«أزهار من بئر زاهر الغافري»... حوارات «ناقصة» في الشعر

تعكس مرايا طفولته وعشقه للسفر والأمكنة

«أزهار من بئر زاهر الغافري»... حوارات «ناقصة» في الشعر
TT

«أزهار من بئر زاهر الغافري»... حوارات «ناقصة» في الشعر

«أزهار من بئر زاهر الغافري»... حوارات «ناقصة» في الشعر

يضم كتاب «أزهار من بئر زاهر الغافري» حوارات مطولة وشاملة مع الشاعر العماني الذي رحل عن عالمنا في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أجراها معه الشاعر والصحافي اللبناني إسكندر حبش، تتناول بشكل بانورامي آراء الغافري في الشعر والثقافة، فضلاً عن تجربته الحياتية وترحاله واغترابه الدائمين بين المغرب وبغداد وباريس ونيويورك ولندن والسويد، ليصبح شاعر القلق واللاطمأنينة، الذي ترك بصمة في شعر الحداثة بسلطنة عمان والخليج.

ويشير حبش في تقديمه للكتاب الصادر ضمن سلسلة «كتاب نزوى» إلى أن «ثمة ما هو محزن في هذا العمل، لأنه يصدر اليوم بعيداً عن زاهر الذي غادرنا وترك هذا النص بين أيدينا منذ أن بدأنا العمل عليه في بداية عام 2023»، معتبراً أن ما يضمه من حوارات هي ناقصة بالضرورة، لأن الشاعر لم يقل كل ما عنده ولأنه أيضاً لم يستطع أن يلقي النظرة الأخيرة على ما دونه، وإن كان أوكل هذه المهمة الأخيرة إلى شريكة حياته الفنانة التشكيلية أثمار عباس التي رغبت في أن تصدر هذه الكلمات بمثابة تحية لذكراه.

أسطورة المكان الأول

يستعيد زاهر مكان الميلاد الأول في «الجزيرة الخضراء» حيث ولد في زنجبار كبقعة تشبه الحلم من ناحية الغابة والماء والمراكب والصيادين والنوارس، هو مكان الأم والجد والجدة من جهة الأم، وهو في الوقت نفسه مكان اللعب وتسلق الأشجار وشرب مياه الآبار وتناول لذيذ الفواكه. تجلى هذا المكان في مجموعته «أزهار في البئر»، وبقي المكان معه حتى الخامسة أو السادسة من عمره، لتبدأ بعد ذلك رحلته الكبرى عبر المحيط الهندي التي استغرقت شهراً أو أكثر عبر سفينة، قبل أن يصل إلى مسقط.

ويعتبر الغافري أن القرى الريفية الجبلية في عمان هي مكانه الأول أيضاً، حيث أصبحت أسطورة المكان أكثر سطوعاً، ابتداء من هيئة معلم القرآن وانتهاء بالملابس الملونة للصبايا العمانيات، بالإضافة إلى نمط العيش المختلف كلياً عن «الجزيرة الخضراء»، فهنا سمع لأول مرة عن «الأموات المسحورين» الذين يتجولون فوق أعالي الجبال.

وبرأي الغافري، أن الشاعر لا يمكن أن يتخلى عن طفولته، فهي إحساس بالشفافية وطريقة نظر إلى العالم بعين مختلفة. هذا ما يجعل من الاثنين؛ الطفولة والشعر، متلازمين.

وفيما يتعلق بفكرة «المشروع الشعري»، يقول إن مشروعه هو إنجاز نصوص وقصائد تكون قريبة أو وثيقة الصلة بالمبتكرات والتحولات التي يقوم بها شعرياً، بمعنى آخر هو لا يكتب قصائد متفرقة لا يجمعها شيء، يكتب بعفوية ورهافة بحيث لا تبعد قصيدته عن الأخرى بمسافات ضوئية. يكتب عن الحب والغياب والموت والحنين والسفر والترحال والمدن والأمكنة، كل هذا يدخل في إطار لغة يريدها أن تكون حية كما يعيشها، كل مجموعة شعرية تختلف عن الأخرى، لكن بينها خيط رفيع يربط القصائد بعضها ببعض.

التجربة العراقية

بدأ الغافري الكتابة في عمان بنصوص تقليدية، لم يبدأ الكتابة الحديثة إلا بعد ذهابه إلى بغداد التي كانت آنذاك، أواخر الستينات وبداية السبعينات، مركزاً مهماً خصوصاً في الشعر. وكانت النقاشات في المقاهي أو الحانات على أشدها. بعد قراءات متعددة في الشعر والقصة والرواية والفلسفة، نشر نصوصاً في مجلة «ألف باء» الأسبوعية، التي كان على رأسها الشاعر فاضل العزاوي، والكاتب الروائي جمعة اللامي.

كان مجايلوه فيما يسمى بجيل السبعينات، كمصطلح إجرائي، أمثال كمال سبتي وخزعل الماجدي وهاشم شفيق وشاكر لعيبي وخالد المعالي، وحينها فكّر في نشر أول مجموعة شعرية له، ثم بعد ذلك ألغى المشروع من جذوره. كانت تجربة العراق هي الأكثر تأثيراً، ليس على صعيد الكتابة الجديدة فقط، وإنما على حياته أيضاً. في العراق وجد نفسه حراً بعيداً عن الإكراهات العائلية والقبلية، كان كمن يسبح في نهر جديد وفي أمكنة جديدة ومختلفة حتى على صعيد اللغة المحكية لأنه أصبح يتحدث المحكية العراقية إلى درجة أنسته المحكية العمانية، إذ بعد مضي 10 سنوات عندما عاد إلى عمان كان أصدقاؤه يطلقون عليه «زاهر العراقي».

يقول: «كان خروجي من عُمان في اتجاه بغداد أشبه بفداء الأم لابنها، لو لم تمت أمي في مرحلة مبكرة لما خرجت من عُمان ولما عرفت المصير الذي كان ينتظرني. أخذني أبي إلى دبي في نهاية عام 1967 حيث كان يقيم أخي الأكبر البكر، في ذلك الوقت كانت دبي واحة مطلة على البحر والصحراء. مكثت عند أخي عدة شهور، وكانت لأخي علاقات واسعة في مصر والعراق ولبنان وفلسطين، فدبّر لي منحة دراسية كان يقدمها العراق للطلبة العرب من ليبيا واليمن وعمان والجزائر».

من باريس إلى نيويورك

يشير زاهر إلى أنه نادراً ما يكتب نصاً شعرياً دفعة واحدة، فهو يكتب في الليل أو ساعات الفجر الأولى وعندما يقتنع بالنص يتركه لمدة أسبوع تقريباً ثم يعود إليه. وهنا يقوم بالتعديل: «أضيف إليه صورة شعرية أو مقطعاً وأحذف أيضاً وعندما يكتمل النص أتركه أيضاً وأعود إليه لاحقاً، فإذا اقتنعت به نهائياً أتركه في الورق كما هو دون تبديل. طبعاً هذا الأمر بحاجة إلى مراسٍ أو قلْ ممارسة مستمرة».

ويشير إلى أن ديوان «هذيان نابليون» مثلاً أخذ منه عاماً كاملاً، وهو عبارة عن قصيدة طويلة تشكل كتاباً وصدرت عن دار «خطوط وظلال» في الأردن. على أي حال تأتي الكتابة وتختمر وفق المزاج الرائق والحالة النفسية أو عندما تحس أن في داخلك بئراً من اللهب، على حد تعبيره.

طفولة الشاعر طريقة نظر إلى العالم بعين مختلفة

وحول إقامته في باريس، يوضح أن ذلك كان في عام 1977، حيث إن النظام العراقي البعثي في ذلك الوقت لم يسمح له بدخول الجامعة، فما كان منه بعد تهديد مباشر لشخصه، سوى أن حجز طائرة إلى باريس وكان الجواز العماني وقتها يملك صلاحية الدخول إلى فرنسا من دون تأشيرة. لم يمكث في باريس وقتها كثيراً، ولكن عاد إليها بعد سنة، ليس في باريس وحدها، ولكن في مدن فرنسية أخرى. واستمرت إقامته في باريس منذ عام 1983 لـ3 سنوات، خلال هذه الفترة تعرف على شعراء وكتّاب، بدءاً من السوريالي عبد القادر الجنابي، وليس انتهاء بكاظم جهاد. وقتها كانت باريس «مغرية ومثيرة»، سكن في شقة قرب قوس النصر، وكانت الحياة «رخية»، خصوصاً أن باريس تشتهر بالمقاهي والمطاعم والحانات والسينما والمسرح. كان قد تخرج في قسم الفلسفة في المغرب في عام 1982، وأفادته فرنسا حينها، حيث نشر كراساً شعرياً في عام 1984 بعنوان «أظلاف بيضاء». قام عبد القادر الجنابي بتعريفه إلى فنان فرنسي هو جاك بنوا، الذي قال عنه عراب السورياليين أندريه بروتون: «لقد حقّق جاك بنوا وصية المركيز دو ساد لأنه رسمه».

وحول ملابسات إقامته في نيويورك ما يقرب من 10 سنوات، يقول إن الأمر بدا وكأنه «حلم يقظة». كان جالساً في مقهى أمام المحيط الأطلسي في طنجة حيث يلتقي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. كان ذلك في عام 1987، وحدث أن أتت نسمة كأنها تحاول أن ترشده إلى مكان أو بالأحرى إلى مكانين نيويورك أو نيو أورليانز. ولأن له صديقاً في نيويورك فقد فضّلها وودّع المغرب ومدينة طنجة وسافر إلى مسقط ليمكث أسبوعين ثم ركب طائرة وفي جيبه 200 دولار فقط. «كانت رحلة ليلية وطويلة، وصلت في العاشرة صباحاً وأخذت سيارة أجرة إلى بيت صديقي العماني الذي رحّب به بحفاوة ثم قال لي: استرح لديّ درس في الجامعة القريبة من هنا وسأعود».يحكي زاهر بقية ما حدث قائلاً: «كنت أعرف أن البيت يقع في جادة أمستردام المحاذي لشارع بروداوي. فتحت لي نيويورك ذراعيها، هنا المكتبات، المسارح، السينما، الموسيقى، الأوبرا، موسيقى الجاز والبلوز، الغاليرهات الفنية والمتاحف، متحف الفن الحديث، متحف المتروبوليتان، متحف غوغنهام. سوهو التي تعج بالحانات والمطاعم والفنانين. إنه أمر مذهل. لم أرَ الجرائم التي يتم التحدث عنها كثيراً سوى مرتين، على مدى 10 سنوات. هكذا أحسست أن نيويورك على وفاق معي حياتياً وثقافياً، هناك أمكنة ومدن تشعرك بوجودها كثيفاً ومليئاً، ونيويورك واحدة من هذه المدن».


مقالات ذات صلة

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

ثقافة وفنون محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير.

فاضل ثامر
الوتر السادس مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

كان لأغنيات الشاعر مصطفى الجارحي التي لحنها وغناها الفنان مصطفى رزق، مطرب الجاز المصري، حضور كبير في النسيج الدرامي لمسلسل «ولاد الشمس».

حمدي عابدين (القاهرة)
كتب ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

صدر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر كتاب «عبد الرحمن الأبنودي: شاعر الهوية المصرية» للناقد الدكتور رضا عطية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

يبدو ديوان «تجرحني بخفة وتعلو»، للشاعر المصري جمال القصاص، منذ عنوانه مفتوحاً على احتمالات تأويلية متعددة.

عمر شهريار
يوميات الشرق الشاعر ناصر بن جرّيد (صور متداولة للراحل)

الشاعر ناصر بن جرّيد… عبَر سكة التائهين ثم رحل

فقد الوسط الفني والثقافي والأدبي والرياضي في السعودية، الشاعر والأديب ناصر بن جرّيد، بعد معاناة مع المرض، تاركاً إرثاً لافتاً جمع بين الموهبة والإبداع.

بدر الخريف (الرياض)

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».