في خطوةٍ قد ترسم ملامح مستقبل العلاقة بين محافظة السويداء ودمشق في ظل السلطة الجديدة، أعلنت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في أواخر شهر يوليو (تموز) الماضي عن تشكيل لجان قانونية وأمنية لإدارة شؤون المحافظة.
هذه الخطوة، التي تمثل تحولاً جذرياً في المشهد السياسي العام في جنوب سوريا، لم تأتِ من فراغ، بل كانت تتويجاً لأحداث دامية وتوترات متصاعدة شهدتها المحافظة منتصف الشهر ذاته، لتضع الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع أمام تحدٍ معقد في مسعاها لـ«توحيد سوريا» بعد «تحريرها»، في ظل سياق عام من التناقض بين روايتي المرجعيات الدرزية والحكومة التي تشير إلى أن تدخل قوات الأمن العام كان لفض النزاع بين عشائر بدوية ودروز في محاولة لردع الطرفين.

خصوصية السويداء
لمحافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، خصوصية وحساسية في بنية المجتمع السوري وتركيبته. ورغم تجنبها الدخول المباشر في أتون الحرب الأهلية طوال العقد الماضي، فإنها حافظت على حالة من الاستقلال الذاتي النسبي، رافضةً إرسال أبنائها للقتال في صفوف جيش النظام السابق.
وقد تفجرت الأوضاع الأخيرة على خلفية اشتباكات عنيفة، تباينت حولها الروايات بشكل واضح. وتشير الرواية الرسمية للحكومة السورية إلى «تدخل قوات الأمن العام لفض النزاع بين بعض العشائر البدوية والدروز، في محاولة لردع الطرفين».
إلا أن هذا التدخل زاد الأمر تعقيداً بعد سيطرة قوات الأمن والجيش السوري على بعض الأحياء داخل المدينة وعلى أطرافها، وتدخل إسرائيل مباشرة طرفاً في الأزمة من خلال غارات جوية استهدف على ما يبدو مواقع للقوات الحكومية التي قررت الانسحاب من المدينة بشكل كامل.
ومما زاد في تعقيد المشهد وفتح المجال واسعاً لمزيد من التصعيد، التباين في الروايات حول حقيقة ما جرى وسط أجواء من عدم الثقة بأي من الروايتين الحكومية والدرزية. إذ قدمت المرجعيات الدرزية رواية مغايرة تتهم فيها الحكومة بمحاولة «بسط سيطرتها على المحافظة بالقوة عبر دعم العشائر البدوية»، وتؤكد أن لديها «وثائق تدين جهات في الحكومة» في مؤشر على تجاوز الأزمة بعدها المحلي الذي يحمل صفة النزاع بين القبائل البدوية ومسلحين دروز.

مرجعيات درزية ضد دمشق
منذ سقوط النظام السوري، كان الشيخ حكمت الهجري الزعيم الأبرز للطائفة الدرزية ورأس الحربة في المعارضة للحكومة السورية. بالمقابل، كان كل من المرجعين الدرزيين حمود الحناوي ويوسف الجربوع يميلان إلى التفاهم مع دمشق ويدعوان إلى التعاون مع الحكومة، في موقف يختلف عن سياسة الهجري المعارضة للتقارب مع دمشق.
وتشكل هذه الشخصيات الثلاث المرجعيات التقليدية للطائفة الدرزية في سوريا، إذ تنتمي كل منها إلى عائلة كانت منذ عقود مركز المرجعية داخل الطائفة: آل لهجري، والحناوي، والجربوع.
لكن أحداث يوليو (تموز) الدامية أحدثت تحولاً مفاجئاً في عموم الموقف الدرزي. إذ أصدر الحناوي والجربوع، اللذان كانا أقرب للحكومة من الهجري، بيانات متزامنة رفضا فيها الحكومة وممارساتها ودعوة المجتمع الدولي للتحقيق فيما سموها «الجرائم» ووقف العنف ضد المدنيين. وبعد ساعات، خرج الهجري ببيان مصور، ليذهب أبعد من ذلك، مكرراً الاتهامات ذاتها، ومطالباً بتحقيق دولي مستقل، و«إحالة المسؤولين عن الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية، ووقف الدعم السياسي والعسكري لما وصفه بالفصائل المحيطة بالسويداء»، وفي خطوة لافتة، شكر إسرائيل على دعم موقفهم ضد الحكومة السورية.

لا رجعة إلى دمشق
توضح الخطوات العملية التي اتخذتها قيادات السويداء طبيعة المرحلة الجديدة. فتشكيل لجان إدارية وقانونية جاء لملء فراغ السلطة الذي خلفته الدولة.
في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط»، قالت صفاء جودية، الناطقة باسم اللجنة القانونية العليا في السويداء، إن تشكيل اللجان جاء نتيجة ما وصفته بـ«التخريب والتدمير الممنهج للبنى التحتية في المحافظة، وقطع الكهرباء والماء والإنترنت، فضلاً عن الحصار ومنع دخول المواد الغذائية والأدوية». وأضافت أن «غياب أصحاب القرار والفراغ الإداري المتشكل فرض ضرورة سد هذا الفراغ وإدارة القطاعات الخدمية لتخفيف وطأة الحصار الخانق»، حسب قولها.
وأكدت جودية أن مهام هذه اللجان «تتمثل في قيادة الإدارات وتسيير المرافق الخدمية لتلبية احتياجات المواطنين»، موضحة أن عملها «مدني وإسعافي ومؤقت ولا يحمل أي مشروع سياسي في الوقت الراهن».
وحول العلاقة المقطوعة مع العاصمة، أوضحت جودية أن «أهالي السويداء تعرضوا إلى جرائم إبادة جماعية وحرق منازل وسيارات ومحال تجارية وفُرض عليهم حصار خانق». وشددت على أن أي تفاهم مع دمشق «لن يُبحث قبل التعويض عن الأضرار وفك الحصار».
وفق جودية، فإن «المبادرة لاقت تأييداً واسعاً وإجماعاً لافتاً، إذ يتسابق المواطنون لتقديم الدعم والمساعدة للجان المشكلة». وعن التعاون مع كيانات سورية أخرى مثل الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، قالت إن السويداء لم تغلق الباب، مؤكدة أنه «لا خصوصية للسويداء تمنع التعاون مع أي جهة مدنية نيرة وحضارية»، مستشهدة بمحاولة الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا إرسال مساعدات منعت وصولها «حكومة الأمر الواقع» في إشارة إلى الحكومة السورية. لكنها استدركت بأن «التحالفات شأن سياسي وعسكري خارج صلاحيات اللجنة القانونية».
وخلصت إلى أن «السويداء تُدار اليوم من قبل لجنة قانونية عليا مدنية مؤقتة فرضتها الحالة الطارئة والفراغ الحكومي»، مؤكدة أن اللجنة «تسعى إلى الحفاظ على وحدة سوريا بدستور شامل يصون تلك الوحدة، بغض النظر عن التسميات أو الصيغ السياسية التي لا تدخل في صلاحياتها».

الاستقلال عن سوريا
إلا أن المشهد لا يقتصر على المسار الإداري الذي تقوده المرجعيات أو اللجان المشكلة حديثاً. فالشارع في السويداء شهد تصعيداً أكبر، حيث طالب متظاهرون في ساحة الكرامة، يوم 16 يوليو بالانفصال التام عن سوريا وإعلان الاستقلال.
وفي مشهد غير مسبوق، رفع المتظاهرون أعلام الطائفة الدرزية إلى جانب أعلام إسرائيلية، ما أثار ردود فعل غاضبة ليست فقط من الموالين للحكومة في دمشق، بل أيضاً من شخصيات معارضة، عدّت هذه الخطوة «خيانة»، مؤكدين أن الاختلاف مع الحكومة لا يعني التخلي عن الوطن أو الانفصال عنه أو الدعوة لتمزيق الوطن.
جاء رد دمشق الرسمي سريعاً وحازماً. ففي كلمة بثها التلفزيون السوري خلال لقائه بوجهاء وإعلاميين من إدلب بحضور وزراء ومسؤولين، أكد الرئيس أحمد الشرع أنّ «المجتمع السوري يرفض بشكل قاطع أي مشروع للتقسيم»، واصفاً الداعين إلى ذلك بأنهم «سياسيون جهلاء وحالمون».
وأضاف الرئيس الشرع، في تأكيد على الأولوية الجديدة لحكومته: «أسقطنا نظام الأسد في معركة تحرير سوريا وأمامنا معركة توحيدها». وشدد على أن عوامل التقسيم «غير متوافرة لدى أي طرف»، وأن البلاد لا تواجه مخاطر حقيقية للتقسيم، بل مجرد «رغبات لدى بعض الأطراف في إنشاء كانتونات محلية داخلية، وهو أمر مستحيل الحدوث».
وأشار الشرع إلى أنّ هناك قوى دولية لا تريد لسوريا أن تكون قوية، وتسعى إلى ضرب أهم ركائزها المتمثلة في وحدتها الداخلية. وقال إن «استقواء بعض الأطراف بإسرائيل أمر بالغ الصعوبة»، موضحاً أن «المنطقة الجنوبية ذات كثافة سكانية عالية، وأي عدو يحاول الدخول إليها فسيضطر إلى وضع شرطـي على باب كل بيت، وهذا أمر غير واقعي على الإطلاق».

«حذر وحكمة»
على صعيد ذي صلة، يرى محللون وباحثون أن دمشق تتعامل مع ملف السويداء بحذر وصبر وحكمة. وقال الباحث مصطفى النعيمي لـ«الشرق الأوسط» إن ما يحدث هو «محاولة عبثية للسيطرة على جزء من المحافظة خارج نطاق الدولة السورية عبر مجموعات مسلحة خارجة عن القانون تستقوي بأجندات خارجية لفرض الهيمنة وإبقاء المحافظة خارج سلطة الدولة».
وحذر النعيمي من أن هذه التحركات «ستعزز الانقسام الداخلي، ولن تقتصر تداعياتها على السويداء، بل ستطول محافظات أخرى» خاضعة لنفوذ قوات سوريا الديمقراطية والولايات المتحدة.
ويعتقد النعيمي أن «الإرادة الدولية اليوم تتجه نحو التنمية المستدامة، ما يجعل هذه المشاريع العبثية الممولة إقليمياً مرفوضة دولياً، فيما تحاول إسرائيل تصدير أزمتها الداخلية عبر تغذية بؤر التوتر في سوريا». وأشار إلى أن هذه التطورات «قد تسهم في زيادة نشاط الجماعات المسلحة خارج سلطة الدولة في منطقة الساحل السوري، خصوصاً بعد فشل محاولات الانقلاب السابقة».
وعدّ النعيمي أن «المحافظة اليوم تحت سيطرة مجموعات لا تحمل أجندة وطنية، وهو ما أدى إلى محاصرتها وإبقائها خارج سلطة الدولة، وزاد معاناة المواطنين بسبب الأزمات المركبة، من اقتصاد وإنسانية ودواء وغذاء وطاقة».
وأكد أن إدخال المساعدات الإنسانية إلى المحافظة «يثبت جدية الحكومة السورية في إيجاد حلول مستدامة ودمج السويداء في مؤسسات الدولة، رغم استمرار سيطرة بعض المجموعات المسلحة على القرار السياسي والعسكري».
تفكيك جماعات التوتر
تتبع دمشق، وفق النعيمي، «سياسة الاحتواء المتدرج لتفكيك بؤر التوتر في السويداء، وإشراك المجموعات الوطنية في مؤسسات الدولة، وهو ما تؤكده خطوات مثل لجنة ترشيح شخصيات لمجلس الشعب السوري»، مشيراً إلى أن «المشهد الراهن يتطلب إرادة محلية وإقليمية ودولية لإنهاء حالة التوتر»، ومؤكداً وجود «مؤشرات على حلول مستدامة برعاية عربية وإقليمية ودولية، تقودها الولايات المتحدة عبر مبعوثها توماس برّاك، لإشراك أهالي السويداء في عملية إعادة الإعمار وتحقيق الأمن المستدام».
ورأى النعيمي أن الحكومة «تنتهج سياسة واضحة لتفكيك هذه المجموعات تدريجياً عبر آليات أمنية واستخبارية داخلياً، ومن خلال موقع سوريا الإقليمي والدولي خارجياً، رغم أن تنفيذ الخطة قد يتطلب وقتاً أطول، لكنه المسار الأمثل لتقليل كلفة الدم السوري».
ويبقى المشهد في السويداء مفتوحاً على كل الاحتمالات، بين لجان تشبه الإدارة الذاتية تسعى لتثبيت أقدامها، وشارع درزي يطالب بالانفصال، وحكومة مركزية ترفض التنازل عن وحدة أراضيها، لتكون المحافظة الجنوبية أول اختبار حقيقي لقدرة سوريا الجديدة على لملمة جراحها وتوحيد صفوفها وتجاوز تبعات هذه الأزمة.
ويعتمد المسار القادم على مدى حكمة القيادات الدرزية المحلية في إدارة هذه الأزمة التي خلقت واقعاً جديداً يتطلب رؤية مشتركة للقوى الفاعلة والحكومة لتجاوز الأزمة التي لا يمكن من خلالها إغفال دور القوى الإقليمية والدولية التي تراقب ما يجري، كما ستكون لها بصمات في رسم مستقبل السويداء وهوية الدولة السورية لعقود قادمة.












