تعاون غريب بين السجناء والجيش الأميركي في غوانتنامو

عمار البلوشي في صورة تعود إلى عام 2022 (فريقه القانوني من خلال صحيفة نيويورك تايمز)
عمار البلوشي في صورة تعود إلى عام 2022 (فريقه القانوني من خلال صحيفة نيويورك تايمز)
TT

تعاون غريب بين السجناء والجيش الأميركي في غوانتنامو

عمار البلوشي في صورة تعود إلى عام 2022 (فريقه القانوني من خلال صحيفة نيويورك تايمز)
عمار البلوشي في صورة تعود إلى عام 2022 (فريقه القانوني من خلال صحيفة نيويورك تايمز)

في السنوات الأخيرة، ظهرت مجموعة غير متوقعة من الصور الفوتوغرافية لتقدّم للعالم لمحة نادرة عن السجن العسكري الأميركي في خليج غوانتنامو من الداخل.

في هذه الصور، يظهر رجال محتجزون منذ أكثر من عقدين من الزمن، وهم يقفون طوعاً أمام عدسات الجنود الأميركيين. بعضهم متهم بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر (أيلول)، بينما لم تُوجَّه لأي منهم تهم رسمية، وقد يُفرج عن بعضهم.

يرسل السجناء هذه الصور إلى عائلاتهم، في إطار تعاون مستمر منذ سنوات بين الجيش الأميركي واللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

يرتدي السجناء ملابس مدنية، وأحياناً تقليدية. بعضهم يبتسم، وآخرون يبدون أكثر جدية، لكن الغالبية تظهر بملامح هادئة. وقد وصف سجناء سابقون هذه الصور بأنها محاولة لطمأنة أحبائهم الذين لم يروهم منذ سنوات طويلة، وبعضهم كان يعتقد أنهم ماتوا.

يأتي ذلك في إطار برنامج يشرف عليه «الصليب الأحمر»، يتيح للمحتجزين في «الحرب على الإرهاب» التواصل مع عائلاتهم عبر رسائل وبطاقات تخضع لمراجعة السجن. وقد نصّت اتفاقيات جنيف، التي تنظّم قوانين الحرب، على هذه الحقوق. جميع السجناء الخمسة عشر في غوانتنامو استفادوا من البرنامج الذي بدأ السماح بالصور عام 2009.

عمار البلوشي في صورة تعود إلى عام 2025 (فريقه القانوني من خلال صحيفة نيويورك تايمز)

في إحدى الصور الحديثة، يظهر خالد شيخ محمد (المتهم بتدبير هجمات 11 سبتمبر التي أودت بحياة نحو 3000 شخص) مرتدياً ثوباً أبيض مكويّاً، ولحيته مصبوغة.

وفي صورة أخرى تعود إلى عام 2009، يظهر جالساً على سجادة صلاة ممسكاً بمسبحة، وكانت من أوائل صوره التي وصلت إلى العلن منذ أن نشرت وكالة الاستخبارات المركزية صورة له بعد اعتقاله عام 2003، حين بدا شعره أشعثاً وصدره عارياً بعد اقتياده من سريره.

تقدّم هذه المجموعة من الصور مشهداً منسقاً بعناية عن الحياة داخل مركز الاحتجاز البحري الذي احتجزت فيه الولايات المتحدة نحو 780 رجلاً وصبياً منذ عام 2002، في إطار «الحرب على الإرهاب». ولم يتبقّ اليوم سوى 15 سجيناً.

الغالبية العظمى من الذين احتجزوا هناك لم تُوجَّه إليهم أي تهم، وأُعيدوا إلى بلدانهم أو استقروا في دول أخرى.

يقرأ كتاباً في غرفة عامة للسجناء في غوانتنامو (نيويورك تايمز)

عندما بدأ برنامج «الصليب الأحمر» عام 2009، كان السجن يضم نحو 240 شخصاً. وبحسب إحصاءات «الصليب الأحمر»، فإن نحو 169 منهم التقطت لهم صور وأُرسلت لعائلاتهم.

كانت هذه الصور بمثابة «إثبات للحياة»؛ خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين أمضوا سنوات في مواقع احتجاز سرّية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية قبل نقلهم إلى غوانتنامو في سبتمبر (أيلول) 2006.

في إحدى الصور، يظهر عمار البلوشي (ابن أخت خالد شيخ محمد المتهم بالمشاركة في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر) مرتدياً لباس السجن الأبيض الذي يرمز إلى تعاونه مع سجّانيه، ومعتمراً قبعة أفغانية. ويُعتقد أن هذه أول صورة له ضمن برنامج «الصليب الأحمر» في غوانتنامو.

أبو زبيدة في صورة تعود إلى عام 2024 (فريقه القانوني من خلال صحيفة نيويورك تايمز)

تعود الصورة إلى نحو عام 2009. وقد استخدم كوفية حمراء مربعة كخلفية، وجلس على سجادة صلاة ممسكاً بمسبحة، وهما من «الأغراض المريحة» المسموح بها عسكرياً. كانت لحيته آنذاك قد نمت بحرية، على عكس صورة سابقة سرّية له وهو عارٍ أثناء احتجازه في مراكز الـ«CIA».

وفي صور لاحقة، بدت لحيته وقد شابت، وهو يرتدي قميصاً فضفاضاً وسروالاً وقلنسوة «سِندية» تُمثل تراث عائلته البلوشية. هذه المرة كانت الخلفية بطانية خضراء سميكة مقاومة للتمزق، من النوع المستخدَم في أماكن الاحتجاز.

في البداية، كان ممثلو «الصليب الأحمر» هم من يلتقطون الصور. كانوا يجلبون ملابس تقليدية، إذا أراد السجناء ارتداءها بدلاً من زي السجن، وينصبون خلفيات مؤقتة في زنازين فارغة أو في ساحات الترفيه.

«الصليب الأحمر»، الذي يتولى إيصال الصور، لا يعتبرها ملكه، ولم ينشر أيّاً منها على الملأ. وكذلك الجيش الأميركي، الذي يراجع الصور بدقة قبل تسليمها للعائلات، خوفاً من وجود رسائل سرية أو مخاطر أمنية.

لكن أقارب السجناء ومحامي الدفاع عنهم سلّموا بعضها لوسائل الإعلام، كما استخدمها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي.

أبو زبيدة في صورة تعود إلى عام 2024 (فريقه القانوني من خلال صحيفة نيويورك تايمز)

كما أن هذه الصور تملأ فراغاً بصرياً؛ فالجيش الأميركي لم يعد يسمح للصحافة بالدخول إلى السجن.

على مدى سنوات، سُمح للمصورين والصحافيين بزيارة المنشأة، وكانوا يلتقطون صوراً لا تُظهر وجوه السجناء، لكن وزارة الدفاع أوقفت هذه الزيارات عام 2019.

تقول ديبي كورنوال، وهي محامية حقوق مدنية سابقة ومصوّرة أصدرت كتاباً مصوراً بعنوان «مرحباً بكم في معسكر أميركا»: «تختلف قراءة هذه الصور بحسب مَن ينظر إليها. بالنسبة لعائلات السجناء، فهي مطمئنة وتبدّد المخاوف. أما بالنسبة للعامة، فهي توحي خطأً بأن المحتجزين يتمتعون بحرية الاختيار في غوانتنامو، بينما هم في واقع الأمر تحت السيطرة الكاملة للجيش».

مع تفشي جائحة «كورونا»، عندما توقفت زيارات «الصليب الأحمر» مؤقتاً، بدا مصوّرو الجيش يتولّون التقاط الصور.

وفي عام 2002، التقط مصورو الجيش أولى الصور الأيقونية للسجناء راكعين داخل أقفاص ويرتدون البزات البرتقالية، ووجوههم مغطاة. لاحقاً، أوكلت إليهم مهمة توثيق عمليات التغذية القسرية.

أما اليوم، فيلتقط هؤلاء المصورون الصور نفسها، لكن لأجل عائلات السجناء، مستخدمين الزنازين كاستوديوهات مؤقتة.

سفيان برهومي، الذي احتجز في غوانتنامو لمدة 20 عاماً دون محاكمة، وأُفرج عنه لاحقاً إلى الجزائر، قال إن السجناء «يحاولون الظهور بشكل قوي» في الصور.

وأضاف: «حتى التفاصيل الصغيرة (مثل أن يروكَ بملابس مدنية) تُعني الكثير لعائلتك. لكن العائلة لا تعرف كم تعاني فقط لأجل التقاط الصورة». وأوضح أن بعض الجلسات كانت تُجرى فيما السجناء مكبلون بالأغلال المخفية عند الكاحلين والمعاصم. ورفضت القيادة الجنوبية للجيش الأميركي، المسؤولة عن تشغيل السجن، إتاحة المصورين لإجراء مقابلات.

في إحدى الصور الملتقطة عام 2024، يبدو أبو زبيدة وكأنه خرج من مجلة يخت، لا من زنزانة. وكان يضع رقعة سوداء مزيفة على عينه تتدلى على عنقه مثل ربطة عنق.

أبو زبيدة، واسمه الحقيقي زين العابدين محمد حسين، لم يُوجَّه إليه أي اتهام رسمي.

وكانت أولى صوره قد التُقِطت قبل أن يُسمح له بارتداء الملابس المدنية داخل السجن، وهو امتياز أقرّه الجيش الأميركي تماشياً مع اتفاقيات جنيف للسجناء غير المدانين.

في يونيو (حزيران) 2024، التقطت له صورة وهو يرتدي ألواناً حمراء وبيضاء وزرقاء (تصادف أنها ألوان العلم الأميركي)، بحسب محاميه آنذاك.

أبو زبيدة كان أول مَن تعرّض للتعذيب بالإيهام بالغرق من قبل «وكالة الاستخبارات المركزية»، وأول سجين في برنامج الاعتقال السري الذي أنشأته إدارة بوش بعد هجمات 11 سبتمبر.

ورغم أنه لم يُتهم بالمشاركة في الهجمات، فإن لجنة الأمن القومي الأميركي اعتبرته «خطيراً جداً بحيث لا يمكن الإفراج عنه».

قالت كورنوال: «في صورته وهو يرتدي سترة بحرية داكنة، يمكن للمرء أن يتخيله يسير في الشارع بين الناس. لكن، كما يبدو، لن يحدث ذلك أبداً».

* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

اختيار ضابط سابق في مشاة البحرية لقيادة فرق الدفاع في غوانتانامو

الولايات المتحدة​ العقيد جوناثان فون انضم إلى سلاح مشاة البحرية قبل أحداث 11 سبتمبر (نيويورك تايمز)

اختيار ضابط سابق في مشاة البحرية لقيادة فرق الدفاع في غوانتانامو

اختير العقيد جوناثان فون، الذي انضم إلى سلاح مشاة البحرية قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، مع عودة القضاة إلى خليج غوانتانامو. واختارت إدارة ترمب عقيداً في مشاة…

كارول روزنبرغ (واشنطن )
الولايات المتحدة​ برج مراقبة... البوابة الرئيسية للمعتقل الموجود بقاعدة غوانتانامو الأميركية في جزيرة كوبا يوم 16 أكتوبر 2018 (أ.ف.ب) play-circle

رفض طلب إدارة ترمب إسقاط دعوى تطعن على احتجاز مهاجرين في غوانتانامو

رفضت قاضية فيدرالية طلباً من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب برفض دعوى قضائية تطعن على احتجاز مهاجرين في القاعدة البحرية الأميركية بخليج غوانتانامو.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ معتقل غوانتنامو حيث يُحتجز معتقلو «القاعدة» (نيويورك تايمز)

عودة مُدان بالقاعدة إلى محكمة غوانتنامو بعد 17 عاماً على محاكمته

عاد إلى المحكمة العسكرية في غوانتنامو، الخميس الماضي، السجين الوحيد المحكوم بالسجن المؤبد هناك، بعد 17 عاماً على إدانته بالدعاية للقاعدة.

كارول روزنبرغ (غوانتنامو باي، كوبا)
الولايات المتحدة​ دخان يتصاعد من مركز التجارة العالمي بعد اصطدامه بطائرتين في 11 سبتمبر 2001 بمدينة نيويورك (أرشيفية - متداولة)

بعد 24 عاماً من هجمات سبتمبر... خالد شيخ محمد وآخرون ينتظرون المحاكمة

في الذكرى الـ24 لهجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 التي رسخت ثاني أسوأ هجوم إرهابي على الأراضي الأميركية، فإن نظريات المؤامرة لا تزال مشتعلة.

هبة القدسي (واشنطن)
الولايات المتحدة​ 300 مهاجر من جنسيات مختلفة في طريقهم إلى الحدود المكسيكية - الأميركية، يوم 6 أغسطس (أ.ف.ب)

إدارة ترمب تباشر عمليات احتجاز المهاجرين تمهيداً لترحيلهم

باشرت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب العمل لإنشاء مرافق اعتقال للمهاجرين غير النظاميين في قواعد عسكرية، وأُولاها قاعدة «فورت بليس» على الحدود المكسيكية.

علي بردى (واشنطن)

إصابة عدد من الأشخاص بإطلاق نار في حرم جامعة براون في الولايات المتحد

صورة من مقطع فيديو لرجال شرطة خارج حرم جامعة براون (ا.ب)
صورة من مقطع فيديو لرجال شرطة خارج حرم جامعة براون (ا.ب)
TT

إصابة عدد من الأشخاص بإطلاق نار في حرم جامعة براون في الولايات المتحد

صورة من مقطع فيديو لرجال شرطة خارج حرم جامعة براون (ا.ب)
صورة من مقطع فيديو لرجال شرطة خارج حرم جامعة براون (ا.ب)

وقع إطلاق نار في حرم جامعة براون بمدينة بروفيدنس الأميركية بالقرب من بوسطن، مساء السبت، وألقيَ القبض على مشتبه به، وفق ما أعلنت مؤسسة التعليم العالي التي تُعدّ من بين أفضل ثماني على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وأكدت الشرطة الأميركية أن هناك العديد من الضحايا الذين أصيبوا بالرصاص.

وافادت الجامعة في بيان لها بأن «إطلاق نار يجري بالقرب من قسم باروس أند هولي»، مشيرة إلى أن «عناصر شرطتي براون وبروفيدنس موجودون في الموقع»، بالإضافة إلى فرق الإسعاف. ودعت الطلاب والموظفين إلى الاحتماء.

وأضافت الجامعة التي تضم حوالي 11 ألف طالب «ألقيَ القبض على مشتبه به. أغلقوا الأبواب، وأطفئوا هواتفكم، وابقوا مختبئين حتى إشعار آخر».


ترمب: سنرد على تنظيم «داعش» في سوريا إذا هاجمنا مجدداً

الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)
TT

ترمب: سنرد على تنظيم «داعش» في سوريا إذا هاجمنا مجدداً

الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)

قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تعليقاً على مقتل ثلاثة من أفراد الجيش الأميركي على يد مسلح في سوريا، إن الولايات المتحدة سترد على تنظيم «داعش» إذا تعرضت قواته لهجوم آخر.

وأوضح ترمب أن الأميركيين الثلاثة قُتلوا في كمين، وذلك في تصريحات أدلى بها للصحافيين أمام البيت الأبيض، وفق ما ذكرته وكالة «رويترز» للأنباء.

وقال ترمب عبر منصته «تروث سوشيال» إن «الرئيس السوري أحمد الشرع غاضب ومستاء للغاية من هذا الهجوم».

وقال الجيش الأميركي إن ثلاثة من أفراده، جنديان ومترجم فوري مدني، قُتلوا (السبت) عندما هاجم مسلح ينتمي لتنظيم «داعش» رتلاً لقوات أمريكية وسورية.

وقالت القيادة المركزية للجيش الأميركي إن ثلاثة عسكريين أميركيين آخرين أصيبوا بجروح.

وأضافت، في بيان، أن الهجوم الذي نفذه مسلح منفرد وقع «بينما كان الجنود يشتبكون مع قائد رئيسي» في مدينة تدمر بوسط سوريا.

وذكر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث أن «قوات حليفة» قتلت المهاجم.


استراتيجية ترمب للأمن القومي تهدد تحالفات واشنطن التاريخية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال تجمع في ماونت بوكونو بولاية بنسلفانيا 9 ديسمبر (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال تجمع في ماونت بوكونو بولاية بنسلفانيا 9 ديسمبر (د.ب.أ)
TT

استراتيجية ترمب للأمن القومي تهدد تحالفات واشنطن التاريخية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال تجمع في ماونت بوكونو بولاية بنسلفانيا 9 ديسمبر (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال تجمع في ماونت بوكونو بولاية بنسلفانيا 9 ديسمبر (د.ب.أ)

تبنَّت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، استراتيجيةً جديدةً ومختلفةً للأمن القومي، أعاد فيها ترمب رسم دور الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتحدَّى مرة جديدة الأعرافَ التقليدية في أوساط السياسة في واشنطن وحول العالم.

وتعدّ هذه الاستراتيجية استمراراً لسياسات بدأ بتطبيقها في عهده الثاني حملت شعار «أميركا أولاً»، وابتعدت عن الدور التقليدي للولايات المتحدة بوصفها «شرطي العالم»، مُركِّزة على أمنها وحدودها، وتاركةً للدول والأمم «مسؤولية الدفاع عن أمنها الخاص، ما دامت نار صراعاتها لن تقترب من الحدود الأميركية»، وفق الوثيقة التي نُشرت الأسبوع الماضي.

الرئيس دونالد ترمب خلال اجتماع في البيت الأبيض يوم الخميس 11 ديسمبر (أ.ف.ب)

يقول البيت الأبيض عن هذه الاستراتيجية إنها ملحق لـ«عقيدة مونرو» من القرن الـ19، التي تمحورت حول حماية الفناء الخلفي لأميركا، أي أميركا اللاتينية. لكن الاستراتيجية الحالية أوسع نطاقاً، فهي لا تكتفي برفض التدخلات الخارجية في نصف الكرة الغربي، بل توسّع دائرة المواجهة لتشمل الحرب على المخدرات، والتشديد غير المسبوق على أمن الحدود، ووقف «الهجرة الجماعية». وحمّلت الاستراتيجية أوروبا مسؤولية الدفاع عن أمنها في تهديد للتحالف الأطلسي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجرَّدت الصين من لقب «الخطر الوجودي». أما منطقة الشرق الأوسط، فقد تحوَّلت من «مصدر تهديد» إلى وجهة استثمار وشراكة.

يستعرض برنامج «تقرير واشنطن»، وهو ثمرة تعاون بين صحيفة «الشرق الأوسط» وقناة «الشرق»، ما إذا كانت الاستراتيجية الجديدة نسخةً معدّلةً وحديثةً من «عقيدة مونرو» بلمسة «أميركا أولاً»، أم أنها رؤية جديدة بالكامل تعيد صياغة قواعد اللعبة الأميركية على المسرح الدولي.

تغييرات جذرية

يعدّ جيم تاونسند، نائب مساعد وزير الدفاع السابق لسياسة «الناتو» وكبير الباحثين في مركز الأمن الجديد، أن هناك كثيراً من الأمور المثيرة للاهتمام في استراتيجية ترمب الجديدة، لكنه يشدِّد بشكل أساسي على «تغيير جذري» لفت انتباهه، وهو الإشارة إلى أن الولايات سوف تتدخل في الشؤون الداخلية للأوروبيين.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال تجمع في ماونت بوكونو بولاية بنسلفانيا 9 ديسمبر (د.ب.أ)

وأشار تاونسند إلى أن قضايا «الحروب الثقافية» أثّرت على علاقة أميركا مع الأوروبيين، وكان هذا «صادماً لهم»، على حد تعبيره. وأضاف: «لقد كان هذا شيئاً سمعوا عنه من قبل من نائب الرئيس، جي دي فانس، في خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن. حينها اعتقد الجميع أن ذلك كان مجرد أمر عارض. لكن رؤية ذلك مكتوباً بوضوح بوصفه سياسةً للولايات المتحدة وضع الجميع في حالة توتر. ماذا يعني هذا بالضبط؟ كيف سيتم تنفيذه؟».

وفي حين يشدِّد ترمب على أن الاستراتيجية تتمحور حول شعاره «أميركا أولاً»، يفسر ريك دولاتوري، مدير عمليات وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) السابق في كاراكاس، أنها إعادة لترتيب أولويات الأميركيين؛ لتشمل الحدود الآمنة، وإعادة الاستثمار في الصناعات والصادرات الأميركية، والحرص على عدم الانخراط في حروب لا تنتهي في أماكن بعيدة لا تؤثر كثيراً على المواطن الأميركي العادي.

أما جاي ساكستون، مؤلف كتاب «عقيدة مونرو: الإمبراطورية والأمة في أميركا في القرن التاسع عشر» ومدير معهد «كيندر للديمقراطية الدستورية» في جامعة ميزوري، فيعدّ أن توقيت استراتيجية ترمب مختلف للغاية عن التوقيت الذي أعلن فيه الرئيس السابق جيمس مونرو عن العقيدة التي سُمِّيت باسمه في عام 1832. وفسر أن الأخير اعتمد هذه الاستراتيجية في وقت كانت فيه الولايات المتحدة ضعيفةً جداً مقارنة بالقوى العظمى في العالم، لتكون مرتكزةً على مبدأ دفاعي بحت. وأضاف: «كانت محاولة لحماية مصالح الأمن الأميركي من خلال تحديد ما لا يمكن للقوى الأوروبية فعله. فمونرو لم يحدِّد سياسةً للولايات المتحدة، بل أخبر القوى الأخرى بما لا يمكنها فعله».

فنزويلا... تناقض بين القول والفعل؟

يرى ساكستون مفارقةً في استراتيجية ترمب التي ترفض الانخراط في حروب أبدية، ما يتناقض مع إصرار الإدارة على التصعيد بشكل كبير في منطقة البحر الكاريبي قبالة سواحل فنزويلا. ويحذِّر قائلاً: «هذا التصعيد قد يؤدي إلى النوع نفسه من الحرب الأبدية التي عارضتها الإدارة في الشرق الأوسط».

لقطة من فيديو نشرته وزيرة العدل الأميركية بام بوندي لتنفيذ أمر مصادرة ناقلة نفط خام تُستخدم لنقل النفط الخاضع للعقوبات من فنزويلا وإيران قبالة سواحل فنزويلا (أ.ف.ب)

ويتَّفق تاونسند مع هذا الطرح، إذ يحذِّر من احتمال انزلاق الأمور في فنزويلا وخروجها عن السيطرة. «إذا تدَّخلنا ميدانياً ووسَّعنا نطاق ما نقوم به الآن، فإن الحروب تميل إلى ألا تسير بالطريقة التي كنا نأملها». ويشير تاونسند إلى الوجود العسكري الأميركي المكثَّف في منطقة الكاريبي، عادّا أن الجنود الأميركيين الموجودين هناك ينتظرون نتيجة التكتيكات الضاغطة لترمب، التي تهدف إلى إخراج الرئيس نيكولاس مادورو من السلطة. وأضاف: «يُشكِّل (هذا الحشد) ضغطاً على ترمب الذي يتعيَّن عليه أن يفعل شيئاً ما بكل تلك القوة البحرية الموجودة قبالة السواحل».

أما دولاتوري، فيشدِّد على أهمية أميركا اللاتينية بالنسبة لإدارة ترمب، خصوصاً في ظل تركيزها على منع دخول المخدرات إلى الولايات المتحدة. لكنه يشير في الوقت نفسه إلى وجود جزئية متعلقة بالأمن القومي في فنزويلا، ويفسر قائلاً: «فنزويلا تعمل بوصفها نقطة انطلاق لروسيا والصين وإيران، التي تستخدمها للقيام بما تريد القيام به في نصف الكرة الغربي».

وعدّ دولاتوري أن السبب في هذا يعود إلى أن الولايات المتحدة ركَّزت جهودها، منذ اعتداءات 11 من سبتمبر (أيلول) عام 2001، على منطقة الشرق الأوسط وأماكن أخرى في إطار الحرب على التنظيمات الإرهابية، متجاهلةً بشكل كبير نصف الكرة الغربي؛ ما أتاح الفرصة للصين وروسيا وإيران ودول أخرى لتعزيز وجودها هناك.

«عقيدة مونرو»... واتهامات بالعنصرية

يتهم البعض استراتيجية ترمب الجديدة بالعنصرية ضد المهاجرين، وبترويج سياسة متشددة لليمين الأميركي. وهنا يتحدث ساكستون عن تاريخ عقيدة مونرو بهذا الخصوص، فيقول: «هناك شيء لا أعتقد أن أحداً يعرفه عن مبدأ مونرو، وهو أنه على مدار تاريخه تم استخدامه ضد الأميركيين في مجال السياسة الداخلية أكثر بكثير مما تم استخدامه أداةً لسياسة خارجية متماسكة. لذا فإن ترمب يوظفه من جهة لإظهار عزم عسكري لصد القوى الأجنبية، ومن جهة أخرى لصد الخصوم السياسيين المحليين».

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال تجمع في ماونت بوكونو بولاية بنسلفانيا 9 ديسمبر (د.ب.أ)

ويذكِّر ساكستون بأنَّ وزير الخارجية الأسبق جون كيري ألقى خطاباً في منظمة الدول الأميركية في عام 2013 أعلن فيه أن عصر مبدأ مونرو انتهى للأسباب المذكورة. ويضيف: «هناك نقطة أخرى مهمة يمكن استخلاصها من الاستراتيجية الأمنية الجديدة، وتتعلق بتأثير الصراع السياسي الداخلي بين اليمين واليسار في الحسابات الاستراتيجية للولايات المتحدة وسياساتها الخارجية». ويؤكد تاونسند أن الاستراتيجية الجديدة تتناسب تماماً مع وجهة نظر ترمب حول الهجرة، سواء أكان ذلك في نصف الكرة الغربي أم في أوروبا. ويضيف: «إن الفكرة القائلة في استراتيجية الأمن القومي إن ثقافة دولة أوروبية يمكن محوها بسبب الهجرة، هي شيء مهم جداً من وجهة نظر الإدارة الأميركية». لكنه يشير إلى تناقض يربك الأوروبيين، فمن جهة تقول الإدارة إنها لن تتدخل بعد الآن في شؤون الدول الأخرى، ومن ثم تنتقد السياسات الداخلية لأوروبا. ويضيف: «إنها حرب ثقافية. صحيح أن السياسات الأميركية الحالية تتمحور حول التصدي للهجرة، لكن نقل ذلك إلى أوروبا ووضعه على عاتق حلفائنا يشتت انتباههم في الوقت الذي يتعاملون فيه مع حرب أوكرانيا، وربما مع روسيا أكثر عدوانية بعد انتهاء تلك الحرب. لذا، فهم قلقون للغاية ومترددون الآن بشأن موقف الولايات المتحدة من حلف الناتو ودعم أوروبا. إنها مشكلة حقيقية بالنسبة للأوروبيين».

التودد إلى الصين

من البنود المفاجئة في الاستراتيجية الجديدة، إلغاء وصف الصين بـ«الخطر الوجودي» الذي يهدد الولايات المتحدة على عكس الاستراتيجيات الأميركية السابقة.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يصافح الرئيس الصيني شي جينبينغ في بوسان بكوريا الجنوبية 30 أكتوبر 2025 (رويترز)

ويعرب دولاتوري عن مفاجأته من هذه الجزئية، مشدداً على أن الصين تهديد للولايات المتحدة، ولطريقة عيش الأميركيين، والتجارة، والدفاع الوطني، ومشيراً إلى أن بكين تستثمر بكثافة في سرقة الأسرار العسكرية، وأسرار مجتمع الأعمال والشركات الرائدة في مجال التكنولوجيا. ويرجح دولاتوري أن يكون سبب تخفيف لهجة الانتقاد للصين في الاستراتيجية الأميركية نابعاً من محاولة استرضائها وجلبها إلى طاولة المفاوضات. ويضيف: «أنا شخصياً لا أؤمن كثيراً بذلك. ربما لا يريدون إثارة غضب التنين الصيني. لكن من وجهة نظر عسكرية، فإنها تمثل التهديد الأول للقوات العسكرية الأميركية وللولايات المتحدة. وهي تبذل قصارى جهدها باستمرار لتقويض جهود الولايات المتحدة، وصناعتها، وعلاقاتها الخارجية أيضاً».