جان جاك روسو.. فيلسوف متشرد متأرجح بين العقل والعاطفة

عد المؤرخون كتابه «في العقد الاجتماعي» المحرك الأول لثورة 1789

جان جاك روسو  -  غلاف «في العقد الاجتماعي»
جان جاك روسو - غلاف «في العقد الاجتماعي»
TT

جان جاك روسو.. فيلسوف متشرد متأرجح بين العقل والعاطفة

جان جاك روسو  -  غلاف «في العقد الاجتماعي»
جان جاك روسو - غلاف «في العقد الاجتماعي»

عاش الفيلسوف جان جاك روسو (1712 - 1778)، حياة قاسية ومريرة، إلى درجة أنها انقلبت إلى عطاء، حيث ترك للبشرية إرثا من التأملات والتنظيرات في الأدب والتربية والاقتصاد والسياسة.. وغير ذلك، فانطبقت عليه عبارة: «نعمة الألم».
يقول روسو: «كان مولدي أولى تعاساتي»، فبعد أسبوع فقط من ميلاده، توفيت أمه، وتكفل به والده إسحاق روسو، الذي كان يعمل صانع ساعات، وقد سهر على تعليم ولده. كان يقرأ معه الروايات وقصص مشاهير الرجال، خصوصا المؤرخ اليوناني بلوتارك، طوال الليل، وأحيانا حتى شروق الشمس، مما ساعد على تنمية خيال روسو الطفل. كما أن لعمته التي كانت تحنو عليه وتغني له بصوتها العذب الرخيم، دورا في جعله مرهف الحس، بل مولعا بالموسيقى التي ستكون مورد رزقه الأساسي طوال حياته.
كان والد روسو مشاغبا ومستهترا، ويدخل مع السلطات في صراعات ومتاعب، إلى درجة أنه تشاجر يوما مع ضابط في الجيش الفرنسي، واتهم بأنه رفع سيفه، فصدر قرار بإدخاله السجن، وهرب من جنيف تاركا ولده عند خاله برنار. وأصبح روسو محروما من أمه وأبيه. وحتى خاله، ضاق به، فأرسله مع ابن له إلى معلم قسيس بروتستانتي في إحدى القرى المجاورة، حيث قضى عامين، كانا في الحقيقة مفيدين له في تعلم بعض التعاليم الدينية. وربما كان العامان وراء جعله فيلسوفا مؤمنا مستقبلا، بخلاف مجايليه الأنواريين، الذين كانوا في معظمهم ملاحدة. كما أن عاميه في القرية سيجعلانه عاشقا للطبيعة وللبقاء في حضنها طويلا منعزلا. وهو ما سيكتبه لنا بتصوير منقطع النظير، في كتاباته، خصوصا كتابه الأخير المعنون بـ«أحلام يقظة جوال منفرد»، الذي تتوفر له ترجمة عربية، قامت بها ثريا توفيق، ضمن المشروع القومي المصري للترجمة، بإشراف الدكتور جابر عصفور.
سيتهم روسو بسرقة مشط إحدى السيدات، ويطرد من الدير، فيعود عند خاله الذي سيرسله، هذه المرة، للعمل عند الكتبة العموميين، حيث لا يفلح، فيوجهه إلى حرفة النقش على المعادن، لدى معلم شديد القسوة وغليظ القلب، مما دفع روسو إلى تعلم الغش والكذب والسرقة، إلى درجة أنه بدأ يتشرد تمردا، ويخرج مع أصدقائه إلى خارج المدينة تحررا، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، فيشبعه المعلم لكما ولطما.
وذات يوم، عاد من الغابة ليجد أبواب المدينة مغلقة، فجعلها فرصة خلاص من المهانة، فقضى الليلة خارج الأسوار. وفي الصباح، قرر الفرار إلى غير رجعة. كل ذلك ولم يزل روسو فتى في عامه السادس عشر. كان التشرد والحرمان واليتم، طابع حياة روسو، مما عمق أحاسيسه، وجعله يسبر أغوار نفسه، ويدقق في تفاصيلها التي خلدها لنا في سيرته الذاتية الفاضحة لكل ثنايا حياته، بما فيها الأشد حميمية وهي بعنوان «الاعترافات».
لم يستقر روسو في مكان واحد، وظل على الدوام يبحث عن مأوى وعن مورد رزق، فاشتغل خادما في بعض البيوت، ومترجما، وعمل أيضا في إحدى القنصليات في إيطاليا. لكن عمله الرسمي سيظل نقل صفحات الموسيقى. كما رمته الأقدار ليعيش تجارب مع النساء، وبخاصة مع مدام «دو فارن»، التي كانت تناديه بـ«صغيري»، حيث وجد فيها الأم المفقودة والعشيقة التي تشبع له فورة شبابه.
ستدفع الأقدار روسو إلى باريس وهو في سن التاسعة والعشرين. وبعد طول تعثر، ستكون أول خطوة له نحو المجد الذي سيجعل منه أحد أعمدة «فلاسفة الأنوار» في سن الثامنة والثلاثين.. ففي تلك الفترة، توطدت علاقته بـ«ديدرو»، وكتب معه مقالات في الموسيقى والاقتصاد السياسي، في موسوعته الشهيرة، إلى درجة أنه عندما سجن ديدرو عقابا له على آرائه، حرص روسو على زيارته في السجن بشكل منتظم، وكان يذهب إليه مشيا على الأقدام وهو يطالع كتابا؛ إذ لم يكن يملك أجر العربة. وفي طريقه لزيارته، كان يتصفح جريدة، فوقعت عيناه على إعلان عن مسابقة طرحتها أكاديمية «ديجون»، وجاء فيه، أنه على المتسابقين كتابة مقال حول السؤال التالي: هل ساعد تقدم العلوم والآداب على إفساد الأخلاق أم على تطهيرها؟ فانفعل روسو بالسؤال، وقرر أن يجيب عنه، خاصة مع تشجيع ديدرو له. وحصل على الجائزة عام 1750. وقد سار روسو في جوابه عكس «التيار الأنواري» الداعي إلى العقل؛ إذ أكد أن العلوم تخرب حياة الإنسان، وما تسمى «حالة الطبيعة»، ليس كما يدعي «توماس هوبز»، تتصف بالعدوانية وتنتشر فيها حرب الكل ضد الكل، ويظهر معها الإنسان ذئبيته وعدوانيته، بل إن «حالة الطبيعة» كانت سلما ونقاء ووئاما، إلى أن تقدمت العلوم وانتشرت الملكية، فزرع الشر والصراع. ففساد الإنسانية وخرابها يعود إلى العقل والعلم، وليس إلى طبيعة الإنسان المفطورة على الطيبة والخير.
يصر روسو على أن الإنسان المسمى متحضرا، يلبس أقنعة لا تعبر عن دواخله، فيظهر بمظهر الجذاب والمهذب، لكنه مليء في دواخله بالخوف والريبة والبغض والغدر والاستهتار واللامبالاة.
كان «الأنواريون»، أمثال ديدرو وفولتير (سيهاجم روسو على جوابه)، يؤكدون على أنه يكفي البشرية أن تترك نفسها تنقاد للعقل، كي تستمتع بالرخاء والتقدم المادي والسياسي والأخلاقي، إلا أن روسو لم يوافقهم الرأي أبدا. وكان من أوائل من أطلق الصرخات ضد الحداثة وعقلانيتها قبل نقد القرن العشرين لها.
ولكي ينسجم روسو مع ادعائه، سيعمل على تغيير نمط عيشه وطريقة ملبسه، ويتجه نحو التقشف والبساطة، والتخلي عن كل زينة وبهرج. يقول في الجولة الثالثة من كتابه «أحلام اليقظة»: «هجرت الحياة الدنيا بمفاتنها، وزهدت كل زخرف، فلم يعد لي سيف ولا ساعة ولا جوارب بيضاء، ولا حلي ذهبية ولا زينة شعر، بل شعر مستعار بسيط جدا، ورداء سميك من الصوف.. بل، وخير من هذا كله، نزعت من قلبي كل اشتهاء لجمع المال، وكل مطمع في كل ما له قيمة. ثم هجرت الوظيفة التي كنت أشغلها إذ ذاك، والتي لم أكن خليقا بها ألبتة، وانصرفت إلى نسخ الموسيقى نظير أجر معين للصفحة الواحدة، وهو عمل كنت شديد الميل إليه دائما».
ولكن شهرة الرجل لن تتوقف، وكتبه ستستمر في الظهور إلى درجة أنه سيستحق لقب «مؤسس الأدب الرومانسي» بروايته «هلويز الجديدة»، حيث كان شديد التأمل فيها، هائما في الطبيعة يتجول في أماكنها، ومحبا للخلوة، وناشرا لحب عذري، وبحرارة عالية جدا.
الأكثر إثارة في إنجازاته، كان في مجال التربية، وهو كتابه الضخم والمعنون «إميل» أو «التربية»، الذي ترجمه إلى العربية عادل زعيتر (انظر طبعة المركز القومي للترجمة). وهو الكتاب الذي تمت صياغته صياغة أدبية على شكل فصول لرواية أدبية، بطلها الطفل «إميل»، فمن خلاله يدير روسو رؤيته التربوية القائمة على فكرة صلاح الفرد وفساد المجتمع.. فالفرد يولد بفطرة طيبة نقية وطاهرة، لكن بيد المجتمع إفسادها أو حمايتها، فالشر الذي يحدثه الإنسان ليس أصيلا فيه. وقد قال في عبارة مشهورة استهل بها كتابه: «كل شيء يخرج من يد الخالق صالحا، وما إن تلمسه يد الإنسان، يصيبه الاضمحلال».
كان روسو يتأرجح بين العقل والعاطفة بطريقة مرتبكة، تنم عن تناقضات سلوكه، فنجده، مثلا، يقيم علاقة غير شرعية مع خادمة الفندق «تيريز» حيث كان يقيم، فتنجب له خمسة أولاد، يسلمهم إلى ملجأ اللقطاء غير عابئ بالمسؤولية، ومن غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، ثم ليفاجئنا بكتابه «إميل» أو «التربية» وكأنه تكفير عن ذنوبه وخطاياه. وهو الكتاب الذي انبثق فيه مفهوم الطفل بوضوح، إلى درجة أن الأديب الألماني غوته لقبه بـ«إنجيل المعلمين». فروسو ضحى بأبنائه وغامر بهم ليساهم في صناعة الملايين من البشر.
والأكثر من كل ما قيل، هو أن روسو قد قرر ألا يموت إلا بعد أن يترك نظرية في السياسة، تجلت في كتابه ذائع الصيت «في العقد الاجتماعي»، المترجم إلى العربية مرات عدة (انظر ترجمة عبد العزيز لبيب، عن المنظمة العربية للترجمة)، الذي يجعل منه المؤرخون المحرك الأول للثورة الفرنسية سنة 1789. ويقال إن الثوار حملوا كتابه ولوحوا به، وهذا يعني أن الكتاب يحمل أفكارا ألهمتهم وعبرت عن همومهم وآمالهم؛ إذ سيعلن روسو أن التدبير العام يجب أن يتم بمعزل عن الأشخاص، نحو التجريد الجماعي وقوة الإرادة العامة والمتعالية.. بكلمة واحدة، لا أحد أصبح مع روسو سيدًا، بل السيادة للقانون المفروض من طرف الكل، فالشعب هو من سيختار نوع الميثاق الممارس عليه، وينصاع لقرار ساهم هو في صنعه. وكأن روسو يريد أن يقول: إن السلم الاجتماعي لن يتأتى إلا إذا عنف الشعب نفسه بنفسه، فالإكراه يجب أن يكون حرا.



أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
TT

أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم

يطرح الكاتب والروائي الموريتاني أحمد ولد إسلم في روايته الأخيرة «البراني» أسئلة إشكالية تتعلق بالمستقبل الإنساني، يختبرها في سياقات عالمه المُتخيّل الذي تُسيطر عليه الرقمية وتتغوّل فيه الآلة. وقد حاز أحمد ولد إسلم أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» بموريتانيا، ومن أعماله رواية «حياة مثقوبة» ومجموعة «انتظار الماضي».

هنا حوار معه عبر الإنترنت حول روايته الجديدة، وملامح الحركة الأدبية الموريتانية، وعلاقتها بمحيطها الثقافي العربي...

* في روايتك الأخيرة «البراني» نلتقي بجزيرة وهمية، وروبوتات، وفيروسات آلية، ما التحديات التي واجهتها في بناء وتطوير هذا العالم الروائي؟

- التحدي الأكبر في الكتابة الخيالية العلمية هو الجمع بين المتناقضين، ما هو خيالي، وما هو علمي، وذلك يقتضي السير على حافة رفيعة وهشة تضمن تقديم ما لا يستحيل علمياً حدوثه، ولكنه لم يحدث بعد. وهذه هي المساحة التي تتسابق فيها العقول الأدبية بخيالاتها المجنحة، والعقول الهندسية بأعمالها التجريبية. وهذا السباق الدائم بتحويل الخيال الأدبي إلى منتجات هندسية أو توظيف المنتجات الهندسية العلمية في خلق خيال أكثر طموحاً، هو ما أنتج وسينتج كل التطور التقني الذي تشهده البشرية حالياً ومستقبلاً.

* أيضاً، يبدو عالمك السردي في «البراني» مُنقسماً بين حنين تراثي وإنساني، وآخر غارق في الاستهلاك والاصطناعية، حتى إنك طرحت فيها نبوءة بنهاية العالم... حدثنا عن تلك المسافة.

- في حياة كل منا، أقصد من عاش في المجتمعات العربية، حنين دفين للبساطة والعلاقات الاجتماعية المترابطة، وأحياناً البداوة لمن ينحدر من بيئة بدوية أو ريفية، فنرغب أن نبدأ يومنا برائحة خبز الفرن وكاسات الشاي في لمة عائلية، وأن نتبادل التحيات صباحاً، ونعرف أخبار الجيران، ونختم اليوم بجلسة العصر الجماعية، وكاسات الشاي أو بسمر عائلي يخوض في الذكريات. لكننا في الوقت نفسه، بحكم الواقع الذي نعيشه، نرغب أن نكون أكثر تطوراً، وأن تكون حياتنا أسرع وقعاً، ونتمنى أن تكون لدينا قدرات على مطّ الوقت لتحقيق الإنجازات الصغيرة اليومية الأكثر مما يسمح به وقتنا. ويفرض علينا الواقع أن نكون أكثر فردانية، وتغرينا الإعلانات بثقافة استهلاكية تجعل كثيراً منا ينفق ما لا يملك لشراء ما لا يحتاج فعلاً، على احتمال أنه قد يحتاجه يوماً ما.

هذا المشهد الذي يقرّ كلّ منا في قرارة نفسه بتناقضه هو ما يشكل الحياة، الحياة التي تحدث حقيقة في صراعاتنا بين ما نرغبه من استعادة نفسية للماضي، وما نطمح إليه من القفز ذهنياً إلى المستقبل. وهذا الصراع النفسي الدائم هو ما سلّطت رواية «البراني» الضوء عليه من زوايا مختلفة عبر شخصيات أبطالها اللاهثين بين قطبي هذه الثنائية، يخافون من خسارة الهدوء والسكينة، ويخشون فقدان السيطرة على مستقبلهم.

* هذا الحِسّ في التعامل مع تغوّل الذكاء الاصطناعي والرقمية يبدو له صدى «ديستوبي» في الرواية، هل يمكن فهم مدلول آخر لعنوان «البراني»، بمعنى النبذ واستبدال الإنسانية، أو بتعبيرك في الرواية «الزوائد البشرية»؟

- لا نكون متشائمين إن قلنا إن الواقع العربي الذي نعيشه ديستوبي بطبيعته، ولا يحتاج خيالاً لتصوّر عالم أكثر فساداً وانحداراً مما عليه الحال في عالمنا العربي. ما كشفته الرواية هو جزء من واقع نتجاهله، أو نجمله بإضفاء مسحة من المصطلحات كالعصرنة والرقمنة والتفاعل، نعوض بها نفسياً شعورنا العميق بخسارة أواصرنا الاجتماعية البشرية الحقيقية. ما سيحصل، وقد بدأ بالفعل، ليس إحلال الذكاء الاصطناعي محل البشر، بقدر ما هو إحلال أشخاص يجيدون التعامل مع الذكاء الاصطناعي ويحسنون توظيفه، أو يسيئونه، محل أشخاص لا يجيدون ذلك.

وبالتالي، فإن الخوف من تغوّل الذكاء الاصطناعي هو في الحقيقة خوف من تغوّل المسيطرين عليه، فالآلة في النهاية لا تعرف إلا ما أدخل إليها من إنتاج بشري خالص. وما وصفته الرواية بالزوائد البشرية سيكونون في وقت ما أولئك الذين يتوهمون أن المسيطرين على الذكاء الاصطناعي سيكونون أكثر رحمة بهم إذا انكفأوا على أنفسهم واكتفوا بدور المتفرج أو المستهلك.

* كيف تعاملت مع تعقيدات وأبعاد شخصية بطلك في «حياة مثقوبة»، خصوصاً مع تقييد حركته ومكانه؟ كيف وظّفت تقاطعات ذاكرة البطل كآلية سردية في الرواية؟

- بناء شخصية بطل رواية «حياة مثقوبة» كان أصعب تحدٍّ خضته مع نفسي في مجال الكتابة الإبداعية، فأن تخلق شخصية واضحة المعالم النفسية من غير تحديد مكان أو زمان حتى منحها اسماً تنادى به ليس بالأمر الهين. لكني أردت تقديم شخصية الإنسان المُجرد من كل دواعي التحيز، الإنسان العادي في أشد لحظات حياته ضعفاً وأكثرها صفاء، ولأن فقدان الذاكرة هو الخاتمة الحزينة للقصة كان الأمر مبرراً. فالإنسان في ماهية هويته ليس إلا ما يتذكر عن نفسه ومحيطه؛ فلولا معرفتنا أسماءنا ودوائر انتمائنا لما شكل أي منا هويته كما يراها. ونظرة الآخرين إلينا قائمة على ما تحتفظ به ذاكرتهم من معلومات عنا، ولذلك يمكن القول إن فقدان أي معلومة من الذاكرة هو فقدان لجزء من هوية ما، وهذا ما جعل خلق شخصية بطل «حياة مثقوبة» صعباً، لأنه يفقد في كل فصل جزءاً من هويته.

* علاقتك بالموسيقى تبدو أصيلة، ولا تخفى عمن يقرأ أعمالك، فتتوقف عند وصف مقام، أو مقطوعة، أو أصل تاريخي لنوع موسيقي، هل تتعامل معها بمنطق جمالي أو وظيفي داخل السرد؟

- نشأت في منطقة الحوض الشرقي في موريتانيا، وهي المنطقة التي شهدت قبل قرون نشأة الموسيقى التقليدية الموريتانية، خاصة ما يعزف منها على آلتي «التيدنيت وآردين» وهما الآلتان الخاصتان بالرجال والنساء، على التوالي، في الثقافة الموسيقية التقليدية. النشأة في بيئة كهذه تجعل علاقة أي فرد من المنطقة بالموسيقى علاقة انتماء واحتفاء وارتباط، ويعد أي فرد من المنطقة لا يعرف أساسيات الموسيقى التقليدية ومقاماتها ناقصاً معرفياً في التقييم المجتمعي، ولذلك وجدت توظيف الموسيقى في إطار سردي يكسر جمود النص في رواية «حياة مثقوبة»، ويفتح أفقاً للتعريف بالموروث الثقافي الموريتاني في رواية «البراني».

* تبدو علاقة موريتانيا بالشِعر وثيقة، فيما لا تزال الرواية الموريتانية تقطع خطوات وئيدة في المشهد العربي. هل تتفق مع هذا؟ ولماذا برأيك؟

- هذه «المُسلمة» بأن علاقة موريتانيا بالشعر أوثق من علاقتها بغيره تحتاج إعادة نظر، فهي عند تحليلها بشيء من التفصيل ليست أكثر من صورة نمطية، مثل أي صورة نمطية أخرى رسخها الإعلام والتداول الشعبي. فحين أطلقت مجلة «العربي» الكويتي لقب بلاد المليون شاعر على موريتانيا أواخر الستينات كان هناك احتفاء كبير من الموريتانيين بهذا اللقب، وهو احتفاء مبرر ومتفهم في سياقه التاريخي، فموريتانيا كانت حينها تخوض معركة سياسية وثقافية لإثبات انتمائها للفضاء العربي سياسياً، فلم تكن حينها قد انضمت إلى مؤسسة الجامعة العربية. واستمر لاحقاً الاحتفاء بهذا اللقب وما يعنيه من قيمة معنوية، لأنه يسهل على الموريتاني تقديم نفسه بكلمتين كانتا عنواناً في مجلة. لكن الواقع أن الإنتاج النثري في موريتانيا لا يقلّ عن الإنتاج الشعري، إن لم يربُ عليه. ومع تقلص مساحات البداوة وتمدد الفضاء الحضري أفقياً على امتداد البلاد الشاسعة تقلصت الحاجة إلى الشعر بوصفه حاملاً للثقافة الشفوية، وتعززت مكانة النثر مع انتشار الكتب المرتبطة بالمدنية بطبيعتها.

صحيح أن فنّ الرواية تأخر ظهوره بضعة عقود في موريتانيا عنه في المشرق العربي، لكن الأعمال الروائية الموريتانية التي ظهرت لاقت احتفاء ومكانة كبيرة، ومنها ما صنف ضمن الأعمال العربية الخالدة. ويكفي النظر إلى السنوات الأخيرة لنجد عدداً من الروايات الموريتانية ارتقت منصات تتويج عربية في السعودية، ومصر، وقطر، والإمارات، وربما صار روائيو موريتانيا أكثر شهرة من شعرائها.

* هل ترى أن الجوائز الأدبية ساهمت ولو قليلاً في كسر مركزية القراءة والنشر في العالم العربي؟

- هناك كثير مما يمكن قوله عن الجوائز الأدبية العربية فيما يتعلق بآلية اختيار الأعمال الفائزة وتسليع الأدب وتحويل الكاتب إلى منتج تحت الطلب، لكن لا يمكن إنكار أنها فعلاً فتحت آفاقاً جديدة لكتب ما كانت لتصل لولاها إلى القارئ، خاصة الكتب الواردة من دول الأطراف العربية بعيداً عن المركزية المشرقية.

* قطع الأدب في العالم مسافة طويلة مع الخيال العلمي منذ «فرانكشتاين» ماري شيلي إلى اليوم، برأيك إلى أي مدى واكب الأدب العربي فلسفة هذا النوع الأدبي؟

- لا أستطيع تقييم مدى مواكبة أدب الخيال العلمي في العالم العربي للتطورات، لكن لا شك أنه مجال مفتوح للإبداع وليس قريباً من الاكتفاء الذاتي عالمياً وأحرى عربياً. ربما هناك نقطة مؤثرة على الأديب العربي تجعل إنتاجه في مجال الخيال العلمي لا يحظى بالاحتفاء المناسب، وهي ضعف المناهج التعليمية وأدوات الإنتاج المرئي التي ساهمت في شهرة كثير من الأعمال غير العربية، وأوصلتها إلى مجال أرحب بتحويلها إلى أفلام أو مسلسلات، وهو أمر تفتقر إليه الكتب العربية الصادرة في هذا المجال.

* حصلت أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» التقديرية الموريتانية، ما صدى هذا التتويج لديك؟ وهل تكتب عملاً جديداً حالياً؟

- لا شك أن الحصول على جائزة الدولة التقديرية، وهي أرفع جائزة أدبية، في مرحلة مُبكرة من العمر، أمر يدعو إلى الفخر والتشجيع، ومن المؤكد أنه منح للعمل فرصة للوصول إلى القراء المهتمين بأدب الجوائز. كما أنه عرّف النخبة الثقافية بنمط من الأدب الموريتاني لم يحظَ بعد بإنتاج غزير، وهذا أيضاً أمر مهم. وحالياً، أعكف على كتابة رواية تستشرف آفاق عالمنا، وتسعى للتفوق على ما قدّمته «البراني»، وآمل أن تكون في المكتبات العربية قبل نهاية هذا العام.


الشاعر المغربي مخلص الصغير في «الأرض الموبوءة»

الشاعر المغربي مخلص الصغير في «الأرض الموبوءة»
TT

الشاعر المغربي مخلص الصغير في «الأرض الموبوءة»

الشاعر المغربي مخلص الصغير في «الأرض الموبوءة»

صدر حديثاً للشاعر المغربي مخلص الصغير ديوان «الأرض الموبوءة» عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

وجاء في كلمة الناشر: «يقيم هذا العمل الشعري الجديد حواراً مفتوحاً مع مجموعة من النصوص الشعرية الكبرى، منذ التراجيديات الإغريقية، مروراً بديوان الشعر العربي والغربي، وقوفاً عند قصيدة (الأرض الخراب) للشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت، حيث تستحضر قصيدة (الأرض الموبوءة) السياق الملحمي لقصيدة إليوت، بينما كتب الشاعر مخلص الصغير قصيدته هذه سنة 2022، بعد مرور مائة سنة على ظهور (الأرض الخراب). كما تستحضر قصائد أخرى من الديوان الوباء الأخير الذي أصاب البشرية خلال العشرية الأخيرة، وباقي الحروب والفجائع الراهنة. وارتباطاً بفاجعة الوباء التي تقف وراء البعد الملحمي لهذا الديوان، توحي لنا قصائد مخلص الصغير، في صيغها الفنية الجديدة، أن تجربة الوباء التي عاشتها البشرية قبل سنوات ستظل منعطفاً وجودياً غير من أسئلتنا وتحدياتنا الوجودية، وهو يشكل مرحلة فارقة في التاريخ المعاصر للإنسانية، ويدعونا إلى تغيير شكل الكتابة نفسها، وتجاوز اللغة التي نكتب بها بواسطة اللغة نفسها».

وكُتبت مجموعة من قصائد الديوان ما بين تطوان وإسبانيا، وهي تعود بنا إلى الأندلس، بوصفها «فضاء آخر ينتسب إليه الشاعر انتساباً تاريخياً، ويبحث فيه عن استكمال هويته ومرجعياته الشعرية. وإذا كانت بعض العائلات الموريسكية في شمال المغرب وتونس لا تزال تمتلك مفاتيح بيوتها في الأندلس، والتي احتفظت بها بعد واقعة الطرد التاريخية، على أمل العودة يوماً ما، فإن استعارة المفتاح تحضر في قصائد الديوان بما يجعلها مفتاحاً للولوج إلى عوالمه الشعرية».

في قصيدة «المغربي»، وهي القصيدة الأولى في الديوان نقرأ: «الشَّمَالِيُّ الْجَنُوبِيُّ أَنَا/ الشَّرْقِيُّ وَالْغَرْبِيُّ/ لِي مِفْتَاحُ بَيْتٍ فِي الْأَنْدَلُسْ/ وَقُفْلٌ في طَوْقِ الْمُوَشَّحَاتْ/ أَنَا الْأَنْدَلُسِيُّ. لِي فِي الْعِشْقِ مَذْهَبٌ غَجَرِيُّ/ وَلِي فِي الشَّرْقِ أَسَاطِيرٌ وَمُعَلَّقَاتٌ/ وَشَهْرَزَادٌ وَنَبِيُّ». بينما نتابع رحلة الذهاب هذه إلى الأندلس في قصيدة «الطريق إلى قرطبة»، بحضور استعارة المفتاح مرة أخرى: «فِي الطَّرِيقِ الْقَدِيمْ/ إِلَى قُرْطُبَهْ/ أَقْتَفِي خُطُوَاتِ أَبِي الْمُتْعَبَهْ/ بَاحِثاً عَنْ ظِلَالٍ لِمَنْزِلِنَا/ بَيْنَ أَنْقَاضِ أَنْدَلُسٍ مُتْرَبَهْ/ لَا يَزَالُ مَعِي الْآنَ مِفْتَاحُهُ/ بَيْنَمَا بَابُهُ/ فِي الثَّرَى غَائِبَهْ».

هكذا يسعى الشاعر في الإبداع بلغة تحاول تجديد التعاقد بين الشاعر والقارئ، والتصالح معه، عبر كتابة «الغموض الجلي»، كما في قصيدة «المغربي» دائماً: «أَنَا التَّأْوِيلُ بِالْإِشَارَاتِ/ التَّفْسِيرُ بِالْكَرَامَاتِ/ وَالْغُمُوضُ الْجَلِيُّ. أُقِيمُ فِي أَقْصَى الْأَرْضْ/ أَنَا النَّثْرُ الشِّعْرِيُّ/ وَالشِّعْرُ النَّثْرِيُّ/ وَأَنَا لَسْتُ أَنَا/ أَنَا غَيْرِي/ وَلَسْتُ سِوَى شِعْرِي، وَشِعريَ نَثْرِي/ أَنَا الْكَاتِبُ وَالْمَكْتُوبُ... وَالْكِتَابِيُّ».


شعر سركون بولص... نبتة زُرعت في مكان ليس أرضها؟

سركون بولص
سركون بولص
TT

شعر سركون بولص... نبتة زُرعت في مكان ليس أرضها؟

سركون بولص
سركون بولص

مثلما تتغيّر اتجاهات الأدب ومعناه وطرق تناوله بمرور الزمن، يختلف النقد هو الآخر في كلّ حقبة، والنتاج الأدبيّ لكلّ أمة في حاجة إلى مراجعة للتجارب التي دُوّنتْ في الماضي، وأُخِذ بها من قِبل الجميع على أنها حقائق ثابتة، طالما وقفتْ وراءها أقلام حقّقت حظّاً طيّباً من الشهرة بين القرّاء عندما ظهرت للنور أوّل مرة. ولأجل أن يكون البناء النقدي متماسكاً، فإن هذه المراجعة يجب أن تنسحب إلى الخلف تباعاً، دون استثناء حقبة من الماضي، حتى البعيد منه والأبعد، وإن أدى هذا الفعل إلى خسائر في مُنجزنا الأدبي. إن لدى جميع الشعوب الكثير من الأيّام الماضية التي كابدتها، والتي لا تعتدّ بها الأجيال اللاحقة، والشعر القديم جزء من الماضي، فلا بدّ من أن تجري عليه المراجعة نفسها. من هذا العمل ما قام به طه حسين وهو يعيد قراءة المعلّقات، ناسباً الكثير من شعرها إلى علماء اللغة؛ لأن فعل الإبداع فيها معدوم، فهي تعداد ووصف لأجزاء بَدَن الناقة وغيرها من الدوابّ، وهذا عمل غرضه إثباتٌ معجميّ لألفاظ اللغة العربيّة لا غير، وعُدّ كلام نابغة مصر في زمانه مغامرة ربما عادت على صاحبها بالنيل من مكانته؛ لأن الماضي يصير لدى أهل التقليد مقدّساً، وكلّ ثلمة فيه تتحوّل إلى مصدر اتّهام لا يمكن توقّع نتائجه. يقول ميلان كونديرا: «العمل الأدبي الذي يكشف جزءاً مجهولاً من الوجود الإنساني هو وحده الذي يمتلك مبرّراً للكينونة». وبما أن وجودنا البشري على سطح الكوكب في حالة صيرورة دائمة، فإن الأدب هو الآخر في حالة متغيّرة باستمرار، والنقد لونٌ من ألوان الأدب، ويخضع، بالتالي، إلى قوانينه والظروف التي يعيش فيها، أو يندثر.

لم يتناول الدارسون بالتفصيل تجربة الشاعر سركون بولص منذ نشأته في العراق، ثم اتّصاله في بيروت بجماعة مجلة «شعر»، وارتحاله وتجواله في مدن أوروبا وأميركا. البحوث التي تناولت تجربة الشاعر ضئيلة إذا قورنت بالشهرة الكبيرة التي يحظى بها. وبدلاً عن الدراسات الأدبيّة نجد في المجلّات والصحف حوارات قام بها متأدّبون سألوه عن كلّ شيء في دنيا الأدب إلّا شعره، فإن جاء السؤال فهو موازٍ للجواب في الغالب، الذي هو ملغّزٌ أكثر من اللازم، ويعود بولص فيه إلى تنظيرات وآراء شعراء أميركان وإنجليز لم نسمع بأسماء بعضهم، ويتساءل المرء، في بعض الأحيان وهو يدرس شعره، إن كان نبتة ازدُرعت في مكان ليس أرضها، وإلا فلماذا جاءت قصيدته مغلقة بهذه الصورة على القارئ. بالإضافة إلى الحوارات، هنالك تذكارات مع أصدقائه الشعراء؛ سعدي يوسف وأدونيس وعباس بيضون، وغيرهم، ما يشبه الرثاء دوّنوه في مقالات بالصحف عقب وفاته، وهذا لا يدخل، في الغالب، في باب النقد الأدبي.

إن أصالة الشاعر لا تتجسّد في قصائده فحسب، وإنما في أفكاره وقناعاته وطريقته في العيش أيضاً، والنصّ الأدبي لا يعيش في عالم منفصل عن الكاتب، والمحاولات النقديّة التي سارت في هذا الاتجاه، خلال القرن الماضي، انتهت إلى طريق مسدود، أو أنه «لا يؤدي إلى أين»، إذا استعرنا عنوان مجموعة شعريّة لسركون بولص في وصف ما نريد.

الكتاب من نحو 500 صفحة، عنوانه: «سافرتُ ملاحقاً خيالاتي» مجموعة حوارات نشرتها دار الجمل، فيه فصل لحديث الروائيّة سلوى النعيمي مع بولص عام 1997: «أنا لا أكتب قصيدة نثر، أكتب شعراً»، (يصرخ) الشاعر في وجه الروائية النعيمي. «علينا أن نفقد ثقتنا بالعالم. عندما أرى إنساناً واثقاً من العالم أخاف منه. كيف أثق بأن القطار الذي يحملني لن يتفجّر بعد قليل، أو أن مجنوناً سيدخل المقهى حاملاً رشّاشاً يقتل مَن أمامه». وبالإضافة إلى العالم المحيط به، يعلن الشاعر صراحة عدم ثقته بالنقد الأدبي وبالمرأة. ثلاث قضايا لا رابط بينها في الواقع، لكنها التأمت مع بعضها في خياله وصارت جزءاً من ذاته. هل نستطيع عدّ هذا الشعور ما يطلق عليه علماء النفس «جنون الارتياب»؟ أمرٌ آخر يخافه سركون بولص هو اللغة: «أنا من النوع الذي يخاف من اللغة، وفي الوقت نفسه يستغلّها في عمليّة إرهابيّة لإجبارها على الخضوع. هناك نوع من الساديّة في هذه العلاقة». لم أفهم، في الحقيقة، مغزى الشاعر، وكان بإمكانه استعمال حركة أكثر هدوءاً عند تعامله مع كتاب اللغة: «القاموس، هذا الشيء الغريب، يحتوي كلّ شيء في حالة موات، في حالة سبات، يأتي الشاعر ليوقظه، برفسة إن احتاج الأمر». ثم يستعير بولص فِعل الإرهاب ثانية، ولا نعرف أيّة ساقية معتمة في نهر الواقع أو الخيال قادته إليه: «العلاقة بين الشاعر واللغة مختلفة عن علاقة الآخرين بها، إنها علاقة مثيرة يمكن له بواسطتها أن يفجّر العالم، كما يفعل أيّ إرهابي». تنتبه النعيمي إلى الشِّدّة في كلامه، وتسأله لماذا «تستعمل كثيراً تعبيرات مثل التفجير والإرهاب والقتل؟»، يجيبها الشاعر، وباللهجة نفسها: «نعم، أعتقد أن علاقتي (حدّية) مع العالم ومع الكتابة».

الشعر الشديد

إذا رجعنا إلى سنة ميلاد الشاعر 1944، معنى هذا أن عمره وقت الحوار تجاوز الخمسين؛ أي أنه غادر تقريباً هيجان الصبا والشباب، لكنه لا يزال يستعير أدوات تلك السنين في التعبير. وفي مكان آخر من اللقاء، يذكر بولص أسماء الشعراء الذين كان لهم السبق في كتابة قصيدة النثر العربية: يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ، ويصف ما قاموا به بأنه «ثورة حقيقيّة» في الشعر العربي. وتُجادله السيّدة المحاورة بأن هذه الثورة تحوّلت إلى مأزق حقيقي؛ لأن ما جاء به هؤلاء مع تقادم السنين لم يكن غير شعرٍ «قليل الكثافة، أوصلَنا إلى ما يسمّيه بعضهم (القصيدة العربيّة الواحدة) المكتوبة أصلاً بلغة الترجمة، والتي لا نفرّق فيها بين شاعر وآخر»، يجيبها الشاعر بالكلام الغريب نفسه، والنبرة نفس النبرة، يابسة إلى حدّ أن القارئ يشكّ في أن «القطْرَ» أتاها ولو مرّة، عن التجديد والتجاوز وبركان اللغة وثورة اللغة وحرب اللغة، وغير ذلك من أوصاف كانت محبَّبة للشعراء، في النصف الثاني من القرن الماضي، على سبيل الافتتان بهذه الأفعال؛ لأنهم كانوا يسعون إلى تغيير الشعر، وبالتالي العالم، بهذه الطريقة الثوريّة!

وهم يتقلّبون محترقين بنار الموهبة، هل كان الشعراء يسيرون في خطّ مواز للدرب الذي سار فيه زعماء الأنظمة اليساريّة الذين ظلّوا يرفعون شعارات الحريّة والاشتراكيّة والتقدّم إلى أمام؛ إلى الأخير؛ أي إلى آخِر درجة من الهدم الذي قاموا به في بلدانهم؟! هذا التماثل بين الشاعر ورجل السلطة يعلنه صراحة فاضل العزّاوي، في كتابه «الرائي في العتمة»، الصادر عن منشورات الجمل، أيضاً: «أرى أن الديكتاتوريّات السابقة التي عشنا في ظلّها كانت تحترمنا حقّاً، ولو بطريقتها الخاصّة، بعكس ما يحدث الآن. كانت تُشعرنا بأهمّيتنا وخطورتنا كشعراء وكُتّاب ومفكّرين ومثقّفين، حين كانت تعتقلنا وتزجّ بنا في السجون، أو حتى حين تقتلنا. أما هؤلاء المسوخ الجدد، وهم جهلة من طراز فريد، فلا يكادون يشعرون حتى بوجودنا، باعتبارهم من سلالة أخرى غير سلالتنا».

أصالة الشاعر لا تتجسّد في قصائده فحسب وإنما في أفكاره وقناعاته وطريقته في العيش أيضاً

لا أتّفق مع الشاعر فيما قاله، واعترافه بهذه الصورة ليس دليلاً على أهمّية ما كان يؤلّفه في الماضي، ويُحكَم عليه بالسجن بسببه، وإنما هو تأكيد لهشاشة الأنظمة السابقة؛ حيث كان رجالها يرتعدون خوفاً من الأغنية واللوحة والمقالة وشريط السينما.

يقول الشاعر الجنوب أفريقي برايتن برايتنباخ: «الشعر عمل كريم؛ أي أنه ليس هبّة ذاتية، بل طريقة مشاركة لما هو مشترك بيننا، لما هو في أعمق ذواتنا». إن لغة الحوار تؤدي أحياناً ما تقوم به المرآة المكبّرة في كشف خفايا النص، كما أن من أول أسس النقد أن يكون الشخص العامل فيه قادراً على عزل القصيدة الرديئة عن الجيدة. لو أعدنا قراءة أكثر الشعر الذي قيل في النصف الثاني من القرن الماضي، لسركون بولص وفاضل العزّاوي، على سبيل المثال لا الاقتصار، لاكتشفنا أنه يتوزّع بين الرسم التجريدي، والألاعيب اللغويّة، والسفسطة، يقوم بها الشاعر من غير لحظة تفكير في أمر القارئ، وهل كان مشاركاً له عبر قناة تجمع بينهما، الحال التي تجري كذلك على الأنظمة الحاكمة التي ظلّت ترفع شعارات الثورية والتغيير للجماهير، وهي في الوقت نفسه بعيدة عنهم. يفهم الإنسان نفسه عندما يشعر بفهم الآخرين لكلماته، والشعر الشّديد في غموضه يشبه هبّةً ذاتيّة ينفعل بها المرء ولا تصل إلى غيره لأنها غير مفهومة حتى لنفسه. هبّة ذاتيّة تخرج من الذات وتعود إليها، حالها حال إعصار صغير يتشكّل في البريّة أيّام الصيف الحارّة ويُثير الأتربة لا غير، وله اسم في اللهجة العراقيّة أعفّ عن ذكره في هذا المقام، لكنه في الحقيقة أبلغ وأصدق وصف له.


نشيد الأناشيد وشعرية الحنين إلى الفردوس

جيمس فريزر
جيمس فريزر
TT

نشيد الأناشيد وشعرية الحنين إلى الفردوس

جيمس فريزر
جيمس فريزر

يتعذر الحديث عن الحب دون التوقف ملياً عند «نشيد الأناشيد»، بوصفه أحد أهم النصوص المؤسسة لشعرية العشق والافتتان التي عرفها الكوكب الأرضي على امتداد العصور. ذلك أن في ثنايا هذا النص المدهش من جماليات أسلوبية وفنية، ومن تباريح العشق الروحي والجسدي، ما جعله شديد الأثر على الكثير من قصائد الحب التي كُتبت من بعده، بقدر ما شكّل على الدوام مصدر حيرة الباحثين الذين تناولوه بالنقد والدراسة والتحليل. ولعل أكثر ما يستوقفنا بشأن هذا النشيد، وقبل الولوج إلى جمالياته ودلالاته الفنية والإنسانية، هو وروده كسفْر مستقل من أسفار «العهد القديم»، التي تركز في مجملها على سرديات دينية تتعلق بخلق العالم وتتبُّع أحداثه المفصلية، وبسيَر أنبيائه الكثر وما عانوه، في سياق الصراع الدائم بين الخير والشر، من آلام ومكابدات.

والملاحَظُ أن حرص القرآن الكريم على تنزيه الأنبياء عن ارتكاب المعاصي، لم يقتصر على الملك سليمان وحده، بل طال أباه داود، الذي اقتصرت صورته في القرآن على العبادة والعلم وطاعة الخالق، فيما ينقل عنه «سفر صموئيل الثاني»، بأنه الرجل النزق الذي لم يتوان عن قتل قائد جيشه، لمواقعة زوجته «بثشبع»، وقد شاهدها تغتسل عاريةً، قبل أن تحمل في وقت لاحق بابنه سليمان. ولا تختلف صورة الابن في «العهد القديم» عن صورة الأب. ففي «سفر الملوك الأول» يظهر سليمان بوصفه الذكَر الممتلئ شبقاً، الذي شغف بنساء من جميع الأعراق، وبينهن من نهاه الله عن الزواج منهن، ولكنه «التصق بهن لفرط محبته لهن، فكانت له سبعمائة زوجة وثلاثمائة محظية، انحرفن بقلبه عن الرب».

غلاف «نشيد الإنشاد» بترجمة أنسي الحاج

وسواء تعلق الأمر بالأب أو بالابن، فإن إلحاح الرواية التوراتية على قدرات الملكين الجسدية الفائقة يعكس في عمقه نفياً واضحاً لعصمة الأنبياء، بقدر ما يبدو تباهياً بفحولة الحاكم اليهودي مقابل «تأنيث» الآخرين، أفراداً كانوا أم شعوباً وجماعات. وإذ تركز السردية التوراتية على افتتان بلقيس بجمال سليمان وسعيها الحثيث للظفر به، تذهب السردية القرآنية بالمقابل إلى أن سليمان هو الذي بذل كل جهده للظفر ببلقيس. إلا أن اهتمامه بها لم يكن بدافع شغفه المفرط بجمالها الفاتن، بل بهدف إبعادها عن ديانتها الوثنية، وإعادتها إلى طريق الإيمان القويم. وهو الأمر الذي يؤكده ما جاء على لسان ملكة سبأ في الآية الكريمة «ربِّ إني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمانَ لله ربِّ العالمين».

وإذ يحرص «النشيد» على إظهار سليمان في صورة الملك الشاعر الذي تيمه العشق، يبدو هذا الحرص بمثابة تصحيح متأخر للصورة النمطية التي رسمتها له أسفار «العهد القديم» الأخرى. ولعل التناقض الواضح بين صورة سليمان في «سفر الملوك» وصورته في «نشيد الأناشيد» هو الذي حدا ببعض الدارسين إلى الاستنتاج بأن سليمان قد يكون نظم «النشيد» في فترة كهولته، أي بعد تراجع تطلُّبه الجسدي، وتقدُّم الروح لكي تحتل مكانها اللائق على ساحة الهيام والوجد. ومن الباحثين من ذهب إلى مسالك ومقاربات أخرى؛ حيث تساءل أنسي الحاج في تقديمه لـ«النشيد» الذي أعاد ترجمته بلغة عالية، عما إذا كان هذا الأثر الاستثنائي من كتابة سليمان نفسه، أم هو «مجموعة أشعار بابلية المصدر في غناء حب عشتار وتموز؟ وهل كتبه كتّابه تحت الروح الهيليني، أم لملموه من الأدب الإسكندراني ونقلوه إلى العبرية؟». كما ذهب البعض إلى قراءات أخرى، فرأوا فيه رمزاً لاتحاد يهوه بإسرائيل أو المسيح بكنيسته.

والواقع أن في النشيد ما يترك الباب موارباً إزاء أي جواب حاسم بشأن مؤلفه أو مؤلفيه الحقيقيين. ومع أن اسم سليمان يتكرر غير مرة في فصوله، مثل «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كشقق سليمان»، أو «الملك سليمان عمل لنفسه تختاً من خشب لبنان»، أو «كان لسليمان كرْم في بعل هامون»، فإن في ذلك ما يرجح كونه بطل «النشيد»، وليس كاتبه بالضرورة. كما أن الأصوات الثلاثة التي تتعاقب على الكلام، وهي الرجل والمرأة والجوقة، يمكن أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن النص أقرب إلى طقس عشقي ذي طبيعة دينية، كتبه شاعر أو أكثر، وتم تقديمه في الهيكل الذي بناه سليمان من خشب الأرز، تمجيداً له وتعظيماً لشأنه.

وقد يكون التداخل الملغز بين صورتي الملك والراعي في فصول «النشيد» المختلفة، واحداً من العناصر الإضافية التي تترك في ذهن القارئ المزيد من البلبلة واللبس حول هوية كاتبه. إذ ثمة ما يشير إلى أن العاشقين كانا راعيين من عامة الشعب، مثل «يا من تحبه نفسي، أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟»، أو «أيتها الجميلة بين النساء، أبرزي في أثر الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة». كما أن حث المرأة حبيبها على الهرب، بقولها في المقطع الختامي «اهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيّلة على جبال الأطياب»، لا يستقيم مع مقام الملك الذي كانت تهابه الشعوب والكائنات كلها، بل يبدو فعل الطلب موجهاً إلى الراعي، الذي قد يكون دخوله على خط العلاقة، تجسيداً لحنين المرأة إلى سليمان نفسه في صورته الرعوية الريفية، بعيداً عن سطوة الحكم وأبهة السلطة المدينية.

وإذا كان من المتعذر فصل النشيد عما سبقه من مؤثرات وروافد مختلفة، بخاصة حوارات «إنانا» و«ديموزي» ذات الطابع الإيروتيكي، التي تقيم تماهياً واضحاً بين طقوس الزراعة والخصب والفعل الجنسي، كما بيّن جيمس فريزر في «الغصن الذهبي»، وصموئيل كريمر في «طقوس الجنس المقدس»، فإن «النشيد» يكتسب أهميته من جمالياته الفنية والدلالية، ومن مناخاته المدهشة التي تجمع بين الشغف المحموم ورغبة الانصهار بالآخر:

اجعلني كخاتم على قلبك

كخاتم على ذراعك

لأن الحب قوي كالموت

والغيرة قاسية كالهاوية

مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ الحب

والأنهار لا تغمره

كما تتضافر في النشيد، الذي يعده زنون كوسيدوفسكي «واحداً من أروع وأندر القصائد الشعرية الشهوانية في الأدب العالمي كله»، الحواس الخمس مجتمعة، لتمنح العلاقة العاطفية ما يلزمها من أسباب النشوة الجسدية والثمل الروحي. فهو يحتشد بشتى الألوان التي يضيء كل منها جانباً خاصاً من جوانب الكرنفال العشقي. فالمرأة في «النشيد» يبدو شَعرها شبيهاً بقطيع ماعز على جبل جلعاد، وشفتاها كسمط من القرمز، وعنقها كبرج من العاج. أما الرجل من جهته، فهو لحبيبته عنقود حناء، وغدائره كسعف النخل حالكة كالغراب، ويداه حلقتان من ذهب، وجسمه مغشّى بالياقوت الأزرق.

وفي هذا العالم البدئي للعناصر والكائنات، لا يتبقى من فاصل يُذكر بين الإنسان والطبيعة، بحيث تصبح النباتات حالة من أحوال الجسد الإنساني، ويصبح البشر بدورهم امتداداً للأشجار والنباتات. وحيث يبدو الخريف والشتاء رديفين رمزيين للشيخوخة والموت، يتقمص الربيع بالمقابل صورة القيامة، متكفلاً بإعادة الحياة إلى نصابها، وبضخ الدماء الحارة في العروق التي جمدها الصقيع. ولعل أكثر ما يجسد هذه التوأمة بين طرفي الخلق هو قول الرجل العاشق منادياً امرأته المعشوقة:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرَّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها

والكروم أزهرتْ وفاح عَرْفُها

ومع عزف النشيد على وتر العلاقة المتداخلة بين الجسد والروح، كما بين الديني والدنيوي، يظهر الاحتفاء بحاسة الشم وكأنه ضربٌ من ضروب اللعب المقصود على وتر الانجذاب الجسدي، وتنسُّمٌ لهبوب الأزمنة المنقضية على حدائق الرغبات. وإذ تتكرر في النص عبارات من مثل «مَن هذه الطالعة من القفر مطيبة بالمرّ واللبان» و«خدّاه كخميلة الطيب» و«حلْقكِ كخمر طيبة»، نلاحظ في الوقت نفسه تركيزاً على التفاح ومذاقاته وروائحه المشتهاة، كما في عبارات «عَرْف أنفكَ كالتفاح» و«تحت شجر التفاح نبهتك» و«قوُّوني بالتفاح فقد أسقمني الحب». وإذا كان من البديهي أن نستعيد مع التفاح شجرة الخطيئة الأصلية وثمار الإغواء الشهواني، فإن الاستدعاء المماثل للرمان والكرمة والنخيل وغيرها، يعكس في عمقه الأخير حنيناً موازياً للعودة إلى الفردوس. فبمثل تلك العودة أمكن للعري أن يكتسي ثوبه الطهور، وللشهوة أن تنبثق عن أكثر المشاعر صلة بالعفة، وللمدنس أن يدخل في عباءة المقدس. وفي ظل ذلك الانصهار الكلي بين العناصر والكلمات، أمكن للعاشقين المدنفين أن يتحولا إلى نسخة ثانية عن آدم وحواء، سابقة على ارتكاب الخطيئة، وأمكن للجوقة الشبيهة بالكورس في المسرح الديني أن تسأل المرأة الوالهة «ما فضل حبيبك على الأحباء، أيتها الجميلة؟»، لتجيب الأخيرة بلا تردد:

حبيبي أحمر ونضر

غدائره كسعف النخل حالكة كالغراب

عيناه كحمامتين على أنهار المياه

وجسمه عاجٌ يغطيه اللازورد

ساقاه عمودا رخام على قاعدتين من إبريز

وطلعته كلبنان.


ثلاثة وجوه طينية من جزيرة فيلكا

ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
TT

ثلاثة وجوه طينية من جزيرة فيلكا

ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية

يحتفظ متحف الكويت الوطني بمجموعة من المجسمات الطينية الأثرية، مصدرها جزيرة فيلكا التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من الخليج العربي؛ حيث تبعد نحو عشرين كيلومتراً عن سواحل مدينة الكويت. تضم هذه المجموعة قطعاً متنوعة من حقب زمنية متعاقبة، أقدمها تلك التي تعود إلى زمن شكّلت خلاله فيلكا ركناً أساسياً من إقليم واسع امتد على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وعُرف باسم دلمون. تتعدّد هذه القطع الدلمونية من حيث الأساليب والمواضيع، فمنها ما يبدو تقليدياً، ومنها ما يمثّل طُرُزاً نادرة يصعب تصنيفها. من النوع الثاني، تبرز ثلاثة وجوه صغيرة يمثّل كل منها وجهاً ذكورياً ملتحياً.

تُقسّم جزيرة فيلكا في زمننا إدارياً إلى مجموعة من القرى؛ منها قرية منطقة القصور التي تقع في وسطها، وقرية سعيدة في الجهة الشمالية الغربية منها، وقرية الدشت في الجهة الشماليّة الشرقية منها، وقرية القرينية المطلّة على البحر. تقع أهمّ المواقع الأثرية في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، وأشهرها منطقة تُعرف باسم «تل سعد»، وأخرى تُعرف باسم «تل سعيد». وبين هذين التلّين، في منطقة منخفضة مجاورة للساحل، يقع موقع ثالث يُعرف باسم «الخان»، أو دار الضيافة. استكشفت هذه المواقع بعثة دنماركية تابعة لـ«متحف أرهوس» خلال سلسلة من مواسم التنقيب، بدأت في فبراير (شباط) 1958 وانتهت في يناير (كانون الثاني) 1963. تواصلت بعدها أعمال المسح والتنقيب، وقامت بها بعثات خارجية متعددة، من الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا.

بحسب تقرير البعثة الدنماركية، تتألّف دار الضيافة «من اثنتي عشرة غرفة، غرفتان منها في الوسط ويرجّح أنهما كانتا تؤلفان ساحة البيت، أمّا جدرانه فهي لا تزال قائمة، وهي مبنية في بعضها من الآجر المربع، من النوع المعروف في بابل، ويُرجّح أنّه استُورد منها». من هذه الدار، خرج مجسّم صغير من الطين الأصفر يبلغ طوله 5 سنتيمترات، يمثّل رأس رجل ملتحٍ يعتمر قبعة مدببة مخروطية الشكل. يأخذ هذا الرأس في تكوينه شكل ما يُعرف هندسياً بـ«المعين»، أي المكعّب المائل، ويتألف من هرمين متقابلين متصلين لدى القاعدة، عند حدود عيني الوجه وأذنيه.

أُنجز هذا المجسّم بأسلوب متقن، تجلّى في تجسيم سمات الوجه التي بدت طبيعية، رغم ذوبان ملامح العينين في الكتلة الطينية. شفتا الفم بارزتان، ويفصل بينهما شق يحدّه خطان ناتئان عند طرفي الوجنتين، مما يوحي بابتسامة خجولة ترتسم على الوجه بخفر شديد. الأذنان كبيرتان، وهما محوّرتان، وتتّخذ كل منهما شكل نصف دائرة مجوّفة. تحدّ الذقن لحية طويلة تشكل مثلثاً يحوي سلسلة من الخطوط المحفورة تمثّل خصل الشعر المتدلية. القبعة طويلة ومدببة، وهي على شكل مثلث معاكس، تزيّنه سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية تلتقي عند قمة هذه الطاقية المدببة، ويحدّه في الأسفل شريطان متساويان في الحجم.

في التقرير الخاص بالبعثة الدنماركية، قيل إن لهذا الرجل «لحية شبيهة بلحى أهل وملوك أشور، وإلى هذه الدار كان يأتي ربابنة السفن وبحارتها بعد نزولهم طلباً للراحة، وهنا كانوا يجدون الطعام والماء العذب، ويقدّمون الهدايا والنذور وهم في طريقهم إلى بلدان المشرق وعند عودتهم منها». وأضاف التقرير: «ولا يخفى أن جزيرة فيلكا كانت هي أول محطة تتوقف عندها السفن في طريقها من أور إلى جنوب الخليج الذي كان يمتد حتى المدن السومرية في جنوب العراق، أي أن المسافة أكثر مما هي عليه الآن، ما يجعل الرسو في موانئ فيلكا أمراً طبيعياً». في هذه الدار أيضاً، وُجدت كذلك «كميات كبيرة من الفخار المكسور وبقايا آنية القوم، أمّا الآجر فيحتمل أنهم نقلوه من التل الغربي، واستعملوه في بناء هذه الدار».

خرج ختمان فريدان من نوعهما كذلك من موقع «تل سعد»، وهما من نتاج الحقبة الدلمونية الأخيرة التي تمتدّ من عام 1700 إلى عام 1500 قبل الميلاد

من موقع «تل سعد» الذي يحوي أطلال أهم المنشآت الدلمونية في الجزيرة، خرج مجسّمان آخران يمثل كل منهما وجهاً ملتحياً في أسلوب خاص، وهذان المجسّمان مسطّحان، ويغلب عليهما طابع النقش الناتئ البارز. الوجه الأول مستطيل، وأعلى رأسه حاسرٌ، وتتمثل ملامحه في عينين لوزيتين واسعتين، يعلوهما حاجبان مقوّسان متّصلان، يشكل كل منهما نصف دائرة ناتئة. عند نقطة اتصال هذين الحاجبين، ينسدل أنف يأخذ شكل مثلث ذي ضلعين عموديين طويلين. الفم كبير، مع شق مستقيم في الوسط يرسم حدود الشفتين. والذقن طويل، تزينه ثلاثة خطوط تختزل كما يبدو شعر لحية ممحوة.

الوجه الثاني بيضاوي، ويتميز بملامحه المحوّرة بشكل هندسي. العينان لوزيتان، ومقلتاهما محاطتان بأهداب واسعة، ويتوسطهما بؤبؤ دائري. الحاجبان عريضان ومنفصلان، وهما على شكل شريطين مزخرفين بسلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. معالجة الشاربين واللحية تمت وفق الأسلوب نفسه. الفم عريض، ويتكوّن من شفتين واسعتين وصلبتين ترسمان ابتسامة جليّة. يماثل هذا الوجه تحديداً في تكوينه وجهاً يحضر على ختمين منقوشين، أشارت إليهما الباحثة آنا هيلتون في دراسة أكاديمية تناولت أواني فيلكا الحجرية. وهذان الختمان استثنائيان، إذ لا نرى ما يماثلهما في ميراث أختام فيلكا الذي يتكون من مئات الأحجار، ويُعد الأكبر في هذا الميدان.

خرج هذان الختمان الفريدان من نوعهما كذلك من موقع «تل سعد»، وهما من نتاج الحقبة الدلمونية الأخيرة التي تمتدّ من عام 1700 إلى عام 1500 قبل الميلاد، وتتزامن مع بسط سلطة سلالة الكيشيين البابلية على دلمون بشكل مباشر. يتميّز أحد الختمين بكونه يحمل نقشاً على وجهه، ونقشاً على ظهره. يظهر الرأس الملتحي على نقش الوجه، ويعلو تأليفاً يضمّ ثوراً وسعفة من النخل، وهذان العنصران معروفان، وهما من المفردات الدينية المعتمدة في القاموس التشكيلي الدلموني. يتأكّد هذا الطابع مع النقش الذي يحتل ظهر الختم، ويمثل ثلاث قامات في وضعية جانبية، رافعة ذراعيها نحو الأعلى، في حركة تقليدية ترمز إلى الابتهال.

الختم الثاني صغير للغاية، وعلى وجهه المنقوش ببساطة شديدة تتكرّر صورة هذا الوجه في شكل مختزل مماثل. هوّية هذا الوجه المثير لم تتحدّد بعد، نظراً إلى ندرة النماذج التي تمثّله، وغياب أي كتابات منقوشة عن هذه النماذج المعدودة.


«تسعون» ميخائيل نعيمة بتوقيع مارون بغدادي

 عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
TT

«تسعون» ميخائيل نعيمة بتوقيع مارون بغدادي

 عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر

بعد أكثر من ثلاثين سنة على غياب المخرج اللبناني مارون بغدادي التراجيدي، ها هي جواهره لا تزال تظهر وتمتع وتدهش.

قلة هم الذين سجّلوا أفلاماً وثائقية مع أدباء كبار غادرونا، تلاحق تفاصيلهم اليومية. كان لبغدادي حظ أن طلب منه عمل فيلم مع ناسك الشخروب، عندما كان الرئيس إلياس سركيس في سُدة الحكم، وأحبّ عمل أسبوع تكريمي لنعيمة بين 7 و14 مايو (أيار) من عام 1978، ببرنامج تضمّن مسرحية أخرجها يعقوب الشداروي، وكان هذا الفيلم الذي فقد أثره، ولم يعرف أحد شيئاً عنه، ويبدو أنه عُرض لمرة واحدة على «تلفزيون لبنان»، واختفى بعدها مثل كثير من كنوز الأرشيف اللبناني الذي أكلته الحرب.

«نادي لكل الناس» بالتعاون مع زوجة المخرج الراحل ثريا بغدادي، وهما يحاولان لململة أرشيفه، عثرا على نيغاتيف هذا الفيلم في فرنسا، وتمكنا من الحصول عليه بعد دفع تكاليف باهظة، ورقمنته، وإعادته إلى الجمهور.

في أحضان الطبيعة

الأزمات المتلاحقة، ومنها الانهيار الاقتصادي الذي ضرب لبنان، والوباء، من بعده، حالت دون أن يأخذ الفيلم حقه، لكن نجا الأشقر، مدير «نادي لكل الناس»، وثريا بغدادي، وسهى حداد (وحيدة ميّ ابنة شقيق نعيمة)، يواكبون الفيلم في جولاته اللبنانية، التي بدأت من بيروت، ومرّت ببسكنتا، قرية نعيمة، وأماكن أخرى، ووصلت إلى طرابلس، حيث عُرض الفيلم بمبادرة من الشاعرة ميراي شحادة، مؤسسة «منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة»، على هامش «معرض كتاب طرابلس». تلا العرض نقاش حول الفيلم المفاجأة الذي تبلغ مدته 56 دقيقة، ويحاور فيه المخرج ميخائيل نعيمة في بسكنتا، والشخروب، ويجول معه في مختلف المحطات، وصولاً إلى بيته الساحلي في الزلقا، ويذهب به إلى متحف جبران في بشري، في وقفة أدبية مؤثرة يخاطب خلالها صديقه الغائب جبران وكأنه لا يزال حياً، وكذلك نرى نعيمة يتحدث عن الحرب من وسط بيروت المدمر.

الفيلم الذي صُوّر بعد اندلاع الحرب الأهلية بثلاث سنوات، بكاميرا حسن نعماني، حرص على أن يكون أميناً لروح نعيمة، لحبه للطبيعة، للمكان الذي وُلد فيه. تشاهد الفيلم وكأنك تقرأ كتاباً لنعيمة، تدخل معه في ثنايا فلسفته، وهو يشرح ما يفكر به، ما يعتقده، ما يعيشه، بكلمات بسيطة، بعبارات تصل للمشاهد العادي.

تسع وثمانون سنة عمر ميخائيل نعيمة عند تسجيل الفيلم، لكنه يتحدث بنضارة ووضوح شديدين، يشرح بانسيابية لافتة بالنسبة لرجل يقارب التسعين، مما أوحى للمخرج بالعنوان الذي أطلق على الشريط، قياساً على اسم الكتاب الشهير لنعيمة «سبعون».

نرى نعيمة يتحدث عن غربته في نيويورك، عن أنفته من الضجيج، عن رغبته العارمة التي سكنته للعودة إلى أحضان الطبيعة، للإصغاء إلى ما تقوله له الأشجار، الصخور، السماء الصافية، كيف تخاطبه الجداول، هو المنخرط في هذا الوجود الجميل الذي وُلد فيه، حتى شعر بـ«أن الإنسانية كلها موجودة في داخلي».

تنقل الكاميرا بحب الجمال الأخّاذ الذي عانقه نعيمة طوال حياته، سواء في بسكنتا، أم الشخروب، في الصحو، وحين يهطل المطر وتتلبد السماء، عندما تحلّ الثلوج البيضاء على الجبال. لا يتعب نعيمة من الكلام على ما يعتمل داخله من خشوع وسكينة أمام هذا الجمال الطبيعي المهيب. وينطلق الأديب في شرح رؤيته للتقمص، وللانخراط اللانهائي في الوجود، مما يجعل فكرة الموت غير موجودة في ذهنه، بل هي الحياة المتجددة، الممتدة. لهذا ربما حين نشاهد نعيمة وسط الدمار في بيروت، يقول إنه يشعر بالأمل، وبأن كل هذا سينتهي، وستعود الحياة إلى المدينة، فهو برؤيته الخاصة، لا سبيل للهلاك، بل للولادة الدائمة، لكنه يحزن أمام مشهد القمامة في منزله بالزلقا، حيث عبثت يد الإنسان وجلبت البشاعة.

يرى أن المدينة تجتذب مختلف العناصر، بخيرها وشرّها، وهو ما يجعله يأنف منها، فيما القرية تبقى قادرة على تطهير نفسها، واستعادة نقائها.

يجيب بلا تأتأة ولا تردد عن الأسئلة الوجودية التي تُطرح عليه، عن علاقته بعائلته، بوالده الأمي، وأم لا تفك الحرف والتي كانت سعيدة، برؤية الأقلام والأوراق في البيت، محتفية بابنها الكاتب، لكن الوالدة لم تكن لتتصور أن الكتابة ستجعل ابنها ينسى حاجته للطعام، ويعفّ عن الزواج، هذا كان مما أحزنها.

نرى نعيمة في الصور مع أفراد العائلة، ومرة أخرى نشاهده يتبادل حواراً شقياً مع سهى حداد التي رافقته مع والدتها في مختلف مراحل حياته، وشاركت في الحوار حول الفيلم. لكن المشاهد الأكثر قوة هي التي يتحدث فيها عن الأرض، عن أن منها يأكل الإنسان، ويلبس ويشرب، هي للإنسان كل شيء، ومع ذلك ثمة من يتكبّر على التراب ويأنف من أن يلامس رجليه.

أما حين يتحدث عن جبران، فهنا يقطع ناسك الشخروب كل شكّ حول تلك الأقاويل التي تتهمه بعدم الود لصديقه، يخبرنا نعيمة أنه كان قد قابل جبران، قبل أيام قليلة من تدهور حالته في أميركا، وحين عرف بالأمر هرع إليه في المشفى، وبقي إلى جانبه ما يقارب خمس ساعات، ولم يغادره إلا بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

يصف جبران بأنه كان يعمل كالمحموم، يتجاهل مرضه وتعبه، ويرى أنه كان يعيش بقلبه وعاطفته، مع أنه كان يُعمل العقل، لكن العاطفة عنده كانت أقوى.

ويقف نعيمة أمام الكاميرا في متحف جبران في بشري وراءه لوحاته، ويخاطب صديقه وكأنه يحدثه، بروحانية وشفافية مؤثرتين، كان ثمة علاقة تفوق تلك التي سكبها وهو يروي سيرة صديقه جبران خليل جبران في كتاب خصصه له، فقد أعمل نعيمة النقد والعقل، ليخرج بكتاب للتاريخ، أكثر مما ترك عاطفته تنساب لتكتب عن الإنسان الذي عايشه ورافقه في الغربة.

تقول ثريا بغدادي إنها طوال 12 سنة من حياتها مع مخرج الفيلم لم يحدثها قط عن هذا الشريط، ولم تكن تعلم بوجوده، وأنها ذهلت حين رأته، وعملت على ترجمته، وها هي تجول به؛ لأنها، كما كل المهتمين بالعمل، تعتقد أنه وثيقة نادرة، وأنه يجب أن يُرى وأن يُعرَض في المدارس والجامعات، وأن يصل إلى أكبر عدد من المتفرجين.

أما سهى حداد فتروي حكايتها مع جدو ميشا، كما تسمي ميخائيل نعيمة الذي رباها وعاش معها ومع والدتها بعد طلاق والديها، عن كرمه مع عائلته، عطائه الذي لم ينقطع. حين نسألها عن الشائع عنه أنه كان لا يحب الاختلاط بالناس، تجيب بأنه لم يكن يخرج لزيارة أحد، بل كان هو من يستقبل رواده الدائمين، وأن انسيابية حديثه في الفيلم وهو في هذه السن المتقدمة، لأنه كان دائم الحوار مع زواره الذين لم ينقطعوا عنه مطلقاً. وذكرت أن منزله في الزلقا وكل أغراضه نقلتها إلى منزل جديد في منطقة المطيلب، المفتوح لمن يريد الزيارة. أما الجزء الأكبر والمهم من مكتبته فهو الموجود في منزله الثاني ببسكنتا، ولا تزال محفوظة.

ويؤكد نجا الأشقر ضرورة أن يجد هذا الفيلم الذي عمل، كما بقية أفلام مارون بغدادي، على رقمنته وحفظه ونشره، لا بد أن يشاهَد على أوسع نطاق؛ لأهميته كوثيقة فريدة عن كاتب لعلّ لبنان، اليوم، وكل المنطقة العربية بحاجة إلى سعة أفقه، ورجاحة موازينه.


إليزابيث بيشوب... شاعرة تستدعي الشاعر الكامن فينا

إليزابيث بيشوب
إليزابيث بيشوب
TT

إليزابيث بيشوب... شاعرة تستدعي الشاعر الكامن فينا

إليزابيث بيشوب
إليزابيث بيشوب

للمرأة مكان متميز في لوحة الشعر الأميركي ابتداءً من آن برادستريت أول شاعرة أميركية مهمة في القرن السابع عشر ومروراً بإميلي دكنسن في القرن التاسع عشر حتى شواعر القرن العشرين من أمثال إدنا ميلاى، وجرترود ستاين، وإيمي لويل، وهيلدا دوليتل (ه.د)، وميريان مور، وسيلفيا بلاث، وآن سكستون، وإدرين رتش، وإريكا يونج، ومن جئن بعدهن في هذه الألفية الثالثة.

وإليزابيث بيشوب (1911 - 1979) شخصية مهمة في هذه الكوكبة من الشاعرات. وهي موضوع كتاب

«Elizabeth Bishop» الصادر عن «مطبعة جامعة أوكسفورد» في 2022 من تأليف جوناثان بوست

(Jonathan Post)، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، ومؤلف كتب سابقة منها «شعر شكسبير» و«شعر أنطوني هكت» و«سوناتات شكسبير وقصائده».

لا ترجع مكانة بيشوب إلى غزارة إنتاج فهي - على العكس - مقلة لا يجاوز مجموع قصائدها 90 قصيدة أو نحو ذلك، ولم يصدر لها في حياتها سوى أربعة دواوين هي: «الشمال والجنوب» (1946)، «ربيع بارد» (1955)، «أسئلة الشعر» (1965)، «جغرافيا 3» (1976). وبعد وفاتها صدرت لها «القصائد الكاملة 1927- 1979» في 1983. كذلك نشرت أيضاً، بعد سنوات من رحيلها، كتاباتها النثرية (1984)، ومختارات من رسائلها (1994). ويمكن أن نضيف إلى ذلك ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية أعمالاً من اللغات البرتغالية والإسبانية والفرنسية. ومن هذه الترجمات ثلاث أقاصيص للروائية البرازيلية كلاريس لسبكتور.

ليس في حياة بيشوب أحداث لافتة كتلك التي نجدها في حياة سيلفيا بلاث وآن سكستون اللتين ماتتا منتحرتين، أو حياة إدنا ميلاى وإريكا يونج المليئة بقصص الغرام. لقد ولدت في ولاية ماساشوستس، وبعد وفاة أبيها (كانت في الشهر الثامن من عمرها حين توفي) وسلسلة الانهيارات العصبية التي أصابت أمها الكندية نشأت برعاية جديها من ناحية الأم في نوفا سكوشا بكندا، وتلقت تعليمها في كلية فاسار، حيث التقت في 1934 بميريان مور التي تشترك قصائدها معها في بعض ملامح أخصها دقة الملاحظة الوصفية. وفيما بعد ارتبطت بصداقة مع الشاعر روبرت لويل. عملت مستشارة للشعر بمكتبة الكونغرس بواشنطن في 1949-1950، وحصلت على جائزة «بولتزر»، أرفع الجوائز الأدبية الأميركية، في 1956، وانتخبت عضواً في «أكاديمية الشعراء الأميركيين» في 1964، وكانت أستاذة بجامعة هارفرد في سنواتها الأخيرة.

قامت بيشوب بأسفار عديدة في أوروبا وشمال أفريقيا والمكسيك وأميركا الجنوبية وحوض نهر الأمازون ونيويورك وجزر جالاباجوس في المحيط الهادي، وذلك قبل أن تستقر في البرازيل ثم في بوسطن. وقد قالت عند تلقيها جائزة دولية في الشعر عام 1976: «إن أغلب قصائدي جغرافية أو عن سواحل وشواطئ وأنهار تصب في البحر. وأغلب عناوين كتبي جغرافية هي الأخرى». ومن عناوين قصائدها التي تحدد المكان والزمان: «باريس، السابعة صباحاً»، «أخبار الساعة الثانية عشرة»، «البرازيل، 1 يناير 1502».

من أهم قصائدها التي سنتوقف عندها هنا: «السمكة»، و«كروسو في إنجلترا»، و«الأيل الأميركي الضخم».

قصيدة «السمكة» - كما هو واضح من عنوانها - قصيدة وصفية، ولكنها تأملية أيضاً. وهي تقع في أكثر من سبعين بيتاً. لقد كانت بيشوب تمتاز بالملاحظة الدقيقة وبخيال بصري لا يفوته شيء حتى إن الناقد والشاعر الأميركي راندل جاريل قارن قصائدها بلوحات المصور الهولندي يان فرمير (من القرن السابع عشر) والمصور الفرنسي إدوار فويار (من القرن العشرين).

والواقع أن بيشوب كانت إلى جانب الشعر رسامة ترسم بالألوان المائية والجواش (الحبر)، وقد وصلنا منها حوالي أربعين لوحة. وكانت معجبة بالمصور السويسري بول كلي تذكره في أكثر رسالة من رسائلها، وقد قالت ذات مرة إنها كانت تتمنى لو كانت مصورةً بدلاً من أن تكون كاتبة. ورغم وجود ملامح سريالية في بعض قصائدها فقد كانت تنفر من لوحات المصور السريالي الألماني ماكس إرنست.

وقصيدة «كروسو في إنجلترا» (182 بيتاً) مونولوج درامي مستوحى من رواية دانيل ديغو «روبنسن كروسو» وموضوعها - كما هو معروف - بحار تتحطم سفينته ويجد نفسه وحيداً (باستثناء زنجي يدعى فرايداى يتخذ منه كروسو خادماً) على ظهر جزيرة في قلب المحيط يعيش بها 28 عاماً قبل أن تمر سفينة فتحمله إلى بلده إنجلترا. والقصيدة مؤلفة من 14 مقطوعة تتفاوت من حيث الحالة النفسية والطول. ونرى فيها كروسو بعد عودته إلى إنجلترا يشعر بالفراغ والخسارة والحزن إذ فقد خادمه المخلص:

كان فرايداى لطيفاً

كان فرايداى لطيفاً، وكنا أصدقاء.

إنها قصيدة حزينة، مرثية متنكرة، نظمتها بيشوب بعد موت صديقة لها. وقد وصف روبرت لويل القصيدة بأنها «خليط من الفكاهة والقنوط».

أما قصيدة «الأيل الأميركي الضخم»، فتصف رحلة أتوبيس في طريق متعرج ذات مساء في نوفاسكوشا من منظور راكب ينظر من نافذة الأتوبيس. إنه يمر بمشاهد وأحداث متنوعة فالأتوبيس يمر بـ:

خمس جزر، خمسة بيوت

حيث امرأة تنفض غطاء مائدة

بعد العشاء

ويتوقف الأتوبيس فجأة ويطفئ السائق الأنوار، إذ يبرز أيل ضخم من الغابة ويتوقف أمام الأتوبيس في منتصف الطريق. ولكن أحد الرجال يطمئن الركاب إلى أن الأيل ليس مؤذياً. إنها مقابلة غريبة مع كائن غير بشري، شيء يجاوز الذات. ويستانف الأتوبيس السير، ولكن الركاب (والشاعرة) يلقون نظرة أخيرة على الأيل الذي فارق موضعه وتنتهي القصيدة بهذا التساؤل:

لم، لم نستشعر

(نحن جميعاً نستشعر) هذا

الإحساس العذب بالفرحة؟

كانت بيشوب شاعرة غنائية في المحل الأول. لم تكتب شعراً سياسياً ولا شعراً اعترافياً كذلك الذي كان يكتبه روبرت لويل وسيلفيا بلاث. إنها شاعرة السفر بامتياز في لوحة الشعر الحديث. وكانت حريصةً على ألا تكرر نفسها، وكل قصيدة من قصائدها كون مصغر أو عالم منمنم له بداية ووسط ونهاية. وكانت صانعة مدققة صبوراً (مرت قصيدتها المسماة «فن واحد» بست عشرة مسودة).

ويختم جوناثان بوست كتابه عن بيشوب بقوله إن قصائدها سطوح تزداد عمقاً كلما أنعمنا النظر فيها. إنها قصائد عن المعرفة التي تتكشف تدريجياً على مراحل. ويتساءل: هل عاشت قصائدها عبر الزمن؟ والإجابة: أجل كما تشهد استجابة الطلاب في الجامعات والمدارس لقصائدها، والدراسات النقدية المتزايدة التي تظهر عنها عاماً بعد عام. ويطرح بوست السؤال: «لماذا نقرأ بيشوب؟»، ويجيب: «لأنها تستدعي الشاعر الكامن في كل منا».


«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية

«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية
TT

«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية

«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «الآن بدأت حياتي» للكاتب السوري سومر شحادة. تتناول الرواية قضايا إنسانية واجتماعية، مثل الحب وفق شروط صعبة وبيئة غير مواتية، فضلاً عن الطلاق والوحدة في إطار تشويقي تقوم حبكته الأساسية على جريمة قتل غامضة. وفي التفاصيل، تبرز شخصية المحامي السوري الناجح والوسيم «يوسف» الذي يموت فجأة، قبل أن يهاجر مع زوجته إلى أميركا، ليقع الجميع تحت وطأة التساؤل: هل انتحر أم قتل أم كان موته حادث قضاء وقدر؟

تحقق الشرطة مع من حوله، ولا سيما صديقه المقرب «إياس» وصديقة عائلته «لين» وزوجته «ريما» ووالدتها، لتتكشف من خلال الرواية التي تدور أحداثها في يوم واحد مفاجآت غير متوقعة ومجتمعاً يخفي أكثر مما يظهر. زاد من الإحساس بعناصر التشويق في الرواية لغة السرد التي اتسمت بإيقاع سريع، وخاطف أحياناً، برغم تركيزها على الهواجس الباطنية للشخصيات، وكيف يرتدي البعض أقنعة الصداقة بحثاً عن وهم الحب والانتظار، وهو يصارع عالماً مضطرباً في زمن ذبلت فيه الحرية إلى حد الموات.

من أجواء الرواية، نقرأ:

«لم أحتمل البقاء بمفردي، كان شعوري بالوحدة مضنياً مع أنني كنت معتادة على أداء دور العاشقة التي تبقى في الظل وأصبحت أجده دوراً مريحاً بالنسبة إلى فتاة مثلي ترهقها مسؤولية الزواج، لكن قرار يوسف بالسفر برفقة ريما بدا خديعة وكنت أتقبل فكرة موته أكثر مما أتقبل فكرة سفره معها. وجود إياس إلى جانبي في أثناء العشاء خفف عني ثقل الوداع، وشعرت ما إن تركته على مقربة من المنارة بحاجتي إلى الآخرين. لم أشأ أن أعود إلى الغرفة التي أسكن فيها، بعد خطوات قطعتها بمفردي شعرت بأني متخمة بوحدتي وكنت قادرة على التخلي عن أوهامي بحاجتي إلى العيش منفصلة عن أمي وأبي، لكن لم يعد لدي طاقة على خداع نفسي ولم أشعر بوجود مرار يفوق مرار الوقوف مقابل البناية حيث أعيش بمفردي حتى وأنا أراقب العتمة داخل المبنى أدركت أن داخلي أصبح معتماً.

خاب رجائي، دائماً أجد الأخريات أمامي في واجهة العلاقات. ربما عدم تسرعي بالتفكير بالزواج وعدم إعطاء الارتباط أولوية جعلاني أظهر متساهلة في علاقاتي، أنا فتاة لا تندب حظها، كنت أحب أن أعيش بلا تعقيدات وما أشعر به كنت أسعى إلى تحقيقه لكن جمال هيئتي ترك في داخلي شعوراً مريراً بالوحشة. ما إن غادرني إياس حتى شعرت أني مستاءة من وحدتي لا من إياس ولو أن في ضعفه الذي يصدره عن نفسه مسوغاً لمن يعرف حقيقة صلابته كي يستاء منه، لكنني لم أستأ لأنه تركني من غير أن يقترح إيصالي إلى سكني إذ أعرف ارتباكه تجاه النساء. كنت مستاءة من وحدته بقدر ما كنت مستاءة من وحدتي».


الأدب في موازين السوق الحرّة

الأدب في موازين السوق الحرّة
TT

الأدب في موازين السوق الحرّة

الأدب في موازين السوق الحرّة

كالعادة، وكما هو متوقّعٌ منه كلّ سنة، لم يتأخّرْ تيري إيغلتون Terry Eagleton، المشتغل في حقل الأفكار العامة والدراسات الثقافية، في طرح نتاجه الذي صار واحداً من تقاليد منشورات جامعة ييل الأميركية المعروفة بسطوتها النخبوية. لم أتأخّرْ كعادتي في قراءة مقدّمة الكتاب الجديد لإيغلتون الذي اختار لكتابه عنوان الشيء الواقعي: تأمّلاتٌ في شكل أدبي

The Real Thing: Reflections on a Literary Form

والكتاب حديث النشر من مطبوعات جامعة ييل لعام 2024.

لستُ أبتغي هنا تقديم قراءة أو مراجعة للكتاب رغم أنني قد فعلتُ مع كتب سابقة لإيغلتون نشرتها جامعة ييل. حفّزني هذا الكتاب على التفكّر الحثيث في التاريخ الفكري لتطوّر الأدب ومتفرعاته (النقد الأدبي مثلاً) في سياق تطوّر السياسات (الدراسات) الثقافية على المستويين الشخصي والجمعي.

ويصلحُ إيغلتون ذاته مثالاً قياسياً للتغيّرات المتطرّفة التي صاحبت الحرفة الأدبية منذ سبعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. الرجل ماكينة عمل منتجة وخلّاقة، ولا أظنّه سيتوقّفُ يوماً عن العمل والإنتاج. السؤال هنا: ما طبيعة عمله اليوم؟ وكيف يتمايز عن أعماله السابقة؟

بدأ إيغلتون عمله في عصر ما بعد الحداثة التي تكاثفت غيومها فأمطرت مفاهيم جديدة مبشّرة بميتات عديدة (موت المؤلف مثلاً)، وخالقة لممارسات ثقافية غير مسبوقة، وناسفة للسرديات الكبرى. صارت الموضوعات الصغيرة التي يمكن توليفها في صورة كولاجية أهم بكثير من مقاربة السرديات الكبرى التقليدية (ولادة، حياة، موت، شيخوخة،،،،). تناغمت النظرية الأدبية في هذه الحقبة مع المستجدات الأدبية، وعدّل النقّاد الأدبيون من طبيعة عُدّتهم النقدية بما يتماشى مع الاشتراطات الجديدة. لم يخرج إيغلتون عن سرب النقد ما بعد الحداثي، وجاءت أعماله تطبيقاً متوقعاً لمواضعات ما بعد الحداثية في خريطة الأدب، رغم أنه (إيغلتون) حرص على تضمين أعماله جرعة آيديولوجية ماركسية الطابع، ربما يصح لنا توصيفها بالماركسية المتثاقفة.

حصلت الانتقالة الفكرية الثانية لإيغلتون مع انحسار أطروحات ما بعد الحداثة وشيوع الدراسات الثقافية بديلاً ممكناً ومقبولاً للنقد الأدبي. لم يعد مقبولاً في هذه الحقبة أن يُنْظَرَ إلى الأدب على أنه مملكة جمالية معزولة يمكن تشريح عناصرها باستخدام مبضع الناقد الأدبي (الكلاسيكي)؛ بل لم يعد وارداً الحديثُ عن ناقد أدبي في عصر الدراسات الثقافية. لم يعد الأدب خبرة شخصية محصورة في نطاق الرؤى الجمالية والاعتبارات البلاغية والألاعيب اللغوية والتبصّرات الفلسفية بقدر ما صار ميداناً اختبارياً لاشتباك عناصر مؤثرة في النسيج الفردي والمجتمعي على شاكلة: الذاكرة، الهوية، النوستالجيا، الهجرة، الإعطاب Trauma النفسية، النسيان، التابع والهامش في مقابل المركزيات المهيمنة. أظنُّ أنّ كتاب ما بعد النظرية After Theory (مترجم إلى العربية) الذي كتبه إيغلتون عام 2004 هو مرثية ضاجّة للنظرية الأدبية والثقافية (الكلاسيكية) مثلما فعل مع ما بعد الحداثة في كتابه أوهامُ ما بعد الحداثة. أراد إيغلتون في كتابه ما بعد النظرية تحقيق هدفين: الأول، تقديم مسح تاريخي لتطوّر النظرية الثقافية منذ ستينات وحتى تسعينات القرن العشرين، مع التأشير الواضح على ما رآه إيغلتون مكامن الإنجاز والعطب في تلك النظرية؛ أما الهدف الثاني فهو تأسيسُ نظرية ثقافية بديلة تستبدلُ بالتعامل مع الموضوعات (الأدبية) الكلاسيكية، موضوعات ثقافية جديدة جرى التعتيم عليها أو تغافلها من قبلُ، على شاكلة: الحقيقة، الموضوعية، النسق الأخلاقي، الثورة، الأصولية،،،. تداخلت النظرية الثقافية بكيفية عضوية مع النظرية الأدبية؛ وعليه صار في عداد البديهة العامة أن يستظلّ النقد الأدبي بظلال النقد الثقافي. لكن هل يوجد نقد ثقافي حقيقي؟ نحن سمعنا بالدراسات الثقافية. الحقُّ ليس مِنْ خلفية مفاهيمية تُعْلي شأن أي نقد سواء أكان أدبياً (كلاسيكياً) أم ثقافياً (في سياق الدراسات الثقافية). التسويغ هو أنّ واحداً من مرتكزات ما بعد الحداثة وما بعد النظرية هو الإطاحة بفكرة وجود ناقد أدبي أو ثقافي. هناك دارسٌ أو مشتغل ثقافي فحسب. إنّ فكرة الناقد، أيّاً من كان، تتأسّسُ على وجود مرجعية تقييمية كما مدرّس المدرسة الذي يُعهد إليه أمر ترتيب الدارسين في توزيعات تمييزية طبقاً لإنجازاتهم المدرسية. الأدب أو الثقافة ليس مدرسة أو جامعة، ومن غير المنطقي أن يلعب فيها الناقد دوراً مرجعياً. المرجع هو القارئ. أنت تقرأ وترى ما قد يكون ملائماً ومتناغماً مع ذائقتك الأدبية والثقافية بعامة. لستَ في حاجة لوسيط مرجعي من أي لون أدبي أو ثقافي. لن يقبل كثيرون بهذه التخريجة وبخاصة مَنْ تحصّلوا على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي. سيرون في هذا تغييباً لمكانتهم الأكاديمية وانحساراً لأدوارهم على الصعيدين الجامعي التخصصي والثقافي العام؛ لكنّ هذه بعض تشكّلات عصرنا وما يستلزمه من تبدّلات. ماذا سيفعل أطباء الأشعة مثلاً لو بلغ الذكاء الاصطناعي طوراً صار قادراً فيه على تشخيص الأمراض عبر قراءة الصور الشعاعية بأفضل مما يفعل الأطباء الممارسون؟ لا مفرّ من أن ننقاد إلى قوانين العصر ومتطلباته، وأن نُغلّب المصالح العملية على الآيديولوجيا أو التقاليد الكلاسيكية غير المنتجة.

يبدو أنّ قوانين السوق الحرّة لم تعُد تقبل المكوث في النطاقات الاقتصادية؛ بل امتدّت إلى عالم الأفكار. حتى الدراسات الثقافية ما عادت غطاءً مقبولاً لكي يستظلّ الأدب (والنقد الثقافي) بظلّه. تعاظمت الدعوات للتعامل مع الأدب كمنتج سلعي مطروح في سوق حرّة، ودينامياتُ هذه السوق هي الفاعل الوحيد الذي يجب العمل على جعله مسباراً لفرز الأعمال من حيث مقروئيتها. المقروئية صارت هي العنصر الحاسم في تحديد مكانة الكاتب والكتاب، والـ(بست سيلرز Best Sellers) هي المؤشر الوحيد على المكانة، وكلّ ما عدا قوانين السوق الحرّة لن يكون سوى كابح اصطناعي مشابه للقوانين التقييدية في الدولة الشمولية التي هي العنوان الشامل للأدب الأورويلي Orwellian Literature (إشارة إلى جورج أورويل). هكذا تمّ تحييد الناقد الأدبي والثقافي عبر تحطيم فكرة المرجعية الأدبية والثقافية أولاً، ثمّ بمدّ سياسات السوق الحرة إلى ميدان الأدب والاشتغالات الثقافية.

جرّبتُ بنفسي اختبار هذه الحقيقة. الاختبارُ في غاية اليُسْر: سأعملُ على البحث في أمازون على الكتب الجديدة التي تنتمي لحقل النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين. كثرة المنشورات في حقل معرفي دلالة مؤكّدة على شيوع ذلك الحقل وسطوته في حياتنا السائدة. مصداقُ ذلك مثلاً أنّ أحدنا لو جرّب البحث في أمازون عن كتب في الذكاء الاصطناعي لانهمرت عليه شلالات من العناوين في شتى حقول الذكاء الاصطناعي بحيث سيُدفعُ المرء دفعاً لتخصيص نطاق بحثه وحصره في نطاق ضيق، كأن يكون أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مثلاً. عندما مضيت في تجربتي مع النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين ظهرت لي - كما توقّعت - عناوين محدودة، منها مثلاً: النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين: إعادة بعث النظرية

Literary Criticism in the 21st Century:

Theory Renaissance

هل لاحظتم العنوان الثانوي؟ إعادة بعث النظرية. هذه إشارة إلى أنّ النقد الأدبي (والنظرية الثقافية) توارتا تحت غطاء ثقيل فرضته حالة عالمية لا يمكن ردّها (هي العولمة الاقتصادية وقوانين السوق الحرة). هل سينجح مؤلف الكتاب في بعث أمجاد النظرية أو على الأقل جعلها تتواءم مع المتطلبات المعاصرة؟ لا أظنّ ذلك.

ربما ميدانٌ آخر هو مصداق إضافي على وضع النقد الأدبي والنظرية الثقافية في حياتنا الفكرية العامة، ذاك هو ميدان النشر. كان باب النقد الأدبي أحد الأبواب الرئيسية في المطبوعات الثقافية العالمية، صحفاً ومجلات ودوريات ومنشورات جامعية محكّمة ومراجعات الكتب. اليوم قلّما نجد عنواناً فيها تحت لافتة النقد الأدبي. مراجعات الكتب هي الطاغية، وحتى المراجعات هي أقرب لعروض حيادية لا تنطوي على أي جهد تقييمي. واضحٌ أنّ المراجعات تأتي في سياق السياسة الترويجية للكتاب وليس في سياق تقييم نقدي له. دور النشر صارت إمبراطوريات مالية عظمى، وليس من اليسير مواجهة سياساتها أو الكتابة بما يسيء إلى منشوراتها. نحن في سوق حرّة للأدب، معيارها هو المال المتحصل من بيع الكتاب الذي صار سلعة حقيقية - وليس رمزية فحسب - وسياساتها هي تعظيم مقروئية الكتاب عبر الترويج الممنهج له. كلّ ما يعرقلُ سياسة الترويج هو عنصر معطّل لسياسة السوق الحرة ويجب كبحه وإخراجه من اللعبة الأدبية.

لا أعرف كيف يصف إيغلتون نفسه اليوم. بدأ ناقداً أدبياً ماركسياً، ثمّ مُنظّراً ثقافياً، ثمّ مشتغلاً في حقل الأفكار العامة، وهذا ما تشي به عناوين سلسلة منشوراته السنوية في جامعة ييل الأميركية، ومنها كتابه الأخير عن الواقعية. أظنّه يقضي أيامه اليوم وهو مسكون بحنين لا ينقطع إلى سنوات سابقة كان فيها الأدب أبعد ما يكون عن سيف قوانين السوق الحرة؛ لكنّ الحظ شاء له أن يعيش ليشهد ما لم يتوقّع أن يشهده يوماً حتى في أقسى كوابيسه.

ليس لك يا إيغلتون، وليس لنا معك، سوى أن نتجمّل بالصبر ونرى إلى أين سينتهي الأدب في سوق حرّة متغوّلة. لم يعد مقبولاً في هذه الحقبة أن يُنْظَرَ إلى الأدب على أنه مملكة جمالية معزولة يمكن تشريح عناصرها باستخدام مبضع الناقد الأدبي (الكلاسيكي)


«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب

«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب
TT

«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب

«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب

صدر العدد التاسع من مجلة «الأديب الثقافية»، وهي مجلة «ثقافية فصلية تُعنى بقضايا الحداثة والحداثة البعدية»، وقد تضمنت مناقشات ومحاور وحوارات مختلفة، فقد جاءت «افتتاحية العدد»، بقلم رئيس التحرير بعنوان «نحن دولة بلا أمة أم أمة بلا دولة؟»، وفيها يوجِّه انتباه القارئ العربي إلى أن دال الدولة ودواله، بمعنى التحّوّل والزوال، يرتبط بخيارات الدولة - الأمة في التحَرُّر من الآيديولوجيات القومية والدينية، حيث لم تعد القومية العربية «رابطة قوية»، بل وأخفقت في كيفية تمثيل ذاتها النهضوية، ليس لـ«أنها مرحلة وليس نهاية»، وإنما لـ«أنها ذات طبيعة شعبوية ومعادية للديمقراطية، حتى التاريخ لم يعد (رابطة مشتركة) للجغرافيا كوعاء سياسي للتاريخ المشترك»، ويتساءل الكاتب في مهاد صريح: إذن فماذا تبقى من خيارات الدولة والأمة؟ أنحن إزاء أزمة مركبة من الدولة اللاأمة والأمة اللادولة؟».

وفي حقل «مناقشات»، تعرّض الشاعر والناقد والمترجم عبد الكريم كاصد في باب «نقد التحقيق» لـ«جناية أدونيس والكاتب علي محمود خضير على السيّاب»، حيث تساءل: «ألم تستوقف أدونيس، وهو يقدم أعمال السياب، الطريقة التي جُمعت بها أعمال السياب؟ ولعل الأدهى من ذلك هو ما نسبه المحقق من قصائد إلى السيّاب، وهي لغيره من الشعراء، من دون أن يتحقق من ذلك»!!

ويرى الناقد كاصد: «لم يخلص المحقق لأعمال السيّاب الشعرية الكاملة، لا توثيقه لها، ولا فيما أضافه إليها»، ويتساءل أيضاً: «إن لم يكن التوثيق شاغل المحقق الرئيس؛ فما هو الجانب الفني الذي استدعى كل هذا الركام العجيب من القصائد التي أضيفت إلى ركامات سابقة؟».

ولعل الأكثر إشكالية من ذلك كله «لم نعرف مثلاً الظرف الذي دفع السياب وجماعة (مجلة الشعر) إلى المشاركة في (مؤتمر الأدب العربي المعاصر) المنعقد في روما سنة 1961، برعاية (المنظمة العالمية لحرية الثقافة)، وبتمويل الاستخبارات الأميركية، كما كشفت عن ذلك مجلة «نيويورك تايمز» في مقالاتها الخمس بعد سنة 1966، كما لم نعرف ردَّه على ما أورده عيسى بلاطة من أن السياب ادّعى أن بعضاً من شعراء (مجلة شعر) سكروا وقصفوا بمبلغ العلاج الذي أمده به عبد الكريم قاسم».

وتسعى هذه المناقشات التي قدمها الشاعر والناقد عبد الكريم كاصد إلى استنطاق المسكوت عنه من وجهة نظر نقدية وانتقادية صريحة لأدونيس الذي تبنى هذه النسخة المحققة، وقدّم لها بكل ما تتضمن من أخطاء وتشوّهات ومغالطات.

وفي حقل «محور الفلسفة»، فتحت «الأديب الثقافية»، ضمن خطتها المقرّرة لملفات عام 2024، ملف «تراجع الفلسفة في عصر التحوّلات المعرفية المعاصرة»، بوصفها إشكالية معرفية تنطوي على مشكلات عدّة، على نخبة من الأكاديميين والمثقفين العراقيين، للنظر فيما آلت إليه الفلسفة العربية الآن، وما ستؤول إليه في المستقبل، وفق أربعة محاور على النحو الآتي:

تراجع الفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي/ تراجع الفلسفة في عصر التحوّل الرقمي/ تراجع الفلسفة في عصر تداخل الاختصاصات/ تراجع الفلسفة في عصر الواقع الافتراضي.

وقد أسهم في هذه المحاور: د. سعيد عدنان/ د. علي المرهج/ د. سنا صباح علي/ د. رائد عبيس/ د. إنصاف سلمان علوان/ عباس عبد جاسم.

وقدّم د. قيس كاظم الجنابي بحثاً في «اللون والجسد في لوحات يوسف الصائغ»، حيث رأى أن ما يرسمه الصائغ يقع خارج المدارس التشكيلية، وخارج قوانين الرسم، إلاّ أن الألوان المعتمة كالأسود والأزرق تشكل موضوعاً لهاجس داخلي، وشعوراً بالأزمة النفسية التي تعصف به.

وفي حقل «حوار»، حاور الأكاديمي أيهم العبّاد؛ الشاعر والناقد د. علي جعفر العلاق. وفي حقل «ثقافة عالمية»، قام الكاتب والمترجم المغربي عبد الرحيم نور الدين بترجمة حوار مع الناقد والفيلسوف وعالم اللسانيات جورج شتاينر. وتضمن حقل «نصوص»، «ثلاثية المجون الخدرة»، وهي مسرودة ممسرحة للكاتب شوقي كريم.

وفي حقل «تصوير»، كتب الفنان الفوتوغرافي المغربي أشرف بزناني سيرة ذاتية بعنوان «تحرير الخيال من قيود الواقع»، حيث شرح فيها تجربته في التصوير الفوتوغرافي، وكيفية تنشئة صور تتحدى الواقع وتثير اللاوعي.

ويبتدئ العدد من حيث ينتهي بـ«نقطة ابتداء» التي كتبتها د. هاجر سالم الأحمد بعنوان «تنافر القيم في الأدب الأزرق» الناتج عن التعارض بين الأدب والعالم المعلوماتي والرقمي، وكيف تتصدر موسيقى «الترند» الحركة الأدبية متفاعلة مع الوسط الاجتماعي لـ«الميديا».

وتصدر «الأديب الثقافية» بطبعتين ورقية وإلكترونية في آن.