يصر المرجع الفقيه آية الله حسين إسماعيل الصدر على التمسك بمنهجه الواضح الذي يمجد الوسطية والاعتدال، ويرفض تقسيم المسلمين وفق المذاهب الدينية، والتأكيد على النزعة الإنسانية في الدين، ويرى أن فرص توحيد الجهود الإسلامية للقضاء على التطرف متاحة اليوم أكثر من أي وقت سابق، ويطالب الدول العربية بفتح أحضانها للعراق، كما دعا بغداد للانفتاح أكثر على المملكة العربية السعودية كونها دعمت قضايا الشعب العراقي، وقال إن «نجاح العراق سيعني نجاحا للمنطقة بأسرها».
في حواره مع «الشرق الأوسط» وصف الصدر الحشد الدولي ضد «داعش»، بأنه «جزء من عملية الرشد والنضج الفكري والسياسي في المنطقة»، وأن تنظيم «(داعش) أخطر قوة إرهابية ظهرت في المنطقة، وخطرها يشمل جميع مكونات الشعب العراقي»، مشددا على أن الوقت ليس وقت تبادل التهم حول المسؤولية عن الإرهاب، بل وقت العمل للإصلاح والتطوير والتقريب بين المدارس، بوصفه مدخلا ضروريا للقضاء على التشدد والتقريب بين شعوب المنطقة.
وفي ما يلي نص الحوار:
* تشهد المنطقة إجماعا غير مسبوق على ضرورة مكافحة الفكر المتطرف بكل الأساليب الممكنة، وهناك تحالف مشكل من 40 دولة يعمل على الأرض، ما موقفكم من هذا التطور وكيف يجب التعامل معه؟
- نرى أن هذا التطور الإيجابي جزء من عملية الرشد والنضج الفكري والسياسي في المنطقة الذي يحصل تدريجيا بعد المضي في تجارب كثيرة كان بعضها قاسيا وصعبا جدا. ولكن ما يجب على الأطراف كلها الآن هو استغلال هذا التطور في مساره الصحيح لكي ينضج أكثر ويتجاوز الاتفاقات المؤقتة حول القضاء على الإرهاب وتنظيم «داعش»، ليخلق توازنا واتفاقا مستمرا وثابتا بين كل القوى الإقليمية لتنعم شعوب المنطقة كلها بثمار ذلك. وعليه، ندعو الجميع للانفتاح أكثر تجاه جميع القوى المشاركة في جبهة مكافحة الإرهاب والتطرف لنقف جميعا معا يدا بيد ضد التطرف بكل أشكاله، وعلينا أن نكون بقدر التحدي الموجود، فإن الإرهاب يعادي كل الأنظمة والشعوب ويريد أن يقضي على الجميع، ولا يستثني أحدا من بيننا. كما أدعو الدول العربية إلى أن تفتح أحضانها للعراق وتقدم كل ما لديها لمساعدة هذا البلد الجريح، وأدعو العراق للانفتاح على جميع أشقائه العرب، خصوصا المملكة العربية السعودية كونها تشكل عمقا استراتيجيا لنا، ووقفت مع بقية دول الخليج العربي مع قضايا شعبنا، ففي النهاية يربط العراق الكثير بمحيطة العربي.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو الجبهة الأمامية في مكافحة التطرف والإرهاب، فإن نجح العراق، فستنجح المنطقة بأكملها، وإن فشل أو عانى العراق، فستشمل نتائجه كل دول المنطقة من حيث التواصل الثقافي والاجتماعي الموجود بين شعوب المنطقة.
* لكن يبدو أن الحلف المشكل في المنطقة لمحاربة الإرهاب والتطرف ما زال غير مُرضٍ بالنسبة إلى بعض الأطراف؟
- إن الظروف الاستثنائية الحالية تفرض على الجميع أن ينفتحوا إيجابيا أمام جميع المحاولات للتصدي للتطرف في المنطقة، وأن يتم الترحيب بأي جهد من شأنه أن يصب في مصلحة استعادة الأمان والاعتدال للمنطقة. فالكل مطالب بتجاوز الخلافات والتركيز على الخطر المشترك، فما يجمعنا في النهاية أكثر بكثير من الخلافات التي هي طبيعية من جهة، وقابلة للحل تدريجيا من جهة أخرى. فحين تعلن أي جهة استعدادها للمساعدة ومد يد المعونة، فعلينا أن نقابلها برد إيجابي ونوسع من دائرة المشاركة، وتطويرها، لتكون أكثر تأثيرا وسعة وشمولا.
* يبدو أن أجواء تبادل الاتهامات، من قبل بعض الجهات العراقية، حول المسؤولية عن الإرهاب ما زالت قائمة على المستوى الإقليمي، مما يصعب الوصول إلى هدف مشترك..
- أولا، ليس الوقت مناسبا لإلقاء اللوم على هذه الجهة أو تلك.. نحن أمام تحدٍّ كبير يواجه كل شعوب المنطقة ومستقبلنا جميعا.. ما تقتضيه الظروف منا الآن هو التكاتف وشد اللحمة أكثر من أي وقت آخر، لنصبح مستعدين لمواجهة التحدي، والتطلع نحو مستقبل أفضل. ثانيا، يجب أن نبتعد عن التعميم الذي يؤدي بنا إلى الحكم الخاطئ، فليس هناك مجتمع أو نظام يمكن إلقاء اللوم عليه بأكمله، فهناك دائما جهات غير متورطة توضع في خانة الاتهام في حالات إطلاق الحكم التعميمي، فقد نهانا الله عن هذا التصرف بقوله تبارك وتعالى: «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا» (النساء - 94). كما يجب علينا التمييز بين الإرهابيين القادمين من بعض الدول ومواقف هذه الدول نفسها وشعوبها من الإرهاب، فلا يمثل هؤلاء القلة القليلة شعوبهم الذين يجمعنا معهم الدين والثقافة واللغة والكثير من المؤلفات الإنسانية الأخرى. ما يجب علينا جميعا فهمه، أن ليس هناك حل مطلق في النزاعات الإنسانية، فعلينا أن نتعلم مهارات الوصول إلى التسويات في حل الخلافات وتبديلها إلى فرص وليس تهديدات ضد هذا وذاك، فجوهر السياسة هو فن الوصول إلى الحلول العملية والمتضمنة لمصالح الجميع، وتشخيص الخطر بشكل دقيق ومواجهته بأقل تكلفة وأكبر تأثير.
* ألا ترون أن المذاهب والطوائف الإسلامية غير قادرة على استخدام الحوار بسبب الشرخ والانفصال الكبير الواقع بينها؟
- ابتداءً أود أن أؤكد على ما ذكرته سابقا مرارا بأنني لا أعتقد بوجود مذاهب وطوائف إسلامية، بل إن هناك مدارس فكرية إسلامية لا أكثر. إن المسلمين كلهم يجتمعون في الأسس والقواعد الأصلية للدين الإسلامي، والفروق ليست إلا بقدر ما هو موجود بين مدارس فكرية لديانة واحدة.
إن الصراعات لم تأتِ من هذه الخلافات الفكرية، بل إنها ناشئة من التعصب والجهل المؤديين إلى ترويج ثقافة العنف والإقصاء ضد من يشاركنا في معظم أجزاء الديانة والثقافة. والدليل عليه هو أنه حين تهدأ العواطف الهياجة ضد هذا وذاك، ونجلس لنتباحث حول طاولة واحدة، لا نرى الخلاف بنفس الاتساع الذي كناه نشاهده في حال العصبية. أنا شخصيا أعتقد أن الجزء الأكبر من مشكلة العنف الديني اليوم ليس من الخلافات الموجودة بين المدارس الفكرية للدين الإسلامي، بل هو من عوائق أخلاقية وآفات روحية تؤدي بنا إلى اتخاذ مسار العداء والعنف بدل الحوار والتفاهم والقبول بالآخر. هذه الصراعات تنشأ من تسميات واعتبارات غير واقعية، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بـ«أسماء سَمَّيْتموهَا أَنتُم وَآَبَاؤُكُم مّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ».
* هل هناك تواصل بينكم وبين المرجعيات الدينية الأخرى للوصول إلى تقارب في الرؤى والحد من العنف والصراعات الدينية؟
- هناك اتصالات مستمرة تربطنا بجميع المدارس الفكرية في العراق والأزهر الشريف ولبنان والمملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج، ونحن سعداء اليوم بما يحصل من اتفاق في الرؤى والفتاوى الدينية لمختلف الأطراف في نقد وإدانة التطرف والدعوة للاعتدال. ورغم ذلك، فإننا مطالبون جميعا باتخاذ آراء أكثر جرأة وصراحة في نقد مصادر العنف والكراهية في تراثنا، فهناك الكثير من الآراء بخصوص كيفية التعامل الداخلي بيننا وبين أتباع الأديان الأخرى مما يحتاج إلى تحديث وتجديد. نحن مطالبون جميعا بإظهار وبتأسيس النزعة الإنسانية للدين في تراثنا واستئصال كل جذور العنف والكراهية، نحن مطالبون بتقديم نسخة واقعية ومختلفة تماما من الدين الحنيف بحيث تتميز بتمثيلها لقيم الإنسانية والرحمة والمحبة التي كان عليها نبي الرحمة ورسول الإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه وسلم. وهذا هو مدلول الرواية الشهيرة بأن الدين يحتاج إلى تجديد وإحياء على رأس كل مائة سنة. وعلى صعيد الواقع، لقد قمنا بتأسيس مؤسسة الحوار الإنساني ليكون شاملا وجامعا لكل الأديان والمذاهب والمدارس دون استثناء، فنحن نعيش اليوم في قرية عالمية كبرى تجمع الأطياف المختلفة من البشر، والتحديات الأساسية تواجهنا جميعا على حد سواء.. وعليه، يجب علينا الانفتاح تجاه الشعوب والكيانات الأخرى والعمل المشترك للتصدي للأخطار التي تواجه البشرية. أما بخصوص الديانات الإبراهيمية الكبرى، فقد تم إنشاء مؤسسة خاصة بهذا الشأن تحت عنوان «المركز الإبراهيمي للتقريب والحوار» ضمن مؤسسة الحوار الإنساني. ونحن منفتحون أمام كل الجهود الحميدة للمؤسسات المشابهة الأخرى مثل «مؤسسة الملك عبد الله للحوار» ومجلس الحوار المسكوني في الفاتيكان، لنعمل معا على أساس الأهداف المشتركة التي تجمعنا، وهي كثيرة جدا.
* تشهد المنطقة اليوم هجرة جماعية وإخلاءً كاملا للأقليات الدينية، والكثير منهم يتعرض لإيذاء من قبل المتطرفين بالاستناد إلى آراء دينية.. ما مصدر هذه الرؤية الدينية وكيف يمكن تصحيحها؟
- كما ذكرت في الجواب عن السؤال السابق وسبق التصريح به مني أيضا في فتاوى بخصوص إخواننا الإيزيدية والأقليات الدينية الأخرى، فإن المشكلة تنتج من فقدان النزعة الإنسانية في الفهم الديني. فحين لا يكون الأساس مبنيا على قاعدة المواطنة والمساواة تظهر هذه المشكلات لدينا.
إن إخلاء المنطقة والعراق من الأقليات يضر بشكل أساسي بالتنوع الثقافي لدينا، ويقلص من السعة التسامحية للمجتمع، ويوسع من رؤية العنف والكراهية بيننا. إن عملية التطهير الوهمية التي يقوم بها المتطرفون لا نهاية لها وستؤدي بنا إلى دوامة من العنف والكراهية غير المتناهية، فحين يتم حذف الأقليات، سيبدأ إقصاء المدارس الإسلامية المختلفة بسبب وجود خلافات لديها مع المتطرفين، ولن يبقى إلا قراءة متطرفة واحدة. وهذا يعني أن التطرف خطر على السنة والشيعة أيضا على حد سواء، كما هو خطر على الأقليات. نحن في سفينة واحدة، فالمسمار الذي يدقه المجانين في السفينة سيؤدي إلى غرقنا جميعا معهم على حد سواء. إن مصدر التطرف بصراحة هو التراث إلى حد كبير، وما نشاهده هو نتيجة تراث متراكم من ثقافة العنف المتجذر في فهمنا الديني الخاطئ.. وعليه، فنحن رجال الدين مطالبون بالقيام بعملية إصلاح شاملة وصريحة وصادقة تشمل كل جوانب الفهم الديني من الفقه والعقيدة والأخلاق العامة. كما يجب الوقوف بشجاعة وصراحة أمام سوء استخدام الدين من قبل الجماعات ذات الأهداف والأجندات السياسية لاستغلال الناس واستخدامهم للوصول إلى السلطة. هذا كله يضر بالدين ويجعله آلة بيد المتطرفين يتم استغلالها لصالح أجندة سياسية تخلف آثارها السلبية على الدين نفسه قبل أن تضر بالناس والأنظمة.