. لكن الجديد الذي تسمعه أنهن لا يردن الراحة أو الجلوس في البيوت بعد رحلة طويلة من المعاناة في العمل. تبدأ من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء، موعد إغلاق السوق. في حينها يشعرن أنهن أصبحن يمثلن هذه السوق بكل ملامحها وأن لديهن قدرة على العطاء حتى اللحظات الأخيرة. الأمل يحدوهن فيطالبن المسؤولين بالنظر لوضع السوق وحالتها، لكن ما يخفف عنهن إقبال الناس على السوق باعتبارها سوقا متكاملة لكل ما هو شعبي وأسعاره مناسبة.
جلست فاطمة النوراني، بائعة وتبلغ من العمر 75 عاما، تتأمل في معروضاتها التي تتكون من عشبة يميل لونها إلى الأسود تستعمل مثل التوابل في الطبيخ، يشتهر بها غرب السودان، وتسمى «الكول»، وهي وجبة شعبية دائما تؤكل في مجموعات، حيث يحلو معها سمر الأصدقاء أو الأقارب.
فاطمة النوراني تراقب المارة في صمت؛ حيث بدأت تفقد حاسة السمع تدريجيا، لكنها مصرة على الجلوس في سوق النساء المكان الذي ورثته عن أمها.
جلبت سوق النساء الشهرة لهؤلاء النسوة، ولا يمر يوم إلا ويأتي إعلامي لعمل حديث معهن، حتى بعض القنوات الأجنبية اعتبرت السوق من الأماكن التي تحفظ التاريخ في السودان.
تقول الحاجة خديجة التي تبلغ من العمر خمسين عاما، إنهن شكلن فرقة شعبية لعمل زفة أول يوم في «المولد»، وهن يعزفن على آلة موسيقية إيقاعية تتكون من القرع الموضوع على أسطح مائية، يتم النقر عليها بإيقاعات غرب السودان تسمى «الدنقر».
للطب في سوق النساء نصيب؛ إذ يأتي كثير من الناس لشراء عشبة «المحرايب» التي توصف لمرضى الكلى؛ إذ تعمل على تنقية الكلى من الحصى وتعالج التهابات المسالك البولية.
سوق للنساء في أم درمان.. تجمع الماضي بالحاضر
أسسها القائد الإنجليزي برمبل للسودانيات لبيع المأكولات الشعبية
سوق للنساء في أم درمان.. تجمع الماضي بالحاضر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة