«الملكة والحفيدة»... معرض مصري يستعيد فنون الأسرة العلوية

يضم 65 لوحة تحمل رائحة الماضي

لوحة من المجموعة الصوفية للفنانة ياسمين بيريتن (الشرق الأوسط)
لوحة من المجموعة الصوفية للفنانة ياسمين بيريتن (الشرق الأوسط)
TT

«الملكة والحفيدة»... معرض مصري يستعيد فنون الأسرة العلوية

لوحة من المجموعة الصوفية للفنانة ياسمين بيريتن (الشرق الأوسط)
لوحة من المجموعة الصوفية للفنانة ياسمين بيريتن (الشرق الأوسط)

في أجواء تحمل عبق الماضي، وتستدعي ملامح الحقبة الملكية للأسرة العلوية في مصر، يقدم معرض «الملكة والحفیدة» 65 لوحة تتمتع بقوة تعبيرية لافتة، وحساسية جمالية نحو اللون والإيقاع والبناء الفني.

ويجمع المعرض الذي يُقام في غاليري «ليوان» بالقاهرة بين بصمة الملكة المصرية السابقة فریدة (1921-1988)، ورؤیة حفيدتها الأمیرة یاسمین بیریتن في تجربة فنیة ممیزة، فوفق الناقد الفني مصطفى عز الدين مدير الغاليري «یتيح المعرض للزوار فرصة اكتشاف مجموعات من اللوحات الممتدة عبر الزمن».

صورة للملكة في شبابها بالمعرض (الشرق الأوسط)

ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «يكتسب الحدث أهمية خاصة كونه أول معرض يضم أعمالهما معاً. كما أنه يمثّل فرصة نادرة للجيل الجديد من محبي الفن ممن لم يتعرفوا إلى أعمال الملكة فريدة من قبل أن يشاهدوها على الطبيعة، ويستكشفوا الرابط الفني بينها وبين الحفيدة؛ فهو لا يُعدّ مجرد معرض عادي، إنما لقاء بين جيلَيْن».

وتابع: «ربما يكون أجمل ما في الأمر التشابه البارز بينهما في أشياء كثيرة، حتى في الملامح؛ فياسمين هي الأقرب في الشبه إلى الملكة السابقة».

لا يكتفي الحدث المستمر حتى 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي بتسليط الضوء على فريدة الفنانة، لكنه كذلك يهتم بإبراز أهم ملامح شخصيتها، وتحدي المصاعب عبر الفن، وذلك من خلال مجموعة من الصور التوثيقية لمراحل مختلفة من حياتها إلى جانب أعمالها.

تكوينات درامية في لوحات فريدة تعكس حسها الفني (الشرق الأوسط)

ويقول عز الدين: «تركت الملكة فريدة إرثاً رائعاً من الأناقة والإبداع والقوة؛ بعد سنوات عاشتها ما بين الطفولة الأرستقراطية السعيدة والحياة الملكية بكل خصوصيتها، ثم المشاعر الإنسانية التي عاشتها بعد انفصالها عن الملك فاروق».

ووُلدت الملكة فريدة -واسمها الحقيقي صافيناز ذو الفقار- في الإسكندرية (شمال مصر)، وتلقت تعليماً فرنسياً رفيعاً، وحصلت على دروس في الموسيقى والرسم، وفي أثناء زيارة ملكية إلى لندن، التقت الملك فاروق، وبعد شهرين تمت خطبتهما، وتزوجا عام 1938، وكانت أول ملكة مصرية تنال محبة الشعب بصدق، وبعد انفصالهما، كرست حياتها للرسم، وأصبحت فنانة مرموقة.

إحدى لوحات الملكة فريدة (الشرق الأوسط)

ويوضح الناقد الفني أن «العالم عرف فريدة بوصفها ملكة، لكن ربما لا يعرف الكثيرون أن ولعها بالفن بدأ منذ طفولتها، ورسمت الكثير من اللوحات، وشجعها خالها الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد على تنمية موهبتها، لكن مسؤولياتها الملكية أبعدتها عن مواصلة إبداعها، حتى عادت إلى ممارسة الرسم عام 1954».

وأقامت فريدة العديد من المعارض الفنية في مدريد وجزيرة مايوركا، وأقامت 13 معرضاً في باريس وحدها، فضلاً عن جنيف وبلغاريا وتكساس والقاهرة، وذلك في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كما عرضت أعمالها في معارض جماعية دولية، ونالت تقديراً واسعاً في الأوساط الفنية، وفق القيم على المعرض.

ويعكس المعرض من خلال 15 لوحة بدايات الملكة فريدة الفنية، حيث الاحتفاء بالشخوص، ثم اتجاهها في الستينات إلى رسم المناظر الطبيعية في مصر. كما يظهر احتلال النيل والريف مكانة بارزة في فن فريدة؛ لعشقها للجمال والهدوء.

يميل أسلوب فريدة إلى الفن العفوي الفطري (الشرق الأوسط)

ويميل أسلوب فريدة إلى الفن العفوي؛ حيث الانطلاق بعيداً عن القواعد التقليدية للمدارس الفنية، داعية المشاهدين إلى التواصل مع رؤيتها الشخصية ومشاعرها، في تحدٍّ لفكرة أن الفن لا يمكن أن يُبدعه إلا الدارسون له، وقد أسهم المزيج المتناغم من الألوان، والجمع بين الأشخاص والطبيعة، في التعبير عن المشاعر الإنسانية في قصة اللوحة.

ويتجلى الأسلوب العفوي لفريدة وروحه الجمالية في أعمال تعكس الثقافة الحضرية والريفية و«اللاند سكيب» وحياة الناس، وتتلاقى لوحات فريدة وياسمين في أسلوبهما الفطري، حيث انعكس مولد الحفيدة في الريف السويسري، وتأثرها بجمال الطبيعة، على رسم المناظر الطبيعية، وتجسيد الحيوانات والطيور فضلاً عن الخيل؛ إذ مارست الفروسية في طفولتها المبكرة بتشجيع من والدتها الأميرة فريال.

الحصان... صديق الفنانة ياسمين بيريتن في الحياة والفن (الشرق الأوسط)

ويقول مدير الغاليري: «وُلدت ياسمين بيريتن ونشأت في سويسرا لأب سويسري، وسط عائلة احتفت بالفن عبر أجيالها». ويتابع: «خلال فترة صعبة في حياتها، اكتشفت أسلوب (الرسم بالمشاعر) المعتمد على الحدس والإحساس؛ ليصبح وسيلتها للتعبير واكتشاف الذات، ثم بدأت لاحقاً تعليمه للآخرين». ويواصل: «بعد انتقالها إلى مصر، واصلت ياسمين الرسم والتدريس، وظل الفن مرساة لها ومصدراً لتجديد إبداعها، وتعيش راهناً مع زوجها في مزرعة بين الخيول وأشجار النخيل، حيث تستلهم الطبيعة في أعمالها».

الأميرة ياسمين بيريتن (الشرق الأوسط)

وتمزج الحفيدة ياسمين في أعمالها بالمعرض وعددها 50 لوحة بين التجريد والواقعية، وبين الألوان الهادئة والنابضة بالحياة، وبين العاطفة والطبيعة والرمزية، وتظهر الحيوانات كرموز للرشاقة والقوة والارتباط العميق بالطبيعة. كما يعد احتفاؤها بالحيوانات وسيلة لتحسين الروح وتغذيتها، وتأكيداً لقيم الحياة، لتجعل من كل لوحة لحظات تأمل ورحلة شفاء للنفس.

الأميرة ياسمين ترحب بالضيوف في المعرض (الشرق الأوسط)

وفي مجموعتها الصوفية «عشق - عشق إلهي» والمستوحاة من جوهر التفاني الصوفي؛ تتأمل ياسمين بيريتن حركات الناي، والدوران، والقوس بوصفها ثلاثة تعبيرات عن الحب، تتجاوز من خلالها حدود الشكل.


مقالات ذات صلة

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

يوميات الشرق استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

احتفاءً بالخط العربي بوصفه فناً أصيلاً يحمل بين ثناياه دعوة للسلام، والانسجام الإنساني، أطلقت مصر الدورة العاشرة من «ملتقى القاهرة الدولي لفنون الخط العربي».

نادية عبد الحليم (القاهرة)
يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق عبد الحليم رضوي... طاقات تعبيرية ودلالات مفاهيمية ذات طابع معاصر (الشرق الأوسط)

القاهرة تحتفي برائد الفن السعودي عبد الحليم رضوي

يُصاحب معرض رضوي تقديم أعمال نخبة من رواد وكبار التشكيليين المعاصرين في المملكة.

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من توقيع الاتفاق لتحويل رواية «القبيلة التي تضحك ليلاً» إلى فيلم (الشرق الأوسط)

السينما السعودية تمدّ جسورها إلى الأدب في معرض جدة للكتاب

لم يعد سؤال صنّاع السينما يدور حول عدد العناوين، بل حول أيّ الروايات تصلح لأن تُروى على الشاشة...

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق تحاول الفنانة التشكيلية في هذه المجموعة العبور من المحدود إلى المطلق (الغاليري)

معرض «تفتّحت الزهور من بين حجار الإسمنت المكسور»... عود على بدء

تستخدم ندى صحناوي الألوان الزاهية، بالإضافة إلى الأسود والأبيض. وفي قوالب الزهور الحمراء والبيضاء، يخال للناظر إليها أنها تُشبه كعكة عيد...

فيفيان حداد (بيروت)

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.


آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
TT

آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

احتشد آلاف الأشخاص ورقصوا حول «ستونهنج» في إنجلترا، بينما ارتفعت الشمس فوق الدائرة الحجرية ما قبل التاريخ، اليوم (الأحد)، في الانقلاب الشتوي.

وتجمعت الحشود، العديد منهم مرتدون زي الدرويد والمشعوذين الوثنيين، قبل الفجر، منتظرين بصبر في الحقل البارد والمظلم في جنوب غربي إنجلترا. وغنى بعضهم، وضربوا الطبول، بينما أخذ آخرون وقتهم للتأمل بين الأعمدة الحجرية الضخمة.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

يقوم كثيرون بزيارة هذه الدائرة الحجرية كل صيف وشتاء، معتبرين ذلك تجربة روحية. ويعد النصب القديم، الذي بني بين 5000 و3500 سنة مضت، مصمماً ليتوافق مع حركة الشمس خلال الانقلابات، وهي تواريخ رئيسية في التقويم بالنسبة للمزارعين القدماء.

وقالت منظمة إنجلش هيريتاج، المسؤولة عن إدارة «ستونهنج»، إن نحو 8500 شخص احتفلوا يوم السبت بالموقع في سالزبوري بلين، على بعد نحو 75 ميلاً (120 كيلومتراً) جنوب غربي لندن. وأضافت أن البثّ المباشر للاحتفالات جذب أكثر من 242 ألف مشاهدة من جميع أنحاء العالم.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

واليوم (الأحد)، هو أقصر يوم في السنة شمال خط الاستواء، حيث يشير الانقلاب الشتوي إلى بداية الشتاء الفلكي. أما في نصف الكرة الجنوبي، فهو أطول يوم في السنة ويبدأ الصيف.

ويحدث الانقلاب الشتوي عندما تصنع الشمس أقصر وأدنى قوس لها، لكن العديد من الأشخاص يحتفلون به كوقت للتجديد، لأن الشمس بعد يوم الأحد ستبدأ بالارتفاع مجدداً، وستزداد مدة النهار يوماً بعد يوم حتى أواخر يونيو (حزيران).


«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
TT

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

يقدّم الفيلم العراقي «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل، مدينة الجراح المفتوحة، بعد سنوات من محاولته الابتعاد عن العراق وصراعاته، فبعد نجاح فيلمه السابق «لا مكان للاختباء» وما تركه من أثر عاطفي ثقيل عليه، كان المخرج يؤكد لنفسه أنه لن يصوّر في المنطقة مرة أخرى.

لكن المُوصل كما يقول لـ«الشرق الأوسط» أعادت جذبه ببطء حين رأى الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب مع تنظيم «داعش»، وواجه أسئلة لم يتمكن من تجاهلها حول كيفية سقوط مدينة بهذا التاريخ أمام 800 مقاتل فقط، وكيف يحاول سكانها اليوم النهوض من جديد.

الفيلم الذي حصد التانيت الفضي للفيلم الوثائقي الطويل ضمن فعاليات الدورة الـ36 من «أيام قرطاج السينمائية»، بتونس، بدأت رحلة مخرجه من فكرة مختلفة تماماً، إذ كان يبحث عن تحفة أثرية، تُعرف باسم «بطارية بغداد»، ظنّ أنها سُرقت بعد عام 2003، قبل أن يكتشف وجودها في قبو المتحف الوطني.

وثّق الفيلم جانباً من الأضرار التي لحقت بالموصل (الشركة المنتجة)

لكن زيارة إلى الموصل بدّلت مسار الفيلم، ففي أحد الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وقف أمام منزل دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى بوابة رخامية، يعلوها أسدان منحوتان، كأنهما الحارسان الأخيران لزمنٍ مضى، هذا المشهد كان كافياً ليقرر أنه أمام قصة أكبر من مجرد بحث أثري، بل أمام ذاكرة مدينة بأكملها.

تعرف أحمد خلال تلك الرحلات إلى بشّار، الصياد ابن الموصل وصاحب المنزل المدمر، 4 أجيال من عائلته عاشت في ذلك البيت، واليوم لم يبقَ لهم سوى هذين الأسدين، في نظر بشّار لم يكونا حجارة، بل كانا امتداداً لعائلته، لذكرياته، لروحه كلها، يذهب يومياً إلى الأطلال ليحرسهما، ويواجه محاولات سرقة متكررة، ويقاوم شعوراً لا ينتهي بأن الدولة تخلّت عنه، وأن مدينته فقدت القدرة على ضمّه، مأساته في الفيلم ليست فقدان منزل فقط، بل فقدان هوية، وفشل محاولات الإقناع بأن الوقت قد حان للبدء من جديد.

رصد الفيلم جوانب مختلفة من الحياة في الموصل (الشركة المنتجة)

وفي مقابل بشار، يظهر فخري، الشخصية التي تضيف بعداً مختلفاً للفيلم، رجلاً ستينياً، جمع على مدى سنوات أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية أنقذها من بيوت مهجورة وبقايا خراب الحرب، وحوّل منزله إلى متحف مفتوح للناس، باع سيارته، ومقتنيات زوجته، ومدخراته كلها ليحافظ على جزء من هوية الموصل. في البداية، كان يحلم بأن يضم باب منزل بشّار إلى مجموعته، معتقداً أنه يحمي تاريخ المدينة من الضياع.

لكن مع الوقت تبدأ تحولات داخلية عميقة تظهر في شخصيته، خصوصاً حين يواجهه صديقه الموسيقار فاضل بأن التاريخ ليس سلعة، وأن ما تبقى لبشّار ليس حجراً بل حياته نفسها، فيصبح هذا الصراع الإنساني بين رجلين يحبان مدينتهما على طريقتين مختلفتين محوراً أساسياً ينبني عليه الفيلم.

أما فاضل، الموسيقار الذي عاش 3 سنوات من الرعب تحت حكم «داعش»، فكان يخفي آلته الموسيقية خشية إعدامه. يخرج اليوم إلى الشارع، يعزف وسط الأنقاض، يعلّم جيلاً جديداً من الشباب ومعظمهم من الفتيات ويعيد الموسيقى إلى مدينة حاول التطرف أن يخنق صوتها، وجوده في الفيلم لا يقدّم بعداً موسيقياً جمالياً فقط، بل يعكس التغيّر الأعمق الذي عاشته الموصل بعد التحرير، انفتاحاً ثقافياً مفاجئاً وغير متوقع، وعودة للحياة المدنية من خلال الفن، لا السياسة.

التصوير كان رحلة محفوفة بالمخاطر كما يؤكد المخرج، فالكاميرا في العراق ليست موضع ترحيب، الناس يخشونها، السلطات تشك فيها، والمخابئ والممرات تحت الأرض كانت لا تزال مليئة بالألغام وبقايا العبوات، كثيراً ما أوقفته الشرطة أو اتهمه البعض بالتجسس، بينما كان يحاول الحفاظ على سلامة فريقه وسلامة الشخصيات التي ترافقه داخل أحياء مهدمة. ومع ذلك، كان الإحساس بأن الوقت ضيق والمدينة تتغير بسرعة دافعاً له للاستمرار، كما لو أنه يصوّر آخر فرصة لتوثيق ما تبقى من ذاكرة شفافة قبل أن تذوب.

خلال 5 سنوات من العمل، جمع المخرج أكثر من 600 ساعة تصوير، لم يكن يعتمد على سيناريو ثابت، بل على تطور القصة من قلب الواقع، وعلى اللحظة التي يلتقطها بعفوية، وعلى مشاهد تنشأ من الصمت أو من جملة يقولها بشّار أو فخري أو فاضل. ولهذا يبدو الفيلم حياً، غير مشكَّل مسبقاً، أقرب إلى تسجيل نبض مدينة تبحث عن روحها.

عودة الروح والموسيقى إلى الموصل بعد تحريرها من أيدي «داعش» (الشركة المنتجة)

يمتد أثر الفيلم إلى ما يتجاوز الشخصيات، فالموصل التي يظهرها أحمد ليست مجرد مدينة مدمرة، بل مدينة تحاول استعادة معمارها وروحها وذاكرتها، حيث نساء يخرجن إلى الساحات من جديد، فنانون يعيدون افتتاح المسرح، موسيقيون يدرّبون أطفالاً صغاراً، ومتحف وطني يُرمَّم بعد أن دمّره «داعش»، كل تفصيلة تتحرك داخل الفيلم باعتبارها جزءاً من سؤال أكبر؛ هل يمكن لمدينة فقدت كل شيء أن تستعيد هويتها؟ وهل يستطيع الإنسان أن يشفى من ذاكرة الحرب؟

ورغم أن الموصل اليوم أكثر أماناً، فإن المخرج يذكّر بأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة، ويرى أن المدينة مثل مرآة للمنطقة كلها، وأن ما يحدث فيها يعكس ما يمكن أن يحدث في مدن أخرى إذا تُركت بلا دعم حقيقي أو دون إعادة بناء للثقة والوعي والانتماء.