«باكينغهام»... القصر المنبوذ من العائلة المالكة البريطانية منذ فيكتوريا حتى ويليام

تأهيله ينتهي في 2027 بعد أن ظهرت فيه الفئران وتداعت حجارته

أعمال ترميم قصر باكينغهام متواصلة منذ 2017 (موقع القصر)
أعمال ترميم قصر باكينغهام متواصلة منذ 2017 (موقع القصر)
TT

«باكينغهام»... القصر المنبوذ من العائلة المالكة البريطانية منذ فيكتوريا حتى ويليام

أعمال ترميم قصر باكينغهام متواصلة منذ 2017 (موقع القصر)
أعمال ترميم قصر باكينغهام متواصلة منذ 2017 (موقع القصر)

انتقل الأمير ويليام وزوجته كيت ميدلتون وعائلتهما إلى «منزلهما الأبديّ». هذه هي التسمية التي أطلقها الثنائي الملكي البريطاني على مقرّ إقامتهما الجديد في «فورست لودج»، على مقربة من حديقة وندسور الكبرى والتي تبعد 34 كيلومتراً عن وسط لندن. ووفق صحيفة «تلغراف» البريطانية، فإنّ ويليام وكيت قد انتقلا قبل أيام، خلال عطلة منتصف الفصل الدراسي لأولادهما.

من جانبهما، يستقر الملك تشارلز وزوجته كاميلا في «كلارنس هاوس» منذ عام 2003، ولا تراودهما إطلاقاً فكرة السكَن في قصر باكينغهام.

لا يقيم الملك تشارلز في «باكينغهام» بل في «كلارنس هاوس» (رويترز)

تلك التحفة المعمارية التي يزورها 50 ألف سائح سنوياً غير محبوبة من العائلة البريطانية المالكة. والنفور من القصر التاريخي ليس حديث العهد ولا يقتصر على الجيل الجديد من ورثة العرش، بل يعود إلى قرونٍ مضت.

الملكة التائهة في «باكينغهام»

منذ 1837، يُعَدّ قصر باكينغهام مقرّ الإقامة الرسمي لملكات إنجلترا وملوكها، غير أنه يعاني منذ سنوات من الفراغ، إذ يقتصر سكّانه على عدد محدود من العمّال والموظفين. ليس سبب ذلك أعمال إعادة الترميم التي انطلقت عام 2017، بل لأن أصحاب القصر لا يرتاحون فيه.

قاعة العرش في «باكينغهام» وهو مقر الإقامة الرسمي لملوك إنجلترا (موقع القصر)

يُحكى أن الملكة ماري، زوجة الملك جورج الخامس، تاهت مرةً 3 ساعات بينما كانت تستكشف زوايا القصر وأروقته وغرفه الـ775. ووفق كتاب «داخل قصر باكينغهام» لأندرو مورتون، فإن أفراداً من العائلة المالكة يشبّهون الإقامة فيه بالعيش في «فندق عملاق، أو فوق مجموعة من المتاجر، أو كما التخييم في متحف».

أولى الملكات القاطنات في «باكينغهام» والكارهات له، هي الملكة فيكتوريا التي دخلته عام 1837. تذكر المؤرخة سالي سميث في كتاب «إليزابيث الملكة» أن «فيكتوريا كانت تمقت مداخن القصر ونظام التهوية الضعيف فيه وروائح الطعام المتعفن المنبعثة من مطابخه، كما أنها كانت تنفر من الهواء الرطب في أجوائه ومن جموع الناس العابرة تحته في لندن». وخلال السنوات الأخيرة من حُكمها، نادراً ما كانت تأتي فيكتوريا إلى القصر، مما دفع أحد المواطنين إلى تعليق لافتة على البوّابة الرئيسية كتب عليها «برَسم البيع».

يحتوي قصر باكينغهام على 775 غرفة (رويترز)

«رائحة عفن تلاحقني»

يستبعد المؤرخ وكاتب سيرة العائلة البريطانية المالكة روبرت لايسي، في حديث مع صحيفة «تلغراف»، أن يكون أيٌ من ورثة عرش إنجلترا قد أحبّ القصر أو تآلفَ معه. ويضيف أنه وفق اليوميات التي كان يدوّنها الملوك، فإنهم لطالما نظروا إلى «باكينغهام» كمكتب للعمل وكمساحة للاستقبالات والاحتفالات الرسمية، وليس أكثر. لم ينتقلوا للإقامة فيه سوى من باب الواجب.

ذهب الملك إدوارد السابع إلى حدّ تشبيهه بالقبر. أما حفيده الملك إدوارد الثامن فكتب في وصف «باكينغهام»: «هذا المبنى الضخم، بغرفه الفخمة وممراته التي لا تنتهي أبداً ممتلئاً برائحة عفن غريبة لا تزال تلاحقني كلما عبرتُ بواباته. لم أكن سعيداً هناك على الإطلاق». ووفق المؤرخة إدنا هيلي فإن إدوارد الثامن لطالما اشتكى خلال عهده من الظلام المخيّم على القصر.

رغم فخامته فإن ملوك إنجلترا لم يتآلفوا مع «باكينغهام» (موقع القصر)

غريب على حافة سرير الملكة

عقب تنازل إدوارد عن العرش عام 1936، تولّى شقيقه جورج السادس المهام الملكيّة. انتقل الملك الجديد برفقة عائلته إلى قصر باكينغهام وأطلق عليه فوراً تسمية «الثلّاجة». لكن في عيون ابنتَيه الأميرتَين الصغيرتَين إليزابيث ومارغريت، كان القصر بمثابة جزيرةٍ ساحرة، زاخرة بأماكن اللعب والاستكشاف.

إلا أن مرور السنوات بدّل وجهة النظر تلك، فعندما صارت الأميرة الصغيرة إليزابيث ملكة واجهت هي الأخرى صراعاتها الخاصة مع «باكينغهام». الصدام الأول مع المكان تسبب فيه زوجها الأمير فيليب الذي نبذ القصر. وفي محاولة منها لتبديل رأيه، خصّت الملكة إليزابيث زوجها بجناح الملوك، وفق الكاتب هوغو فيكرز المتخصص في شؤون العائلة البريطانية المالكة.

خصت الملكة إليزابيث زوجها الأمير فيليب بجناح الملوك لتقنعه بالبقاء في «باكينغهام» (رويترز)

المشكلة الأفظع التي واجهتها الملكة إليزابيث في قصر باكينغهام، كانت اقتحام رجل غرفة نومها عند السادسة صباحاً من أحد أيام صيف 1982. مايكل فاغان، الذي كان قد سبق أن تسلّل إلى القصر قبل أشهر، استغلّ إهمال الفريق الأمني، لتستيقظ الملكة وتجده جالساً على حافة سريرها. إلا أن تلك الحادثة لم تبدّل شيئاً في يوميات الملكة ولم تدفعها إلى مغادرة القصر، بل جمعت حولها أولادها وأحفادها ومكثت فيه أطول مدّة مقارنةً مع أسلافها.

الأميرة ديانا في مطابخ «باكينغهام»

توصَف الفترة الممتدة ما بين 1980 و2005 بالأكثر حيويةً في تاريخ قصر باكينغهام. بلغ عدد قاطنيه الـ300 ما بين أفراد العائلة والموظفين. كانت لكلٍ من أبناء إليزابيث وأحفادها غرفته، ويذكر المؤرّخون كيف أن الأميرة ديانا لطالما حطّمت قواعد البروتوكول بنزولها الدائم إلى المطابخ والثرثرة مع العاملين هناك.

كانت الفترة الممتدة ما بين 1980 و2005 الأكثر حيوية في «باكينغهام» (أ.ب)

لكن منذ عام 2010، بدأ يتّضح أن قصر باكينغهام ما عاد صالحاً للسكَن المريح ولا حتى للاستقبالات الرسمية. ففي 2011، وخلال زيارته الرسمية إلى المملكة المتحدة، صادف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما فأراً داخل القصر. وقد لاحظ الفريق المرافق له أن مادة الأسبست المسرطنة كانت قد تكثفت في أرجاء القصر بفعل مرور الزمن، كما أن السطول وُضعت بكثرة بسبب تسرب المياه.

في تلك الفترة كذلك، كانت الحجارة بدأت بالسقوط من سقف القصر، وقد نجا رأس الأميرة آن، ابنة الملكة، من أحدها بالصدفة.

عقب سلسلة من الحوادث المشابهة، وبعد أن بدأ أبناء الملكة وأولادهم يغادرون القصر واحداً تلو الآخر، اتُخذ عام 2017 قرار ترميم «باكينغهام»، ومن المفترض أن تُختتم الورشة الواسعة النطاق في 2027.

منذ 2010 بدأت ملامح التداعي تظهر في قصر باكينغهام (موقع القصر)

رغم انطلاق أعمال الترميم، مكثت الملكة إليزابيث في القصر حتى 2020. بعد ذلك وبالتزامن مع جائحة «كورونا»، انتقلت إلى وندسور، وهو من القصور الملكيّة الأحبّ إلى قلبها.

مع انتهاء أعمال الترميم بعد سنتَين، من المستبعد أن يعود قصر باكينغهام إلى سابق عهده ويشكّل مقر إقامة الملوك. ووفق صحيفة «تلغراف»، تشير الترجيحات إلى أن القصر قد يتحوّل إلى متحف أو على الأقل سوف يحذو حذو بالمورال، أي أن إقامة أفراد الأسرة الملكية فيه ستقتصر على أشهر معدودة خلال العام، على أن تفتح أبوابه بقية السنة أمام السياح والزوار.


مقالات ذات صلة

علاج الملك تشارلز من السرطان سيكون أخفّ في العام الجديد

يوميات الشرق الملك تشارلز الثالث (رويترز)

علاج الملك تشارلز من السرطان سيكون أخفّ في العام الجديد

قال الملك تشارلز الثالث، الجمعة، إن علاجه من السرطان سيتم تخفيفه في العام الجديد بفضل التشخيص المبكر، والتدخل الفعال، والالتزام بتعليمات الأطباء.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الملك البريطاني تشارلز (أ.ف.ب) play-circle

ضمن حملة توعية... الملك تشارلز يتحدث للبريطانيين عن رحلة تعافيه من السرطان

سيُلقي الملك البريطاني تشارلز، اليوم (الجمعة)، خطاباً شخصياً موجَّهاً للبريطانيين يدور حول إصابته بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل (رويترز) play-circle

ميغان ماركل تنتقد «ديلي ميل» بسبب تغطية صحافية من جوار والدها في المستشفى

قال متحدث باسم ميغان ماركل، زوجة الأمير هاري، إنها تمكنت من إرسال خطاب إلى والدها في أحد المستشفيات على الرغم من خرق صحيفة «ديلي ميل» لـ«الحدود الأخلاقية».

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا اثنان من أعضاء مجموعة تدعى «استعيدوا السلطة» لطخا صندوقاً يحتوي على تاج الدولة الإمبراطوري في لندن بفطيرة التفاح والكاسترد («استعيدوا السلطة» - أ.ف.ب)

القبض على 4 أشخاص ألقوا الطعام على صندوق عرض التاج البريطاني

قالت الشرطة البريطانية، اليوم السبت، إنها اعتقلت أربعة أشخاص في برج لندن بعد إلقاء طعام على صندوق عرض يحتوي على تاج الدولة الإمبراطوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق حلقة خاصة من برنامج ميغان ماركل بمناسبة الأعياد (نتفليكس)

ميغان تعود إلى المطبخ ببيجاما العيد والأمير هاري يفضّل طهو أمّها

حلقة خاصة من برنامج ميغان ماركل للطهو على «نتفليكس» بمناسبة أعياد آخر السنة، وضيف الشرف الأمير هاري.

كريستين حبيب (بيروت)

«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
TT

«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)

في فيلمه «كويبُوكا، تذكَّر»، الذي شارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، يعود المخرج البلجيكي–الرواندي جوناس داديِسكي إلى موطنه رواندا لا بوصفها مسرحاً لمأساة تاريخية فحسب، بل إنه فضاء حيّ يعيد طرح أسئلة الذاكرة، والهوية، والانتماء من منظور جيلٍ عاش الإبادة الجماعية من بعيد، لكنه ظل يحمل آثارها في داخله.

تدور أحداث الفيلم حول «ليا»، لاعبة كرة سلّة بلجيكية–رواندية، تواجه نهاية مسيرتها الاحترافية في أوروبا، قبل أن تتلقى دعوة غير متوقعة للانضمام إلى منتخب رواندا الوطني، والمشاركة في بطولة تُقام في كيغالي. الرحلة التي تبدو في ظاهرها رياضية بحتة، تتحول تدريجياً إلى مواجهة داخلية مع الذاكرة، والمنفى، وصمت العائلة، وهوية ممزقة بين مكانين وزمنين.

يقول داديِسكي لـ«الشرق الأوسط» إن «الدافع الأساسي لصناعة الفيلم كان رغبتي الشخصية في إعادة الاتصال برواندا، البلد الذي أنتمي إليه عبر والدي، رغم أنه وُلد ونشأ في بلجيكا»، مشيراً إلى أنه لم يُرِد العودة بصفة أنه سائح، بل من خلال مشروع يتيح له خوض تجربة إنسانية حقيقية مع الناس هناك، وهو ما تحقق عبر الفيلم، الذي أعاده مراراً إلى رواندا، وفتح أمامه علاقات، واكتشافات غيّرت نظرته إلى البلد، وإلى نفسه.

صور الفيلم بالعديد من المواقع الحقيقية داخل رواندا (الشركة المنتجة)

ويوضح أن شخصية «ليا»، بطلة الفيلم، جاءت انعكاساً جزئياً لتجربته الذاتية، فهي تنتمي إلى الجيل نفسه، وتحمل الهوية المختلطة ذاتها، وتعود إلى رواندا ليس بدافع الحنين، بل عبر مهمة محددة، وهي الانضمام إلى منتخب كرة السلة الوطني. ومع ذلك، فإن هذه العودة تفتح أسئلة مؤجلة حول العائلة، والماضي، والإبادة الجماعية.

وأكد أن الفيلم انطلق من الشخصية أولاً، لكن استحالة فصل العودة إلى رواندا عن تاريخها جعلت ذاكرة ما بعد الإبادة حاضرة بوصفها سياقاً لا يمكن تجاهله، مشيراً إلى أنه تعامل مع كرة السلة باعتبارها فقاعة تحتمي داخلها «ليا»، فالحياة الاحترافية القاسية سمحت لها بالتركيز على الحاضر، وتجنب مواجهة ماضيها. غير أن دعوة المنتخب الرواندي شكّلت أول شرخ في هذه الفقاعة، إذ سمحت لها بالعودة إلى البلد من دون أن تكون مطالبة فوراً بمواجهة أسئلتها العائلية.

ولفت إلى أن الفيلم يتعمد كسر صورة «الفيلم الرياضي الكلاسيكي»، إذ تبدأ «ليا» باعتبارها نجمة منتظرة، وقائدة للفريق، لكنها تنتهي بالتنازل عن موقعها، وإقناع المدرب بأن الفريق قادر على الفوز من دونها، في موازاة رمزية مع رواندا التي أعادت بناء نفسها بعد الإبادة.

عاد المخرج إلى رواندا عدة مرات للتحضير للفيلم (الشركة المنتجة)

وعن تجنب الميلودراما يقول داديِسكي إن «قوة الشخصية المهنية كانت عنصراً أساسياً في موازنة هشاشتها الداخلية. فالفيلم يقدّمها أولاً كلاعبة ناجحة، قبل أن يكشف تدريجياً تعقيدات ماضيها»، مؤكداً أن وعي البطلة بأنها لم تعش الإبادة بنفسها منح الشخصية تواضعاً أخلاقياً، منعها من إصدار الأحكام، وهو ما انعكس على نبرة الفيلم العامة، القائمة على الصمت، والكلمات القليلة، والانفعالات المكبوتة.

وفي تناوله للإبادة الجماعية، يوضح المخرج أنه اختار الابتعاد عن الصور المباشرة، أو الأرشيف، مفضّلاً تثبيت الفيلم في الحاضر، مشيراً إلى أن «الصمت والغياب كانا عنصرين أساسيين في السرد، قبل أن تأتي فكرة استخدام الرسوم المتحركة بوصفها وسيلة عضوية لاستعادة الذاكرة، فالبطلة لا تملك صوراً واضحة عن الماضي، بينما يحمل والدها ذكريات مؤلمة عبّر عنها عبر رسومات، وعندما تكتشف الابنة هذه الرسومات، تبدأ في إسقاط ذاكرتها المتخيلة عليها، في عملية إعادة بناء غير مكتملة، تعكس هشاشة الذاكرة، وتشوهها»، على حد تعبيره.

ويؤكد داديِسكي أن الرسوم المتحركة كانت خياراً أخلاقياً، وجمالياً، لأنها تبتعد عن إعادة تمثيل العنف، وتسمح بتجسيد الإحساس بدل الحدث، كما أنها شكّلت جسراً عاطفياً بين الأب، والابنة، وهي العلاقة التي يراها جوهر الفيلم.

وحول فكرة «العودة» إلى الوطن، يشدد على أن الفيلم لا يتعامل معها بوصفها حنيناً، لأن «ليا» لا تمتلك ذاكرة واضحة عن رواندا، فهي لا تتقن اللغة، والبلد تغيّر جذرياً، حتى ملاعب كرة السلة أصبحت أكثر تطوراً مما عرفته في أوروبا، لافتاً إلى أن وجودها في رواندا لاعبة، لا سائحة، منح السرد ديناميكية، وحوّل العودة إلى رحلة اكتشاف وبحث، لا استرجاع للماضي.

قدم الفيلم صورة عن واقع رواندا اليوم بنظرة جيل عاش خارجها (الشركة المنتجة)

ويرى المخرج أن البطلة تمثل جيلاً كاملاً من أبناء الشتات الرواندي، الذين غادروا البلاد خلال الإبادة، ونظروا إلى وطنهم لسنوات طويلة من خلال مأساة واحدة، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الشخصية تتجاوز خصوصيتها، لتعبّر عن تجربة إنسانية أوسع، تشمل كل من عاش انكسار الهوية بسبب الحرب، أو المنفى، أو التبني القسري.

وعن التناقض بين ماضي رواندا الجريح وحاضرها النابض، يقول داديِسكي إن هذه المفارقة كانت من أقوى الصدمات التي عاشها شخصياً عند زيارته الأولى للبلد، بعدما اكتشف عاصمة حديثة، وطبيعة خلابة، وحياة يومية مليئة بالطاقة، لافتاً إلى أنه أراد نقل هذه الصورة إلى الفيلم، من دون إنكار الماضي، عبر لغة بصرية ملوّنة، وحيوية، تقابلها معالجة متقشفة وصامتة لأماكن الذاكرة، وقال إن «الفيلم يعكس قناعتي بأن الجيل الذي كان طفلاً وقت الإبادة يمتلك اليوم مسافة كافية تسمح له بمساعدة جيل الآباء على تفكيك صدماتهم».

وفي ختام حديثه، يشير داديِسكي إلى أن اسم الفيلم لا يعني التذكّر بوصفه عودة جامدة إلى الماضي، بل باعتبار أنه تفاعل حيّ بين الماضي والحاضر، معرباً عن أمله في أن يخرج المشاهد من الفيلم برغبة في مواجهة عقده الخاصة قبل فوات الأوان، وبإيمان حقيقي بإمكانية إعادة البناء، سواء على المستوى الفردي، أو الجماعي، حتى بعد أكثر التجارب الإنسانية قسوة.


«متحف قرّاء القرآن الكريم» يوثق لتاريخ التلاوة في مصر

جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)
جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)
TT

«متحف قرّاء القرآن الكريم» يوثق لتاريخ التلاوة في مصر

جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)
جانب من افتتاح المتحف في العاصمة الجديدة (وزارة الثقافة المصرية)

يُوثق «متحف قرّاء القرآن الكريم» لتاريخ التلاوة والمقرئين في مصر، بوصفه مشروعاً ثقافياً يسعى إلى توثيق تراث صوتي يشكّل جزءاً مهماً من الذاكرة المصرية.

فالمتحف، الذي افتتح أخيراً، يوثّق تسجيلات كبار المقرئين في مصر إلى جوار مقتنياتهم الشخصية، ضمن سياق متحفي يعزّز قيمة التراث غير المادي المرتبط بتاريخ الاستماع للتلاوة القرآنية، وبذاكرة متجذّرة في الوجدان الجمعي، وبذلك، يصبح المتحف أقرب إلى توثيق حي لتاريخ التلاوة، لا مجرد أرشيف.

المقتنيات الشخصية للشيخ أبو العينين شعيشع في المتحف (وزارة الثقافة المصرية)

ويضم المتحف، الذي افتتح رسمياً، الثلاثاء، مقتنيات خاصة لأحد عشر من رموز مدرسة التلاوة المصرية، هم: محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي، وطه الفشني، ومصطفى إسماعيل، ومحمود خليل الحصري، ومحمد صديق المنشاوي، وأبو العينين شعيشع، ومحمود علي البنا، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمد محمود الطبلاوي، وأحمد الرزيقي.

ركن القارئ مصطفى إسماعيل (وزارة الثقافة المصرية)

وتتوزع معروضات المتحف، المُلحق بدار القرآن الكريم بمركز مصر الثقافي الإسلامي بالعاصمة الجديدة (شرق القاهرة) على أربع قاعات رئيسية، ويضم مجموعة من المخطوطات والمقتنيات النادرة، من بينها إجازات الأزهر الشريف لعدد من المقرئين، إلى جانب نسخ من المصحف، من بينها نسخة من المصحف العثماني.

ويعتمد العرض المتحفي على الجمع بين المادة البصرية والتسجيلات الصوتية، بحيث لا تُعرض المقتنيات بوصفها أشياء منفصلة عن أصحابها، بل كجزء من مسار حياتهم ومسيرتهم في التلاوة.

ويعدّ الكاتب والناقد المصري الدكتور أحمد إبراهيم الشريف أن «المتحف يمثل إضافة مهمة في أكثر من اتجاه»، أبرزها أنه «لا يقدم مكاناً للعرض بقدر ما يقدّم معنى ثقافياً يعمل على تكريس هوية مصرية وذاكرة شعبية وروحانية إنسانية».

ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أن «المدرسة المصرية في قراءة القرآن الكريم ليست أداءً فقط، بل تقليد عريق تشكّل عبر أجيال، وترك بصمته على الذائقة الدينية والجمالية في العالم الإسلامي كله، ولأن القراءة هنا ارتبطت بمقامات الصوت وتقاليد الأداء والانضباط اللغوي، فقد تحولت إلى علامة ثقافية قائمة بذاتها، يلتقطها المستمع من طريقة النطق، ومن الإيقاع، ومن العلاقة المتوازنة بين الخشوع والجمال».

مقتنيات القارئ طه الفشني (وزارة الثقافة المصرية)

وتتنوع المقتنيات المعروضة داخل المتحف، من عمامات وملابس وعباءات وقفاطين وجلاليب وسبح، إلى أجهزة تسجيل صوتية قديمة، ودروع تكريم ونياشين وأوشحة ارتداها القراء في مناسبات مختلفة، كما تضم القاعات صوراً شخصية للمقرئين مع أسرهم، وصوراً لتكريماتهم، وشهادات تقدير، إلى جانب قصاصات صحافية وثّقت محطات مهمة في حياتهم، فضلاً عن وسائل حديثة تتيح للزائر الاستماع إلى تلاواتهم.

ركن الشيخ محمود خليل الحصري (وزارة الثقافة المصرية)

وكان المتحف قد افتتحه الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، والدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، في إطار تعاون يهدف إلى حفظ أحد أبرز أوجه التراث الديني والثقافي المصري.

ووفق الدكتور أسامة رسلان، المتحدث باسم وزارة الأوقاف، فإن افتتاح متحف قرّاء القرآن الكريم يمثل «إضافة نوعية وفريدة للمشهدين الديني والثقافي في مصر». وأوضح رسلان، خلال مداخلة تلفزيونية، أن «مدرسة التلاوة المصرية تعد علامة فارقة في تاريخ العالم الإسلامي، حيث وصلت أصوات قرائها إلى العالمية، مستشهداً بتلاوة القرآن الكريم لأول مرة داخل الكونغرس الأميركي بصوت الشيخ محمود خليل الحصري».

مقتنيات الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (وزارة الثقافة المصرية)

ويشير الشريف إلى أن «الطابع المتحفي النوعي لهذا المشروع، يتيح حالة من التواصل الوجداني مع تلاوة القرآن الكريم، كما أن هذا النوع من المتاحف يملك قدرة خاصة على جذب جمهور واسع، بداية من محبي التلاوة، وعشاق المدرسة المصرية في القراءة، والمهتمين بتاريخ الأداء الصوتي، وحتى الزائر العادي الذي يبحث عن مساحة عرض متحفي جديدة».


جدة تُغيّر قواعد الترفيه من زرقة البحر إلى بياض الثلج وتكتب موسماً جديداً

منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)
منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)
TT

جدة تُغيّر قواعد الترفيه من زرقة البحر إلى بياض الثلج وتكتب موسماً جديداً

منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)
منطقة «ونتر وندرلاند» بموسم جدة تستقبل زوارها الجمعة بطاقة استيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً (موسم جدة)

لم يكن الثلج يوماً ضيفاً مألوفاً على جدة، هذه المدينة التي اعتادت أن تصحو على زرقة البحر، وحكايات التاريخ في كل زواياها، ولكنها تفاجئ زائريها هذا العام ببياض ناعم يهبط من الخيال لا من السماء، مكوناً ثلوجاً تتكون ببرودة مصنوعة بعناية، لتكون تجربة فريدة ومتكاملة لزوار موسم شتاء جدة.

وتفتح المدينة العتيقة أبوابها يوم الجمعة لأضخم تجربة شتوية تشهدها على الإطلاق، ضمن فعاليات «موسم جدة 2025» في فعاليتها الجديدة «ونتر وندرلاند جدة» لتفتح الفرصة لقاطني المدينة وزوّارها لمحاكاة الشتاء من خلال استحضار طقوسه بالكامل «الجليد، الضوء، الموسيقى» لتُسجل الدهشة الأولى حين يرى الزائر الثلج في مدينة اعتادت الشمس.

ولن يكون الثلج مجرد خلفية في «ونتر وندرلاند جدة» بل بطل المشهد، إذ ينساب على الممرات، ضمن 4 مناطق رئيسية ترسم خريطة هذا الشتاء غير المتوقع متمثلة في القطب الشمالي؛ حيث الجليد المتلألئ وحلبات التزلج، إلى «توي تاون» التي تُعيد الطفولة إلى ألوانها الأولى، مروراً بـ«وايلد ونتر» المليئة بالتحدي والحركة، وصولاً إلى «فروست فير»؛ حيث يهدأ الإيقاع، وتصبح الفوانيس والموسيقى جزءاً من ذاكرة المكان.

واجهة جدة البحرية (واس)

ويتوقع أن تشهد هذه الفعاليات تدفقاً كبيراً من الزوار؛ خصوصاً أن الطاقة الاستيعابية تصل إلى 15 ألف زائر يومياً لكل المواقع التي تشمل منظومة متكاملة تضم 32 لعبة ترفيهية، و9 تجارب تفاعلية، و10 ألعاب مهارة، إلى جانب أكثر من 60 مطعماً ومتجراً، في مشهد تتداخل فيه النكهات العالمية مع دفء الاحتفال.

توفر واجهة جدة البحرية التي يقصدها السكان والزوار أجواء مميزة خاصة خلال أوقات الغروب (واس)

وتعيش مدينة جدة طفرة نوعية وبإيقاع مختلف، إذ فتحت مساحاتها للضوء والموسيقى، من خلال «موسم جدة 2025» بوصفه إطاراً جامعاً، ضم تحت مظلته طيفاً واسعاً من الفعاليات الترفيهية والثقافية والفنية، وفتح المدينة على إيقاعات متعددة، من الحفلات الغنائية الكبرى، إلى العروض المسرحية، والفعاليات العائلية التي توزعت على مواقع مختلفة من جدة، في حين تحوّلت الواجهة البحرية إلى مسرح مفتوح، احتضن مهرجانات موسيقية، وفعاليات فنية في الهواء الطلق.

كما برزت المعارض والمناسبات الكبرى، ومنها معرض الكتب، والملتقيات الثقافية، وفعاليات ريادة الأعمال، التي جعلت من جدة منصة للحوار، والفكر، والتبادل المعرفي، إلى جانب كونها وجهة للترفيه، فيما حضرت الرياضة في مساراتها المختلفة بقوة من السباقات البحرية إلى سباقات السيارات والبطولات الكروية.

وفي قلب الذاكرة، عادت جدة التاريخية (البلد) لتكون من أبرز عناوين العام، عبر موسم جدة التاريخية، وما رافقه من فعاليات ثقافية وتراثية، شملت عروض الفنون الشعبية، والأسواق التراثية، والمعارض الفنية التي أعادت الحياة إلى الأزقة والبيوت القديمة، وقدّمت التراث بوصفه تجربة معيشة.

فعاليات ثقافية وتراثية أعادت الحياة إلى الأزقة والبيوت القديمة في المنطقة التاريخية بجدة (واس)

هذا الحراك السياحي والترفيهي لا ينفصل عن حركة الوصول إلى المدينة، فقد أعلن مطار الملك عبد العزيز الدولي أن إجمالي عدد المسافرين عبر المطار بلغ منذ بداية العام حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 48 مليون مسافر، بنسبة نمو 8.9 في المائة، فيما وصل عدد الرحلات إلى 273.7 ألف رحلة، بنمو 8.2 في المائة، في مؤشرات تعكس توسعاً متسارعاً في خدمات المطار، وترسيخ مكانته بوصفه من أبرز المراكز الجوية في المنطقة والجاذبة للمدينة، فيما سجّل شهر نوفمبر وحده عدد مسافرين بلغ 4.86 مليون، محققاً نمواً بنسبة 8.6 على ما كان مسجلاً للفترة نفسها في العام الماضي.

هذه الأرقام لا تُقرأ بمعزل عن المشهد العام، فهي تعكس جاذبية المدينة التي تتحرك بثقة، وتستعد لاستقبال العالم، وتُعيد بناء علاقتها بالزائر من لحظة الوصول حتى تفاصيل التجربة، متكئة على تاريخها العتيق، فلم تكن منذ اكتشافها قبل 3 آلاف عام منعزلة عن الطرق الكبرى والمسارات الإقليمية والدولية في التجارة والفن والأدب.

جدة التاريخية... قلب الذاكرة (واس)

هكذا تبدو جدة اليوم كما كانت، مدينة تجمع بين تاريخ عميق وحاضر سياحي متجدد، ومستقبل ترفيهي يصنع مواسمه بجرأة، تعتمد فيه على الحداثة والتطوير وأفكار تناسب الشارع المحلي بكل شرائحه وفئاته، خصوصاً أن قطاع السياحة متشعب، وله أبعاد ثقافية واقتصادية على البلاد.

جدة التاريخية «البلد» محطة رئيسية لعشاق التراث (واس)

وكشف التقرير أن إجمالي عدد السياح المحليين والوافدين في 2024 وصل إلى 116 مليون سائح، بنسبة نمو بلغت 6 في المائة مقارنة بعام 2023، وبلغ إجمالي الإنفاق السياحي 284 مليار ريال، بنسبة نمو 11 في المائة مقارنة بعام 2023، فيما بلغ إنفاق السياح الوافدين من الخارج إلى (168.5) مليار ريال، وهذه الأرقام لا تقتصر على مدينة بذاتها، بل شملت كل المدن السعودية بما في ذلك المدينة العتيقة «جدة».