ما سر تفوق البعض في التعرف على الوجوه؟

أصبح التعرّف على الوجوه وهويات الأشخاص مصدر قلق بالغ لأمن الحكومات والشركات (شترستوك)
أصبح التعرّف على الوجوه وهويات الأشخاص مصدر قلق بالغ لأمن الحكومات والشركات (شترستوك)
TT

ما سر تفوق البعض في التعرف على الوجوه؟

أصبح التعرّف على الوجوه وهويات الأشخاص مصدر قلق بالغ لأمن الحكومات والشركات (شترستوك)
أصبح التعرّف على الوجوه وهويات الأشخاص مصدر قلق بالغ لأمن الحكومات والشركات (شترستوك)

أظهرت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين الأستراليين، سر تفوق بعض الأشخاص في التعرف على الوجوه وتذكرها بسهولة، كاشفة عن أن الأمر ليس شيئاً يمكن تعلمه، بل هي طريقة تلقائية وديناميكية لاكتشاف ما يجعل كل وجه فريداً ومميزاً لهم.

ووفقاً للدراسة، التي أجراها فريق من علماء الإدراك في جامعة نيو ساوث ويلز بسيدني في أستراليا، لا يتعلق الأمر بمدى قدرة هؤلاء الأشخاص على استيعاب ملامح الوجه، بل بجودة المعلومات التي تركز عليها أعينهم.

يقول الدكتور جيمس دان، المؤلف الرئيسي للبحث الذي نُشر، الأربعاء، في دورية «بروسيدنجز أوف ذا رويال سوسيتي بي» للعلوم البيولوجية: «لا يقتصر دور من يتمتعون بقدرات فائقة في التعرف على الوجوه على النظر بدقة أكبر، بل يبدون أكثر ذكاءً. فهم يختارون الأجزاء الأكثر فائدة من الوجه لاستيعابها».

ويضيف في بيان، الأربعاء، أنهم «لا يرون أكثر من اللازم، بل تنظر أعينهم بشكل طبيعي إلى أجزاء الوجه التي تحمل أفضل الدلائل للتمييز بين الأشخاص». لمعرفة ما الذي يختلف به أداء المُتَعَرِّفين الفائقين عند النظر إلى وجه، استخدم الباحثون تقنية تتبع العين لقياس مكان ومدة نظر 37 مُتَعَرِّفاً فائقاً عند فحص صور الوجوه على شاشة الكمبيوتر، ومقارنة ذلك بـ68 شخصاً يتمتعون بقدرات متوسطة في التعرف على الوجوه.

لا يتعلق الأمر بالقدرة على استيعاب ملامح الوجه بل بجودة المعلومات التي تركز عليها أعين هؤلاء الأشخاص (شترستوك)

وباستخدام برنامج التتبع، أعاد الباحثون إنشاء ما نظر إليه المشاركون في كلتا المجموعتين، وأدخلوا المعلومات في 9 شبكات ذكاء اصطناعي عصبية مختلفة مُدرَّبة مسبقاً على التعرف على الوجوه. ثم كُلِّفت شبكات الذكاء الاصطناعي هذه بنفس مهمة المشاركين البشريين وهي تحديد ما إذا كان وجهان ينتميان إلى الشخص نفسه.

يقول الدكتور دان: «أصبح الذكاء الاصطناعي بارعاً للغاية في التعرف على الوجوه، وكان هدفنا هو استغلال ذلك لفهم أنماط العين البشرية الأكثر إفادة». عندما قارن الباحثون أداء الذكاء الاصطناعي في مطابقة الوجوه بناءً على أنماط تتبع عين المُتَعَرِّفين الفائقين وأنماط المُتَعَرِّفين العاديين، وجدوا فرقاً واضحاً.

تُظهر الأبحاث السابقة للفريق أن الأشخاص ذوي القدرة الفائقة على التعرّف على الوجوه يُركزون أكثر على الوجوه ويستكشفونها على نطاق أوسع. حتى مع الأخذ في الاعتبار أنهم نظروا إلى أجزاء أكثر من الوجه، يتبيّن أن ما ينظرون إليه أكثر قيمةً في تحديد هوية الأشخاص.

ولكن هل يمكن للأشخاص ذوي القدرة المتوسطة على التعرّف على الوجوه أن يتعلموا من الأشخاص ذوي القدرة الفائقة على التعرّف على الوجوه ألا ينسوا الوجوه أبداً؟

«للأسف لا»، يجيب دان، مضيفاً أن «هناك أمراً آخر يحدث في الدماغ أثناء معالجة المعلومات. الأمر لا يقتصر على مكان النظر وماهية النظر».

ويوضح: «مهارتهم ليست شيئاً يمكن تعلمه بسهولة، بل هي طريقة تلقائية وديناميكية لاكتشاف ما يجعل كل وجه فريداً». يشبه الأمر فكرة الكاريكاتير، وهي أنه عند المبالغة في السمات المميزة للوجه يصبح التعرف عليه أسهل. ويقول الباحثون إن الدراسة تُقدم رؤًى ثاقبة حول الخبرة البصرية البشرية، وقد تُلهمنا إلى إدخال تحسينات جديدة في تقنية التعرف على الوجوه.


مقالات ذات صلة

3 أجبان كاملة الدسم تحمي من ألزهايمر

صحتك الأجبان كاملة الدسم تدعم صحة الدماغ مع التقدم في العمر (جامعة لوند)

3 أجبان كاملة الدسم تحمي من ألزهايمر

كشفت دراسة سويدية أن تناول بعض أنواع الجبن كاملة الدسم والقشدة كاملة الدسم قد يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بالخرف ومرض ألزهايمر.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك العمر يتقدّم لكنّ الحركة لا تفقد معناها (شاترستوك)

بعد الخامسة والثلاثين... الجسد يبدأ العدّ التنازلي

تصل القدرة البدنية للإنسان إلى ذروتها في سنّ الـ35 عاماً، وتبدأ في التدهور بعد ذلك بوقت قصير، وفق دراسة استمرَّت عقوداً...

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك يتفوّق عصير الطماطم من حيث القيمة الغذائية العامة على عصير الرمان إذ يحتوي على بروتين وألياف وفيتامينات مثل فيتامين «إيه» و«سي» إضافةً إلى الكالسيوم والحديد فيما يفتقر عصير الرمان إلى كثير من هذه العناصر (بيكسباي)

عصير الطماطم أم عصير الرمان: أيهما أفضل لخفض ضغط الدم؟

تشير الدراسات إلى أن الأدلة العلمية تميل بشكل أوضح لصالح عصير الرمان في خفض ضغط الدم، خصوصاً الضغط الانقباضي (الرقم الأعلى).

«الشرق الأوسط» (بيروت)
صحتك البروتين وتمارين المقاومة لحماية العضلات مع التقدُّم في العمر (جامعة مونتريال)

نظام غذائي يومي للحفاظ على قوة العضلات

مع التقدُّم في العمر، يبدأ الجسم تدريجياً بفقدان الكتلة العضلية، وهي عملية طبيعية تبدأ عادة من سنّ الثلاثين وتتسارع بعد سنّ الستين...

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك الأشخاص المصابون بالاكتئاب تزيد احتمالات إصابتهم بالصرع خلال مرحلة لاحقة من العمر (بيكسباي)

دراسة: الاكتئاب يزيد من احتمالات الإصابة بالصرع

توصلت دراستان جديدتان إلى أن الاكتئاب يزيد من صعوبة علاج مرض الصرع، وقد يؤدي أيضاً إلى الإصابة بهذا المرض.


وَصْف الخبز المكسيكي بـ«القبيح» يُفجّر جدلاً على وسائل التواصل

الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
TT

وَصْف الخبز المكسيكي بـ«القبيح» يُفجّر جدلاً على وسائل التواصل

الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)

أثار انتقاد صريح وجَّهه خباز بريطاني إلى الخبز المكسيكي موجة واسعة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، انتهت باعتذار علني.

ففي مقابلة ضمن بودكاست عن الطعام أُعيد تداولها عبر الإنترنت، قال الشريك المؤسِّس لمخبز «غرين راينو» في مكسيكو سيتي، وأحد الأسماء المعروفة في عالم صناعة الخبز الدولية، ريتشارد هارت، إن المكسيكيين «لا يملكون في الحقيقة ثقافة خبز تُذكر»، مضيفاً: «إنهم يصنعون السندويتشات باستخدام لفائف بيضاء قبيحة، رخيصة الثمن ومصنَّعة على نحو صناعي».

وسرعان ما انتشرت تصريحاته عبر منصات «إنستغرام»، و«تيك توك»، و«إكس»، واتهمه كثير من المكسيكيين بالاستخفاف بتراث بلادهم من الخبز التقليدي وإهانته.

وذكرت «أسوشييتد برس» أنّ ما بدأ خلافاً حول الخبز سرعان ما تحوَّل إلى نقاش وطني أوسع حول هوية الطعام، ليس فقط بشأن مَن يُعرّف التقاليد المطبخية المكسيكية، بل أيضاً حول النفوذ المتزايد للأجانب في عاصمة تشهد توتراً متصاعداً بفعل تدفُّق المغتربين الأميركيين والسياح.

وقالت دانييلا ديلغادو، وهي طالبة جامعية في مكسيكو سيتي: «لقد أساء إلى مجتمع الخبازين في المكسيك، وإلى كلّ الناس هنا الذين يحبّون الخبز، وهم تقريباً الجميع».

جدل يتجاوز الخبز إلى سؤال الهوية والذاكرة (أ.ب)

«لا تعبثوا بالبوليو»

امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بالميمات ومقاطع الفيديو الساخرة، والدفاعات الحماسية عن الخبز المكسيكي. وسارع المستخدمون إلى الإشادة بالأنواع اليومية الشائعة، من خبز «البوليو» القاسي المُستَخدم في شطائر «التورتا»، إلى خبز «الكونتشا» الشهير في المخابز الشعبية في الأحياء. وفي كثير من الأحيان، تُمثّل هذه الأطعمة البسيطة عنصراً جامعاً بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وتمسّ جوهر الهوية الثقافية للبلاد.

ورغم أنّ خبز القمح أُدخل إلى المكسيك خلال الحقبة الاستعمارية، فإن هذا الغذاء الأساسي تطوَّر ليصبح تقليداً وطنياً مميّزاً، يمزج بين التقنيات الأوروبية والأذواق والمكوّنات المحلّية. ولا تزال المخابز الصغيرة في الأحياء تُشكّل اليوم جزءاً محورياً من الحياة اليومية في المدن والبلدات، بوصفها مراكز اجتماعية بقدر ما هي مصادر للغذاء.

وأثار الحادث تساؤلات واسعة حول سبب إقدام رائد أعمال أجنبي على انتقاد علني لعنصر غذائي مُتجذّر بعمق في الحياة المكسيكية. وبالنسبة إلى كثيرين، عكست تصريحات هارت إحباطات قديمة تتعلَّق بحصول الطهاة وأصحاب المطاعم الأجانب على مكانة واهتمام يفوقان نظراءهم المحلّيين، فضلاً عن المخاوف المُرتبطة بتسارع وتيرة «التحسين الحضري» في العاصمة.

وجاء في منشور لاقى انتشاراً واسعاً عبر «إكس»: «لا تعبثوا بالبوليو».

«فرصة للتعلّم»

ومع تصاعُد الانتقادات، أصدر هارت اعتذاراً علنياً عبر «إنستغرام»، قال فيه إنّ تعليقاته صيغت بشكل سيئ، ولم تُظهر الاحترام اللائق للمكسيك وشعبها. وأقرَّ بردّ الفعل العاطفي الذي أثارته، مُعترفاً بأنه لم يتصرّف بصفته «ضيفاً».

وقال في بيانه: «ارتكبت خطأً، وأندم عليه بشدّة».

وسبق لهارت أن عمل في مخابز فاخرة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكان جزءاً من مشهد الخبز الحِرفي المتنامي في مكسيكو سيتي، وهو سوق تستهدف في الغالب زبائن من الطبقتَين الوسطى والعليا، وكثيراً ما يكونون من الأجانب الباحثين عن خبز العجين المُخمّر والمعجنات الأوروبية بأسعار تفوق بكثير أسعار مخابز الأحياء الشعبية.

ولم يُسهم الاعتذار في تهدئة الجدل فوراً. ففي حين قبله بعض المستخدمين، رأى آخرون أنه لم يتطرَّق إلى القضايا الأعمق المُتعلّقة بالسلطة الثقافية، ومَن يملك حق انتقاد التقاليد المكسيكية.


حتى الدلافين تشيخ ببطء مع الأصدقاء!

الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
TT

حتى الدلافين تشيخ ببطء مع الأصدقاء!

الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)

بيَّنت دراسة علمية جديدة أنّ ذكور الدلافين قارورية الأنف التي تنسج صداقات قوية وطويلة الأمد تتقدَّم في العمر بوتيرة أبطأ، مقارنة بأقرانها الأكثر عزلة، ممّا يسلّط الضوء على الدور المحوري للروابط الاجتماعية في تحقيق شيخوخة صحية لدى الثدييات.

وتُعرف الدلافين قارورية الأنف بقدرتها على تكوين صداقات تمتد لعقود، على غرار علاقات الرفقة التي يشهدها البشر. وقد أظهرت دراسات سابقة أنّ ذكور هذا النوع تقضي وقتها معاً في اللعب، وركوب الأمواج للمتعة، والراحة جنباً إلى جنب، وتشكيل روابط اجتماعية عميقة وطويلة الأمد.

ويقتصر هذا النمط من الترابط الاجتماعي على الذكور، إذ يُعرف أنّ صداقات إناث الدلافين تتأثّر بوجود صغار متقاربين في العمر.

وقالت عالمة الأحياء البرية، ليفيا غيربر، من منظمة الكومنولث للبحوث العلمية والصناعية في أستراليا: «يُذكّرني ذلك بصديقَيْن في روضة الأطفال يلازمان بعضهما بعضاً طوال سنوات الدراسة، ثم في مسيرتهما المهنية وحتى التقاعد، ويتقاسمان أفراح الحياة وتحدّياتها».

وفي الدراسة الجديدة، حلَّل الباحثون 50 عيّنة من أنسجة الجلد مأخوذة من 38 دلفيناً قاروري الأنف في «شارك باي»، أو «خليج القرش». كما قيَّم العلماء بيانات الروابط الاجتماعية بين الدلافين في الخليج، استناداً إلى سنوات طويلة من الملاحظات الميدانية.

وخلصوا إلى أّن ذكور الدلافين التي تمتلك علاقات اجتماعية قوية تتقدَّم في العمر بوتيرة أبطأ مقارنة بأقرانها التي تعيش حياة أكثر وحدة.

وقالت غيربر، المؤلّفة الرئيسية للدراسة المنشورة في مجلة «نيتشر كوميونيكيشنز بيولوجي» التي نقلتها «الإندبندنت»: «كنا نعلم بأنّ الروابط الاجتماعية تساعد الحيوانات على العيش مدّة أطول، لكن هذه هي المرة الأولى التي نُظهر فيها أنها تؤثّر في عملية الشيخوخة نفسها». وأضافت: «الروابط الاجتماعية مهمّة إلى حدّ أنها تُبطئ الشيخوخة على المستوى الخليوي».

وأوضح الباحثون أنّ الدلافين الأكثر عزلة قد تضطرّ إلى الصيد بمفردها، والتنافُس على التزاوج من دون دعم، ومواجهة أسماك القرش وغيرها من المفترسات، وهي عوامل قد تُسهم في حياة مليئة بالتوتّر، على نحو يشبه ما يحدث لدى البشر.

وقالت غيربر: «وجود الأصدقاء يعني أنكم تصطادون معاً، وتحرسون ظهور بعضكم بعضاً، وتتقاسمون الأعباء».

وحتى الآن، ركّزت معظم البحوث المتعلّقة بتأثير الصداقات في الشيخوخة على العمر الزمني للحيوان منذ ولادته، أو على متوسّط عمره. وإنما الدراسة الأخيرة قدَّرت العمر البيولوجي الحقيقي للدلافين استناداً إلى مؤشرات فردية في الحمض النووي.

وأظهرت الدراسات أن ما يُعرف بـ«الساعة فوق الجينية» (Epigenetic clock) يوفّر مؤشراً أدقّ على الصحة العامة وحالة الشيخوخة لدى الحيوان. وفي دراسات سابقة، ساعدت هذه الساعات فوق الجينية في كشف كيفية تأثير عوامل مثل التلوّث، والاكتئاب، والروابط الاجتماعية الإيجابية أو السلبية في العمر البيولوجي.

وتخلُص النتائج، حسب العلماء، إلى إبراز أهمية الاستثمار في علاقات إنسانية ذات معنى، إلى جانب التغذية الصحية وممارسة الرياضة، من أجل حياة أطول وأكثر صحة.


«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
TT

«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)

في فيلمه «كويبُوكا، تذكَّر»، الذي شارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، يعود المخرج البلجيكي–الرواندي جوناس داديِسكي إلى موطنه رواندا لا بوصفها مسرحاً لمأساة تاريخية فحسب، بل إنه فضاء حيّ يعيد طرح أسئلة الذاكرة، والهوية، والانتماء من منظور جيلٍ عاش الإبادة الجماعية من بعيد، لكنه ظل يحمل آثارها في داخله.

تدور أحداث الفيلم حول «ليا»، لاعبة كرة سلّة بلجيكية–رواندية، تواجه نهاية مسيرتها الاحترافية في أوروبا، قبل أن تتلقى دعوة غير متوقعة للانضمام إلى منتخب رواندا الوطني، والمشاركة في بطولة تُقام في كيغالي. الرحلة التي تبدو في ظاهرها رياضية بحتة، تتحول تدريجياً إلى مواجهة داخلية مع الذاكرة، والمنفى، وصمت العائلة، وهوية ممزقة بين مكانين وزمنين.

يقول داديِسكي لـ«الشرق الأوسط» إن «الدافع الأساسي لصناعة الفيلم كان رغبتي الشخصية في إعادة الاتصال برواندا، البلد الذي أنتمي إليه عبر والدي، رغم أنه وُلد ونشأ في بلجيكا»، مشيراً إلى أنه لم يُرِد العودة بصفة أنه سائح، بل من خلال مشروع يتيح له خوض تجربة إنسانية حقيقية مع الناس هناك، وهو ما تحقق عبر الفيلم، الذي أعاده مراراً إلى رواندا، وفتح أمامه علاقات، واكتشافات غيّرت نظرته إلى البلد، وإلى نفسه.

صور الفيلم بالعديد من المواقع الحقيقية داخل رواندا (الشركة المنتجة)

ويوضح أن شخصية «ليا»، بطلة الفيلم، جاءت انعكاساً جزئياً لتجربته الذاتية، فهي تنتمي إلى الجيل نفسه، وتحمل الهوية المختلطة ذاتها، وتعود إلى رواندا ليس بدافع الحنين، بل عبر مهمة محددة، وهي الانضمام إلى منتخب كرة السلة الوطني. ومع ذلك، فإن هذه العودة تفتح أسئلة مؤجلة حول العائلة، والماضي، والإبادة الجماعية.

وأكد أن الفيلم انطلق من الشخصية أولاً، لكن استحالة فصل العودة إلى رواندا عن تاريخها جعلت ذاكرة ما بعد الإبادة حاضرة بوصفها سياقاً لا يمكن تجاهله، مشيراً إلى أنه تعامل مع كرة السلة باعتبارها فقاعة تحتمي داخلها «ليا»، فالحياة الاحترافية القاسية سمحت لها بالتركيز على الحاضر، وتجنب مواجهة ماضيها. غير أن دعوة المنتخب الرواندي شكّلت أول شرخ في هذه الفقاعة، إذ سمحت لها بالعودة إلى البلد من دون أن تكون مطالبة فوراً بمواجهة أسئلتها العائلية.

ولفت إلى أن الفيلم يتعمد كسر صورة «الفيلم الرياضي الكلاسيكي»، إذ تبدأ «ليا» باعتبارها نجمة منتظرة، وقائدة للفريق، لكنها تنتهي بالتنازل عن موقعها، وإقناع المدرب بأن الفريق قادر على الفوز من دونها، في موازاة رمزية مع رواندا التي أعادت بناء نفسها بعد الإبادة.

عاد المخرج إلى رواندا عدة مرات للتحضير للفيلم (الشركة المنتجة)

وعن تجنب الميلودراما يقول داديِسكي إن «قوة الشخصية المهنية كانت عنصراً أساسياً في موازنة هشاشتها الداخلية. فالفيلم يقدّمها أولاً كلاعبة ناجحة، قبل أن يكشف تدريجياً تعقيدات ماضيها»، مؤكداً أن وعي البطلة بأنها لم تعش الإبادة بنفسها منح الشخصية تواضعاً أخلاقياً، منعها من إصدار الأحكام، وهو ما انعكس على نبرة الفيلم العامة، القائمة على الصمت، والكلمات القليلة، والانفعالات المكبوتة.

وفي تناوله للإبادة الجماعية، يوضح المخرج أنه اختار الابتعاد عن الصور المباشرة، أو الأرشيف، مفضّلاً تثبيت الفيلم في الحاضر، مشيراً إلى أن «الصمت والغياب كانا عنصرين أساسيين في السرد، قبل أن تأتي فكرة استخدام الرسوم المتحركة بوصفها وسيلة عضوية لاستعادة الذاكرة، فالبطلة لا تملك صوراً واضحة عن الماضي، بينما يحمل والدها ذكريات مؤلمة عبّر عنها عبر رسومات، وعندما تكتشف الابنة هذه الرسومات، تبدأ في إسقاط ذاكرتها المتخيلة عليها، في عملية إعادة بناء غير مكتملة، تعكس هشاشة الذاكرة، وتشوهها»، على حد تعبيره.

ويؤكد داديِسكي أن الرسوم المتحركة كانت خياراً أخلاقياً، وجمالياً، لأنها تبتعد عن إعادة تمثيل العنف، وتسمح بتجسيد الإحساس بدل الحدث، كما أنها شكّلت جسراً عاطفياً بين الأب، والابنة، وهي العلاقة التي يراها جوهر الفيلم.

وحول فكرة «العودة» إلى الوطن، يشدد على أن الفيلم لا يتعامل معها بوصفها حنيناً، لأن «ليا» لا تمتلك ذاكرة واضحة عن رواندا، فهي لا تتقن اللغة، والبلد تغيّر جذرياً، حتى ملاعب كرة السلة أصبحت أكثر تطوراً مما عرفته في أوروبا، لافتاً إلى أن وجودها في رواندا لاعبة، لا سائحة، منح السرد ديناميكية، وحوّل العودة إلى رحلة اكتشاف وبحث، لا استرجاع للماضي.

قدم الفيلم صورة عن واقع رواندا اليوم بنظرة جيل عاش خارجها (الشركة المنتجة)

ويرى المخرج أن البطلة تمثل جيلاً كاملاً من أبناء الشتات الرواندي، الذين غادروا البلاد خلال الإبادة، ونظروا إلى وطنهم لسنوات طويلة من خلال مأساة واحدة، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الشخصية تتجاوز خصوصيتها، لتعبّر عن تجربة إنسانية أوسع، تشمل كل من عاش انكسار الهوية بسبب الحرب، أو المنفى، أو التبني القسري.

وعن التناقض بين ماضي رواندا الجريح وحاضرها النابض، يقول داديِسكي إن هذه المفارقة كانت من أقوى الصدمات التي عاشها شخصياً عند زيارته الأولى للبلد، بعدما اكتشف عاصمة حديثة، وطبيعة خلابة، وحياة يومية مليئة بالطاقة، لافتاً إلى أنه أراد نقل هذه الصورة إلى الفيلم، من دون إنكار الماضي، عبر لغة بصرية ملوّنة، وحيوية، تقابلها معالجة متقشفة وصامتة لأماكن الذاكرة، وقال إن «الفيلم يعكس قناعتي بأن الجيل الذي كان طفلاً وقت الإبادة يمتلك اليوم مسافة كافية تسمح له بمساعدة جيل الآباء على تفكيك صدماتهم».

وفي ختام حديثه، يشير داديِسكي إلى أن اسم الفيلم لا يعني التذكّر بوصفه عودة جامدة إلى الماضي، بل باعتبار أنه تفاعل حيّ بين الماضي والحاضر، معرباً عن أمله في أن يخرج المشاهد من الفيلم برغبة في مواجهة عقده الخاصة قبل فوات الأوان، وبإيمان حقيقي بإمكانية إعادة البناء، سواء على المستوى الفردي، أو الجماعي، حتى بعد أكثر التجارب الإنسانية قسوة.