في مدينةٍ لا تنام، حيث تتجاور المختبرات مع ناطحات السحاب، ظهر سؤالٌ مربك لم يكن جزءاً من خيال الأطباء قبل سنوات قليلة: هل يمكن لصورة الأشعة تلك التي اعتدنا اعتبارها «الحقيقة الصامتة»... أن تخدع الطبيب؟
ومع دخول النماذج التوليدية للذكاء الاصطناعي إلى التصوير الطبي، تغيّرت المعادلة، فهذه الأنظمة لا تُحسّن جودة الصورة فحسب، بل قد «تخترع» تفاصيل لم يلتقطها الجهاز... ولم يعرفها المريض.

دراسة تهزّ يقين الأشعة
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، وخلال اجتماعات الجمعية الأميركية للأشعة (RSNA)، قدّم فريق من قسم الأشعة في كلية الأطباء والجراحين–جامعة كولومبيا دراسة محورية بعنوان: «فهم الهلاوس التي ينتجها الذكاء الاصطناعي في التصوير الطبي التوليدي: الآليات، والتجلّيات، واستراتيجيات الحدّ منها»، وهي واحدة من أكثر الدراسات جرأة، لأنها طرحت السؤال الذي يخشاه الأطباء:
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يرى ما لا وجود له؟ ما الهلاوس الرقمية؟
حين يبدو الخطأ حقيقياً
الهلاوس هنا ليست استعارة أدبية، بل وصف لنتاجٍ بصري يقدّمه النظام بثقة، رغم أنه لم يكن جزءاً من الصورة الأصلية. ويصبح الخطر حقيقياً عندما:
- يظهر ورم لا وجود له في جسم المريض.
- أو تُضخّم حدود إصابة صغيرة فتبدو مهدِّدة.
- أو تُضاف تفاصيل جديدة تجعل التشخيص منحرفاً عن الواقع.
لماذا يهذي الذكاء الاصطناعي؟ تفسير فريق كولومبيا
كشف الباحثون ثلاثة جذور لهذا الوهم:
- بيانات تدريب غير متوازنة. حين يتعلم النموذج من صور أكثر مراضة من الواقع، لذا يبدأ «برؤية المرض» في كل شيء.
- إعادة بناء احتمالية. النموذج يكمّل ما يظن أنه يجب أن يكون، أي لا ما كان موجوداً فعلاً.
- الإقناع البصري. النتيجة تبدو حقيقية جداً... حتى على عينٍ خبيرة.
من خطأ تقني إلى خطر سريري
ليست المسألة عطلاً في برنامج، بل تعد قراراً طبياً قد يقود إلى:
- خزعة لا داعي لها.
- علاج لورم لم يوجد قط.
- إهمال إصابة حقيقية تم تشويه ملامحها.
- تصدّع الثقة بين الطبيب والتقنية.

تصريح خاص لـ «الشرق الأوسط»
يقول الباحث الرئيس في الدراسة، الدكتور غاغانديب سينغ، في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط» إن «أخطر ما يمكن أن يحدث ليس أن يُنتج الذكاء الاصطناعي هلاوس بصرية... بل أن تمرّ هذه الهلاوس على الطبيب دون أن يلاحظها. فالمشكلة الحقيقية تبدأ عندما يثق الطبيب بالصورة أكثر مما يثق بعينه، وخبرته. ولهذا نعمل اليوم على تطوير أنظمة لا تدّعي المعرفة حين تجهل، ولا تملأ الفراغ بخيال رقمي، بل تُظهر درجة يقينها، وتبلّغ الطبيب عندما تكون غير واثقة مما تراه».
ويتابع موضحاً: «هذا التحوّل ليس تقنياً فقط، بل إنه ثقافي أيضاً. يجب أن نربّي الأطباء على التعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة مساعدة، لا مصدر حقيقة مطلقة. فعندما يصبح الوهم مقنعاً يصبح الخطأ أكثر خطورة».
تطور الذكاء الاصطناعي في السعودية
ثم يضيف في سياق عالمي لافت: «الدول التي تستثمر في البنية الرقمية الصحية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، تمتلك فرصة فريدة لوضع معايير تنظيمية صارمة قبل أن تتسع الفجوة بين ما يولّده الذكاء الاصطناعي وما يعيشه المريض في الواقع. ومع التطور السريع في مبادرات الطب الذكي، والتوأم الرقمي في السعودية، يمكن للمنطقة أن تكون نموذجاً في ضبط هذا النوع من الأخطاء قبل أن يتحول إلى ظاهرة.
ويختتم بالتأكيد على الأثر المستقبلي: «إذا نجحنا في جعل أنظمة الذكاء الاصطناعي تعترف بحدودها، ونقلنا هذا الوعي إلى غرف التشخيص، والتقارير الإشعاعية، فسنبني طباً أكثر أماناً للمريض، وأكثر صدقاً للطبيب، وأكثر مسؤولية للتقنية».
كيف نواجه الوهم؟
إليكم توصيات الباحثين:
- أنظمة ترصد الهلاوس تلقائياً.
- مقارنة نتائج أكثر من نموذج.
- تفسير طريقة تفكير النظام.
- تجارب سريرية قبل الاعتماد الواسع.
العالم العربي... ودروس اللحظة
مع صعود الطب الذكي، والتوأم الرقمي في السعودية، والإمارات، يصبح السؤال ملحّاً: كيف نضمن ألا يدخل الوهم إلى تقرير الأشعة؟
إن وضع معايير إلزامية -لا تطوعية- قد يكون الفارق بين تشخيص دقيق... وقرار يغيّر حياة مريض.
حين يلتبس الضوء بالظل
يدخل الذكاء الاصطناعي غرف الأشعة بوعدٍ كبير، لكن الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم يزداد رقة. فما يبدو يقيناً على الشاشة... قد يكون خيالاً متقناً. وكما قال الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد:
«أخطر ما في الوهم... أنه يشبه الحقيقة».

