بينما يغزو الذكاء الاصطناعي كل مضارب الحياة حاملاً الوعيد بأن ينصب نفسه بديلاً للعقل البشري، والوعد بأن يتولّى قيادة الإنسان إلى آفاق جديدة ما زالت غير منظورة على نحو كامل، خرج فيلم «فرانكنشتاين» لغييرمو دل تورو ليؤكد أنه يمكن للمرء أن يصنع أعمالاً عضوية لا تعتمد على الـ«AI» ولا تستثمر فيه.
غالبية الأفلام المنتجة إلى اليوم على مستوى العالم لم تستخدم الذكاء الاصطناعي بأي شكل من الأشكال. ومع ذلك، هناك عدد كبير من الإنتاجات الهوليوودية التي استبدلت المهارة الاصطناعية بالموهبة البشرية؛ سعياً وراء استحداث محطات إبهار كثيرة وتقليل التكلفة التي باتت لا تٌطاق. أما ما يجعل «فرانكنشتاين» حالة خاصّة فهو أن استخدام العقل البشري لتحقيقه له علاقة طبيعية بموضوعه.

فرانكنشتاين والسياسة
العالِم فرانكنشتاين كان شخصية خيالية ابتدعتها الكاتبة ماري شيلي (1797- 1851). بدأتها عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها ونشرت سنة 1818. في عمق الرواية قصة العالِم الذي ابتدع وحشاً بشرياً جمع أطرافه من جثث موتى، واستخدم الكهرباء التي يوفرها البرق لبث الحياة فيه. ليس فقط أن هذه الفكرة تواكب ما يحدث من تطوّرات علمية مندفعة لمنح التكنولوجيا وجوداً حياتياً بل هناك أيضاً فعل الندم الذي شعر به العالِم عندما أفلت مخلوقه من كل ضابط وأخذ يشيع الموت والخوف. لذلك هو تحذير لما يقع. فعل يحمل مجازاً واضحاً لا يمكن أن يكون صدفة.
أمسك دل تورو الحكاية من هذه الزاوية وصرف النظر عن سرد الحكاية كما كُتبت وحقق فيلماً منفصلاً عن الأصل إلى حد بعيد. أن يعمد إلى تجاهل التكنولوجيا الحديثة في عملية صنع الفيلم ليس فقط مواكبة لتفعيل الجهد الفني في كل زاوية (من تصاميم الملابس والديكورات إلى أماكن الأحداث مروراً بكل ما تسرده الحكاية) بل هو استعادة القرار الذاتي الذي دفع بالروائية لكتابة قصّتها ودفعه هو لتحديثها مع الحفاظ على الفترة الزمنية لها.
هناك أيضاً معنى سياسي أبعد من ذلك، فالفيلم حَطَّ على شاشات 2025 وسط أوضاع عاصفة تشمل العالم بأسره. من الحروب المشتعلة حولنا إلى نهوض الحركات اليمينية في أوروبا وأنحاء أخرى من العالم، ومن منهج ترمب المتشدد حيال المهاجرين ورغبته في خلق عالم جديد قائم على القوّة المنفردة إلى جنوح العلم في ابتكار البدائل المختلفة للإنسان (ولسواه من المخلوقات أيضاً). في زمن يتسابق فيه العلم لاختراع البديل قرر دل تورو الذهاب إلى الأصل. فيلمه يشمل نقداً للديكتاتورية الجانحة للعلم المعاصر.
أفلام سرقت الاهتمام
السينما في 2025 كانت أكثر جرأة من الأعوام الأخيرة الماضية وعلى أكثر من وجه.
إنه العام الذي قررت فيه السينما الجهر بمواقف لم تُتح لها من قبل، وفي مقدّمة هذه المواقف القضية الفلسطينية التي تمثّلت في أفلام هي «صوت هند رجب» لكوثر بن هنية، و«فلسطين 36» لآن ماري جاسر، و«كل ما بقي منك» لشيرين دعيبس.
هذه ليست الأفلام الأولى التي طرحت الموضوع الفلسطيني. هذا الموضوع توالت على طرحه أفلام متعددة منذ أن أنجز ميشيل خليفي «الذاكرة الخصبة» سنة 1981، ثم «عرس الجليل» (1987)، ومنذ أن أطلق آخرون أفلاماً عدّة حول هذا الموضوع من بينهم رشيد مشهراوي وإيليا سليمان، كل بطريقته وأسلوبه.
الأفلام الجديدة هذا العام من إخراج نساء. صحيح أن طرزان وعرب ناصر حققا «كان يا ما كان في غزّة» لكن حكايته لا تقع في أتون الأحداث الغزاوية الحاضرة مثل «صوت هند رجب»، ولا تتناول الموضوع الفلسطيني بانورامياً مثل «كل ما بقي منك» و«فلسطين 36». هو، في أفضل حالاته بوصفه فيلماً روائياً، حكاية يمكن لها أن تقع في زمن ما ومكان ما. علاوة على ذلك لم يشهد عروضاً متعددة في موسم الجوائز الحالي.
بينما عمد «فلسطين 36» و«كل ما بقي منك» لمنح المشاهد الغربي خلفية ما يقع اليوم في فلسطين، انتقل «صوت هند رجب» ليتولّى موضوعاً محدداً بطلته تلك الفتاة الصغيرة التي نسمع صوتها ولا نراها. صوتها بطولة مزدوجة فهو صلة الوصل البليغة مع الموضوع بأسره، ومع المشاهدين حول العالم. كون الحكاية حقيقية وثّقها الفيلم عبر استخدام أشرطة الصوت الفعلية كان أقرب إلى رصاصة قنّاص أصابت الموضع الذي هدفت إليه.
لنا أن نلاحظ أن فيلم كوثر بن هنية استخدم التكنولوجيا على صغر حجمه الإنتاجي عبر اعتماده على تلك التسجيلات الهاتفية التي هي السبب وراء ايصال الفيلم إلى مبتغاه. لولاها كان الفيلم سيبدو أقرب إلى حكاية مؤلّفة.

التكنولوجيا أيضاً موضوع فيلم الأميركية كاثرين بيغيلو وفيلمها الجيّد «منزل الديناميت» (A House of Dynamite)، . الحكاية هنا متشعبة تدور حول صاروخ عابر للقارات يقترب من مدينة شيكاغو لا يمكن إسقاطه. الفشل في إسقاطه قبل وصوله إلى مدينة شيكاغو يعود إلى بضعة عوامل، منها التكنولوجيا العسكرية والعلمية المتطوّرة، لم تستطع معرفة هويّته، وعندما عرفت تعثّرت خطوات الرد عليه داخل كيانات المؤسسة المختلفة. هذا فيلم مضاد للاعتقاد بأن أميركا محمية بقدراتها. حتى وإن كان هذا الاعتقاد صحيحاً فإن الفيلم مركّب على نحو قد يعكس النقيض بوصفه احتمالاً أساسياً. هو تحذير لفشل محتمل.
الأفضل والأهم
على هذه الخلفية انبرى عام 2025 حاملاً انعكاسات الحياة على أكثر من وجه. هناك وجه استعادة الماضي، كما في «العميل السري» للبرازيلي كليبر ميندوزا فيلو، للتحذير من الحاضر، وهناك وجه نبش ذلك الماضي للمقارنة مع ما قد يقع اليوم، كما في فيلم «معركة وراء أُخرى» لتوماس بول أندرسن. وفيلم «هجرة»، للمخرجة السعودية شهد أمين، الذي بحث عن العلاقة بين تاريخين وقضية، وفي «صراط» للإسباني أوليڤر لاكس لمحاولة فهم عالم خارج هذا الذي نعيشه وانعكاس له في الوقت ذاته.
قبل أن ندلف لقراءة الأفلام التي صنعت هذا العام، لا بد من التذكير أن «الأفضل» و«الأهم» أمران مختلفان. ما نحاوله هنا هو البحث عن تلك الأفلام التي تجمع بين الصفتين. الاختيارات كثيرة (شاهدت 311 فيلماً جديداً هذا العام علماً بأن ما عُرض حول العالم من أفلام جديدة يفوق الـ 700 فيلم) لكن انتقاء ما يؤلف هذه القائمة مهمّة صعبة للغاية (الترتيب أبجدي).
1- أفلام روائية عربية
فيلم «196 متر» (الجزائر)
إخراج: شكيب طالب بن دياب
• قلّما يُثير فيلم تشويق بوليسي إعجاب النقد عموماً، لكن فيلم بن دياب بلغ من الجودة درجة تستوجب اختياره هنا. تدور أحداث الفيلم حول عمليات خطف الأطفال في العاصمة الجزائرية وشراكة بين رجلَي أمن وعالمة نفسية للبحث عن الفاعل. هذا وسط إيحاءات نقد سياسي.
فيلم «صوت هند رجب» (تونس/ فرنسا)
• لم يحدث لفيلم عربي، منذ زمن بعيد، أن ترك تأثيراً كبيراً كما فعل هذا الفيلم. لجانب إنه مصنوع بمهارة تجمع بين الدراما والتوثيق، انحاز الفيلم للمأساة الماثلة حول تلك الفتاة الصغيرة التي جسّدت من دون تمثيل أو صورة لها مأساتها ممتزجة بمأساة أكبر.

فيلم «كل ما بقي منك» (الأردن، الولايات المتحدة)
إخراج شيرين دعيبس
• تختار المخرجة دراما عائلية تسردها عبر ثلاثة أجيال تبدأ في سنة 1948 وتنتهي في الزمن الحاضر. خلال ذلك، وكما هو متوقع من فيلم يعرض تلك الفترات، تنقل دعيبس حياة العائلة بكثير من الدفء والعناية وتعني باللغة الفنية على نحو فعّال كونه لا يسرد الأحداث تبعاً لتواردها بل عبر تداخلها مع الوضع القائم.
فيلم «هجرة» (السعودية)
إخراج: شهد أمين
• فيلم شهد أمين الروائي الطويل الثاني هو حكاية شخصيات في نقطة تحوّل من الماضي وتبعاته إلى المستقبل وغموضه. فيلم طريق لجدّة في طريقها للحج مع حفيدتيها، تفاجأ بأن إحداهما اختفت. تحشد المخرجة لتفاصيل متعددة عن اختلاف الأجيال والأزمنة ومخاطر البحث والبحث عن الهدف.
فيلم «هوبال» (السعودية)
إخراج: عبد العزيز الشلاحي
• إحدى ميزات هذا الفيلم الربط بين ما كانت عليه الحياة في المملكة في مطلع تسعينات القرن الماضي وحاضرها من دون خطابة وبلا علاقة مباشرة، بل بأسلوب واقعي ناقلاً حكاية ذلك الجد الذي ينقل عائلته إلى الصحراء لأن المدينة، في منظوره، فاسدة.
• أفلام مهمّة أخرى
«اغتراب» (مهدي هميلي - تونس)، «غرق»، (زين دريعي - الأردن)، «الفستان الأبيض» (جيلان عوف - مصر)، «فلسطين 36» (السعودية، قطر، فرنسا)، «كلب ساكن» (سارة فرنسيس - لبنان)، «المستعمرة» (محمد رشاد - مصر)، «يونان» (أمير فخر الدين - لبنان، ألمانيا).
2- أفلام روائية أجنبية
«منزل الديناميت» (House of Dynamite) (كاثرين بيغيلو - الولايات المتحدة)
• مع اقتراب صاروخ نووي من الولايات المتحدة تنقلب الاحتمالات رأساً على عقب. ما يؤخر الرد على الهجوم غير معروف المصدر هو ارتباك المؤسسات العسكرية والمدنية، من مركز الاستخبارات إلى رئاسة الجمهورية. كل هذا في فيلم مشدود مثل وتيرة عود.

«العقل المدبر» (The Mastermind) (كَلي رايشهارد - الولايات المتحدة)
• حكاية سرقة خطط لها فنان (جوش أوكونور) وسردتها المخرجة رايشهارد بعمق ودراية. على عكس ما يوحي العنوان بطل الفيلم ليس ماهراً إلى حد الإعجاز وخطّة المخرجة هي الحديث عن وحدته (يتمثل ذلك بمشاهد بديعة له وحيداً أو وسط آخرين لا يعرفهم) وعن دوافعه خلال أحداث تقع في الفترة الفيتنامية.
«نمناديو» (NIMUENDAJÚ) (تانيا أنايا - البرازيل)
• فيلم أنيميشن يتمتّع بالجودة في كل تقنياته ومفاداته. حكاية عالم في التاريخ البشري يندمج في حياة إحدى قبائل الأمازون، ويتبنى الدفاع عن مصالحها. تجربة مختلفة في سينما الرسوم وبعيدة عن التقليد.
«لا اختيار آخر» (No Other Choice) (بارك تشان ووك - كوريا الجنوبية)
• القصّة التي يعرضها خيالية لكن أسبابها لها جذور مجتمعية: عاطل عن العمل منذ أن طُرد وآخرين من الخدمة في أحد المصانع يُقدم على قتل آخرين ينافسونه على الوظائف التي يريدها. تشويقي مقتبس عن رواية لمؤلف روايات الجرائم الأميركي دونالد وستلايك.

«معركة بعد أخرى» (One Battle After Another) (بول توماس أندرسن - الولايات المتحدة)
• استوحى المخرج فيلمه هذا من وقائع تاريخية لكن ليس على نحو مَن يرغب في سرد سيرة أو استعادة حدث. ترك للمشاهد تفسير ما يشاهده في أحداث تقع في السبعينات لكن أصداءها آنية بلا ريب. ليوناردو دي كابريو، وبنيثيو دل تورو، وشون بن، تحت إدارة مخرج يعرف كل تفصيلة مهمّة ويحققها بإمتياز.
«العميل السري» (The Secret Agent) (كليبر مندوزا فيلو - البرازيل)
• كاتب ومثقف أكاديمي هارب من السُلطة خلال حكم العسكر في السبعينات. يصل إلى بلدة صغيرة بغاية الاختفاء، فيفاجأ بأن أهلها يعيشون في خوف دائم. وكما هي عادته يعرض المخرج الوضع الراهن والعالم المحيط بنجاح.
«موعظة إلى الفراغ» (Sermons to the Void) (هلال بيْداروف - أزربيجان)
• فيلم يحمل، بين خصاله المتعددة، فن التجريب وفن الصورة الشعرية وجماليات روحانية. يدور حول رجل يبحث عن الروح في الإنسان والطبيعة. إنجاز تقني نافذ وسينما مختلفة في منوالها عن أي من أترابه.
«خاطئون» (Sinners) (رايان غوغلر - الولايات المتحدة)
• يحمل هذا الفيلم دلالاتٍ ورموزاً عدّة. ويعرض بيئة الأميركيين السود في الثلاثينات، وموسيقى البلوز كما في «الڤامبايرز»، في الوقت الذي تدور حكايته في رحى دراما تشويقية يعمد فيها المخرج إلى خلط أوراق شخصياته في بحثها غير المنتهي عن هوياتها.

«صراط» (Sirat) (أوليڤر لاكس - إسبانيا)
• غرابة هذا الفيلم أنه يبدأ بصوت هادر وصورة يحملها أب إسباني لابنته التي اختفت في المغرب دون أثر. معه في المهمّة ابنه الصغير. ينتقل بهما الفيلم إلى قلب تلك الصحراء بعدما التحقا بفريق من الخارجين عن المجتمع يحاولون الوصول إلى حفلة موسيقية أخرى. ما يحدث مع الجميع وما يحدث مع الأب وابنه لا يمكن وصفه موجزاً. فيلم رائع وسينما حرّة من القوالب تحمل مفاجآت.
«أحلام قطار» (Train Dreams) (كلينت بنتلي - الولايات المتحدة)
رجل عاش وحيداً في جبال ولاية واشنطن، وانتقل من عمل لآخر حتى استقر قاطعاً للأخشاب. هذه قصّة حزينة وهادئة حول الطبيعة داخل رجل، والرجل في الطبيعة. هذا أشبه بدراسة لشخصيات عدّة أبرزها تلك التي يؤديها جورَل إدغرتون بما يناسب المعالجة الفاحصة لحياة معزولة وحزينة.
3- أفلام تسجيلية/ وثائقية عربية وأجنبية
«الأسماك تطير فوق رؤوسنا» (لبنان)
إخراج: ديما الحر
• مناجاة لبيروت عبر شخصيات لم يعد لديها ما تعيش له سوى ذلك البحر.
«2000 Meters to Andriivka» (أوكرانيا)
• معظم ما يصلنا من أفلام الحرب الأوكرانية دعائي. هذا ما يختلف فيه الفيلم رغم إنه أحادي التوجه. معايشة مع فرقة صغيرة في خنادق القتال.
«التحول إلى ليد زبلين» (Becoming Led Zeppelin( (الولايات المتحدة)
إخراج: برنارد ماكماهون
أفضل ما شوهد من أفلام عن فرق الروك في السبعينات. يعرض الفرقة والفترة السبعيناتية مع قدر من النوستالجيا.
«التستر» (Cover- up)
(الولايات المتحدة)
إخراج: لورا بويتراس ومارك أوبنهاوس
• عن الصحافي السياسي سايمور هيرش الذي كشف جرائم الإدارة الأميركية من فيتنام إلى العراق وما بعد.
«ضع روحك على يدك وامشِ» (Put Your Soul on Your Hand and Walk)
(فرنسا)
إخراج: زبيدة فارسي
• فيلم آخر عن فلسطين ومآسيها. الضحية هنا هي المصوّرة فاطمة حسونة، التي مثل بطلة «صوت هند رجب» تموت مقتولة.



