تطور النوم.. 700 مليون عام من إنتاج الميلاتونين

دراسات جديدة تفسر تأثر الكائنات الحية بدورة الليل والنهار

تطور النوم.. 700 مليون عام من إنتاج الميلاتونين
TT

تطور النوم.. 700 مليون عام من إنتاج الميلاتونين

تطور النوم.. 700 مليون عام من إنتاج الميلاتونين

رغم محاولة الكثيرين منا إنكار ذلك، تبقى الحقيقة القائلة إن دورة الليل والنهار على الأرض هي التي تحدد حياتنا.
عندما تغرب الشمس، تطلق الظلمة الآخذة في التسلل العنان لسلسلة من الأحداث الجزيئية الممتدة، بدءا من أعيننا حتى الغدة الصنوبرية التي تفرز هرمون يدعى «ميلاتونين» داخل المخ. ولدى وصول «الميلاتونين» إلى الخلايا العصبية فإنه يغير إيقاعها الكهربائي ويحفز المخ للدخول في عملية النوم. وعند الفجر يؤدي ضوء الشمس إلى تلاشي «الميلاتونين»، مما يجبر المخ على العودة مجددا إلى وضع الاستيقاظ.

* النوم واليقظة

* ونحن من جانبنا نقاوم هذه الدورات كل مرة نبقى فيها مستيقظين لمطالعة هواتفنا الذكية، مما يكبت الجرعة الليلية من «الميلاتونين» داخل أجسادنا ونصحو متوترين في اليوم التالي. ورغم تنقلنا عبر القارات - كما لو أن بمقدورنا تعديل ساعاتنا الداخلية في لحظة - تبقى دورة النوم المعتمدة على «الميلاتونين» بداخلنا على حالها الأول لفترة، مما يجعلنا نشعر بالنعاس وسط النهار.
منذ أمد بعيد، يراود العلماء التساؤل حول كيف بدأت هذه الدورة القوية. وتشير دراسة جديدة حول «الميلاتونين» إلى أنه تطور منذ قرابة 700 مليون عام. ويطرح القائمون على الدراسة فكرة أن شعورنا بالنعاس ليلا تطور من صعود وهبوط الأحياء الأولى من أسلافنا الشديدي الضآلة المتنقلين عبر المحيطات، حيث اعتادت الصعود إلى سطح البحر وقت الغروب، ثم الهبوط إلى أسفل بينما تغشاها حالة من النعاس طيلة الليل.
وسعيا لسبر أغوار تطور النوم، عكف علماء بالمختبر الأوروبي لعلم الأحياء الجزيئي في ألمانيا على دراسة نشاط الجينات المشاركة في إنتاج الميلاتونين والجزيئات الأخرى المرتبطة بالنوم. على مدار السنوات القليلة الماضية، قارن العلماء بين نشاط هذه الجينات داخل الفقاريات مثلنا بنشاطها داخل اللافقاريات بعيدة الصلة عنا.
درس العلماء دودة بحرية تدعى «بلاتينيريس دوميريلي» خلال مرحلة مبكرة، عندما كانت يرقة في اليوم الثاني من عمرها وشكلها أشبه بالكرة. المعروف أن المحيطات تعج بحيوانات صغيرة كتلك. اللافت أن الكثير من هذه الحيوانات تقضي الليل بالقرب من سطح المحيط، حيث تتغذى على الطحالب وقطع الطعام الصغيرة الأخرى. بعد ذلك تقضي النهار عند أعماق أكبر، حيث يمكنها الاختباء من الحيوانات المفترسة وأشعة الشمس فوق البنفسجية.

* إنتاج الميلاتونين

* من جهتها، تفحصت العالمة ماريا أنتونيتا توشيس وزملاؤها كيف تنشط جينات مختلفة داخل يرقة الدودة. وتوصلوا إلى وجود بعض الخلايا على سطح اليرقة تصنع بروتينات حساسة للضوء، وهي ذات الخلايا الموجودة في أعيننا المسؤولة عن إطلاق ووقف إنتاج «الميلاتونين». وتقوم هذه الخلايا ذاتها بتحفيز الجينات اللازمة لإنتاج «الميلاتونين».
وتساءل العلماء حول ما إذا كانت هذه الدودة تستغل هذه الشبكة من جينات «الميلاتونين» بنفس طريقة استغلالنا لها. وللتوصل إلى الإجابة، تتبعت د. توشيس وزملاؤها نشاط الجنيات على مدار 24 ساعة. وقد خلصوا إلى أن هذه الدودة لا تنتج «الميلاتونين» طيلة الوقت، وإنما بالليل فقط مثلما نفعل نحن.
وتوصلوا كذلك إلى أن هذا التصاعد الليلي في إنتاج «الميلاتونين» يسمح للدودة بالتنقل أعلى وأسفل المحيط يوميا. تنتقل الدودة عبر تحريك شعيرات شديدة الضآلة ذهابا وإيابا. وخلال فترة النهار تشق طريقها نحو سطح المحيط. ولدى وصولها إلى السطح تكون أشعة الشمس قد خفتت بدرجة تمكن الدودة من إنتاج «الميلاتونين».
ينتقل الهرمون إلى الخلايا العصبية المسيطرة على تحريك الشعيرات، مما يدفعها إلى إنتاج إيقاع ثابت من الدفقات الكهربائية. تتفوق الدفقات على حركات تحريك الشعيرات، مما يجعلها تتجمد وتغرق الدودة لأسفل. وبطلوع الفجر، تفقد الدودة «الميلاتونين» بداخلها وتبدأ في السباحة نحو الأعلى مجددا.
في ما يخص «الميلاتونين»، يتشابه البشر مع هذا النمط من الدود لدرجة بالغة تجعلهما يعانيان من إرهاق السفر جراء اختلاف التوقيت ومواعيد النوم.
من جهتها، علقت د. توشيس بقولها: «إذا أخذت يرقة وقت النهار ووضعتها في الظلام، تبقى ملتزمة بسلوكها المعتاد وقت النهار». وتستمر الدورة المعتمدة على «الميلاتونين» في تحديد كيفية سباحتها. وأضافت أن «لديها ساعة داخلية تتحكم في هذا الأمر».
ويوحي التشابه الكبير بين أسلوب عمل شبكة «الميلاتونين» في الدود والبشر بأن هذا الأمر مرتبط بأسلافهما المشتركين. عن ذلك، قال ديلتف أرندت، أحد المشاركين في الدراسة الجديدة: «قد يكون ذلك هو أول صورة للنوم».

* دورة الليل والنهار

* من ناحية أخرى، وصف ديفيد سي. بلاشيتزكي، العالم المتخصص بعلم الأحياء التطوري بجامعة نيو هامبشير، الدراسة التي لم يشارك بها بأنها «مثيرة - إنها قصة مكتملة الأركان تماما»، إلا أنه استطرد بأنه رغم التشابه المذهل بين الدود والبشر، فإنه من الضروري بذل مزيد من الجهود للتأكيد على وجود صلة تطورية بين الاثنين. ويبقى من الضروري كذلك العثور على دور مشابه لـ«الميلاتونين» داخل أنماط أخرى من الحيوانات. وأضاف: «لدينا الآن هذه الفرضية المثيرة فحسب، لكنها تبقى فرضية رائعة».
علاوة على ذلك، تطرح الدراسة الجديدة فكرة لافتة بخصوص كيفية تعديل أسلافنا من الفقاريات لجينات «الميلاتونين» في خضم تطويرها لمخ مركب.
يرى العلماء أنه في البداية جرت إدارة دورة الليل والنهار من جانب خلايا تتولى جميع المهام وتميزت بالقدرة على التفاعل مع الضوء وإنتاج «الميلاتونين». لاحقا، انتشر نطاق هذا العمل عبر خلايا متخصصة. مثلا، تولت العين الآن مهمة التعامل مع الضوء بينما تتولى الغدة الصنوبرية إنتاج «الميلاتونين».
أيضا، تساعد الدراسة الجديدة في شرح كيف ننقطع عن العالم من حولنا بسبب النوم. عندما نصحو، تبدأ الإشارات القادمة من العين والحواس الأخرى في المرور عبر منطقة المهاد التي تعد بمثابة بوابة المخ.
يغلق «الميلاتونين» منطقة المهاد عبر دفع الخلايا العصبية بها لإنتاج إيقاع منتظم من الدفقات. وعن ذلك تقول د. توشيس: «تنشغل الخلايا في القيام بهذا الأمر، لذا تعجز عن نقل المعلومات لباقي أجزاء المخ».
وقد لا يكون من قبيل المصادفة أنه داخل الدود أيضا يتسبب «الميلاتونين» في إنتاج إيقاعات كهربائية تعوق الإشارات المعتادة خلال النهار. وربما نغرق نحن الآن في النوم بالطريقة ذاتها التي كان يغرق بها أسلافنا نحو قاع المحيط.

* خدمة «نيويورك تايمز»



«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً