هل يمكن لعلاج استبدال البلازما إطالة عمر الإنسان؟

فوائدها المزعومة لم تثبت في تجارب سريرية واسعة النطاق

هل يمكن لعلاج استبدال البلازما إطالة عمر الإنسان؟
TT

هل يمكن لعلاج استبدال البلازما إطالة عمر الإنسان؟

هل يمكن لعلاج استبدال البلازما إطالة عمر الإنسان؟

عادة ما تحتاج السيارات إلى تغيير الزيت بانتظام، للحفاظ على سلاسة عمل المحرك. ويعتقد بعض المؤثرين في مجال مقاومة الشيخوخة، إلى جانب حفنة من العلماء، أن استبدال البلازما في الدم يمكن أن يؤدي وظيفة مشابهة لدى البشر، من خلال المساعدة في إبطاء وتيرة الشيخوخة البيولوجية. ويجري تقديم هذه العملية حالياً بالفعل في كثير من العيادات المتخصصة في مجال محاولات إطالة العمر، وتبلغ تكلفتها آلاف الدولارات للجلسة الواحدة.

استبدال بلازما الدم

وفي هذا الصدد، يوضح رئيس ومدير «معهد باك لأبحاث الشيخوخة»، الدكتور إريك فيردين، أن السيارة تحتاج إلى «تغيير الزيت كل ثلاثة آلاف ميل للتخلص من الشوائب»، مضيفاً أن «الدم كذلك يمكن أن تتراكم فيه جزيئات قد تكون ضارة، يمكن التخلص منها».

• تجربة محدودة. وتقدم إحدى أولى التجارب التي درست استبدال البلازما لأغراض مقاومة الشيخوخة لدى البشر، ونُشرت نتائجها الأسبوع الماضي في دورية «إيجينغ سيل» (Aging Cell)، أدلة أولية على أن هذه العملية قد تكون قادرة بالفعل على إبطاء وتيرة التدهور البيولوجي المرتبط بالتقدم في العمر، حتى لدى الأشخاص الأصحاء. وخلصت الدراسة الصغيرة، التي شارك فيها 42 شخصاً، بمتوسط عمر 65 عاماً، إلى أن الذين خضعوا للعلاج باستبدال البلازما على مدى عدة أشهر، كانت لديهم تركيزات أقل في الدم من المركبات البيولوجية التي تتراكم مع التقدم في السن، مقارنةً بالمجموعة التي لم تتلقَّ العلاج.

جدير بالذكر أن شركة «سيركيوليت هيلث»، الناشئة في مجال علاج استبدال البلازما، تولّت تمويل هذه التجربة، وشارك في الإشراف عليها، من بين آخرين، إيريك فيردين، أحد مؤسسي الشركة ورئيس مجلسها العلمي الاستشاري.

ومع ذلك، تبقى هناك شكوك لدى الكثير من العلماء الآخرين الذين يدرسون علاج استبدال البلازما. من بين هؤلاء الدكتورة كتايون فوماني، أستاذة مشاركة ومديرة الشؤون الطبية لدى بنك الدم، التابع لجامعة ألاباما في برمنغهام، إذ قالت إن الفوائد المزعومة لهذه العملية في مقاومة الشيخوخة لدى الأصحاء «لم تثبت إطلاقاً» في تجارب سريرية واسعة النطاق، مشيرةً إلى أن سحب الدم واستبدال سوائل مضافة بالبلازما قد يعرّض المرضى لمضاعفات طبية غير ضرورية من دون وجود فائدة واضحة.

• كيف تُنفّذ هذه العملية؟ يُعدّ استبدال البلازما أحد العلاجات المعروفة والمستخدمة منذ فترة طويلة لبعض اضطرابات الدم، وأمراض المناعة الذاتية، والحالات العصبية، وتجري تغطية تكلفته من قِبل التأمين الصحي، عندما يُعدّ ضرورة طبية، لكنه لا يخضع للتأمين عند الاستعانة به لأغراض مقاومة الشيخوخة.

في أثناء جلسة العلاج، يتولى مقدم الرعاية -وغالباً ما يكون ممرضاً أو فنياً مسجلاً- توصيل المريض بجهاز يسحب الدم من الجسم. ويتولى الجهاز فصل البلازما عن مكونات الدم الأخرى ويتخلص منها، ثم يستعيض عنها ببلازما من متبرع أو بسائل بديل، ثم يُعيد الدم إلى جسم المريض.

وغالباً ما يحتوي السائل البديل على مزيج من المحلول الملحي وبروتينات مثل الألبومين؛ وفي بعض الحالات، تُضاف أجسام مضادة أو أدوية لدعم الجهاز المناعي أو مكافحة أمراض معينة. وفي العادة، تستغرق كل جلسة بضع ساعات.

من جهتها، تستخدم المستشفيات والمراكز الطبية علاج استبدال البلازما لإزالة الجزيئات التي تُسرّع تفاقم المرض، مثل الأجسام المضادة التي تهاجم الجهاز العصبي لدى مرضى التصلب المتعدد. إلا أن مؤيدي استخدام هذه العملية لتحسين مستوى الصحة وإطالة العمر يرون أنه يمكن الاستعانة بها بوصفها إجراء وقائياً، لإزالة الأجسام المضادة والبروتينات الالتهابية التي قد تُسهم في الشيخوخة البيولوجية (أي تدهور الخلايا والأنسجة).

دراسات علمية

• ماذا تقول الدراسات العلمية؟ من ناحيتها، نبهت المديرة المشاركة لـ«مركز هوكسوورث للدم» في جامعة سينسيناتي، الدكتورة كارولين ألكويست، إلى أن معظم الأبحاث حول فوائد استبدال البلازما في مقاومة الشيخوخة أُجريت على الحيوانات، ما يعني أن نتائجها لا تنطبق بالضرورة على البشر.

على سبيل المثال، أظهرت دراسة أُجريت عام 2020 على فئران، أن استبدال جزء من بلازما دمها بمحلول ملحي، وألبومين -وهو بروتين يُعتقد أنه يلتصق بالجزيئات الضارة ويساعد على إزالتها- أدى إلى عكس اتجاه بعض مؤشرات الشيخوخة البيولوجية، خاصة في الدماغ والكبد والأنسجة العضلية.

حتى الآن، ركزت الأبحاث التي أُجريت على البشر، في هذا الصدد، على المرضى الذين يعانون أصلاً أمراضاً مرتبطة بالتقدم في السن. وفي تجربة شملت نحو 350 مريضاً بمرض ألزهايمر، شهد المرضى الذين خضعوا للعلاج بالبلازما على مدى نحو 14 شهراً تباطؤاً أو استقراراً في التدهور الإدراكي، مقارنةً بمن تلقوا علاجاً وهمياً. وتشير بعض الدراسات الأولية كذلك إلى أن العلاج بالبلازما قد يحسّن معدلات البقاء على قيد الحياة لدى المصابين بأمراض الكبد.

وفي تجربة شركة «سيركيوليت هيلث»، جرى حقن مجموعة من المشاركين بالألبومين كل بضعة أسابيع، ومجموعة أخرى تلقّت الحقن نفسها وأُضيفت إليها أجسام مضادة لمكافحة العدوى، في حين تلقت مجموعة ضابطة محلولاً ملحياً فقط. واستخدم الباحثون عشرات الاختبارات المرتبطة بالعمر البيولوجي لقياس دم المشاركين عدة مرات، خلال فترة البرنامج التي امتدت من ثلاثة إلى ستة أشهر. وقدّر الباحثون أن المجموعة التي تلقت الألبومين والأجسام المضادة قد انخفض عمرها البيولوجي بنحو 2.6 سنة، في حين شهدت مجموعة الألبومين فقط انخفاضاً بنحو سنة واحدة. أما من تلقّوا المحلول الملحي فقط، فقد زاد عمرهم البيولوجي عموماً خلال فترة التجربة.

• تساؤلات مفتوحة. في حين أن دراسة «سيركيوليت هيلث» مثيرة للاهتمام، وتشير إلى أن استبدال البلازما يؤثر، على ما يبدو، في تركيبة دم الأشخاص حتى بعد العملية، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه سيساعد الناس على العيش لفترة أطول أو الاستمتاع بصحة أفضل، بحسب اعتقاد الدكتور جيفري وينترز، رئيس قسم طب نقل الدم في «مايو كلينك».

وأوضح وينترز أن التجربة كانت محدودة للغاية على نحو يتعذّر معه إثبات فوائدها في مكافحة الشيخوخة. كما أنها لم تتابع الأشخاص لأكثر من بضعة أشهر. وعليه، فليس من الواضح مدة استمرار آثار استبدال البلازما.

في إطار الدراسة، افترض الباحثون أن العلاجات قد تقل فاعليتها بمرور الوقت مع تكيف الجسم مع عمليات الحقن. (لم يُظهر الأشخاص عادةً اختلافاً كبيراً في العمر البيولوجي بعد القياس الثالث، مقارنةً بمجموعة الضبط، مما يشير إلى أن تأثير العلاج قد يصل إلى نقطة استقرار ويتوقف عن إحراز تقدم).

وأخيراً، فإنه على الرغم من أن استبدال البلازما إجراء طبي آمن نسبياً، فإنه لا يخلو من مخاطر، حسبما قال وينترز، فقد يتعطّل الجهاز المستخدم في العملية، مما يؤدي إلى إتلاف خلايا الدم الحمراء وإصابة المريض بفقر الدم، من بين مخاطر أخرى. ومع أن عيادات إطالة العمر تستخدم في المقام الأول المحلول الملحي والألبومين، فإن بلازما المتبرعين قد تنقل العدوى إلى المريض.

وعليه، خلص وينترز إلى أنه «لا توجد فائدة تُذكر من استخدام استبدال البلازما لإطالة العمر، خاصةً في ظل غياب الأدلة العلمية الداعمة للفكرة».

• خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

10 أطعمة تمنحك نوماً عميقاً بلا أرق

صحتك الخضراوات الورقية والكيوي من الأغذية التي تساعد على تعزيز النوم العميق (جامعة جورج فوكس)

10 أطعمة تمنحك نوماً عميقاً بلا أرق

يمكن لنوعية الطعام الذي نتناوله قبل النوم أن يلعب دوراً حاسماً في تحسين جودة النوم ومدته، في وقت يعاني فيه ملايين الأشخاص حول العالم من قلة النوم واضطراباته.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك واقيات الشمس تُعد من أبرز وسائل الحماية من الأشعة فوق البنفسجية الضارة (جامعة كاليفورنيا)

واقٍ شمسي طبيعي مستخلص من البكتيريا

كشف فريق بحثي دولي عن مركّب طبيعي جديد مستخلص من البكتريا، يتمتع بقدرة عالية على الحماية من الأشعة فوق البنفسجية دون التسبب في آثار جانبية ضارة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي عناصر من الدفاع المدني الفلسطيني يزيلون ركام منزل في خان يونس خلال عمليات البحث عن جثامين ضحايا الحرب على غزة يوم السبت (إ.ب.أ)

انهيار مبانٍ على رؤوس قاطنيها... أحد جوانب حرب غزة القاتمة

انهار 20 مبنى ومنزلاً على الأقل بمدينة غزة في غضون 10 أيام؛ ما تسبب بوفاة ما لا يقل عن 15 فلسطينياً، بينهم أطفال ونساء.

«الشرق الأوسط» (غزة)
صحتك التصلب المتعدد هو مرض مناعي ذاتي يهاجم الجهاز العصبي المركزي (أرشيفية - رويترز)

«المواد الكيميائية الدائمة» قد تصيبك بمرض مناعي خطير

كشفت دراسة جديدة أن «المواد الكيميائية الأبدية» قد تتسبب في الإصابة بمرض خطير قد يستمر مدى الحياة وهو مرض التصلب المتعدد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك تناول كميات كبيرة من الفلفل الحار قد يؤدي إلى تهيج البروستاتا (رويترز)

دور الفلفل الحار في التهاب البروستاتا

يلعب النظام الغذائي دوراً أساسياً في الوقاية من أمراض غدة البروستاتا، أو زيادة مخاطرها، ويسهم بعض الأطعمة في التهاب أو تضخم البروستاتا، ومنها الفلفل الحار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
TT

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا

في خطوة علمية قد تغيِّر أسلوب فهمنا لسرطان البروستاتا وتشخيصه وعلاجه، كشف باحثون من معهد «آرك» وجامعة «كاليفورنيا»، ومركز «فريد هاتشينسون للسرطان» في واشنطن بالولايات المتحدة، عن منظِّم غير متوقع لمسار مستقبل الأندروجين، وهو بروتين لم يحظَ سابقاً بكثير من الاهتمام، وكان يُعتقد أنه مجرد إنزيم بسيط ضمن مسار تصنيع البروستاغلاندين (prostaglandin).

وجاء هذا الكشف الذي نُشر في مجلة «Nature Genetics» في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، نتيجة فحص شامل للجينوم باستخدام «تقنية كريسبر»، وأعاد تعريف الدور البيولوجي لبروتين «PTGES3» كما فتح الباب أمام فئة جديدة محتملة من العلاجات لسرطان البروستاتا المقاوم للعلاج الهرموني.

نافذة على بيولوجيا الورم

يعتمد سرطان البروستاتا على نشاط مفرط لمستقبِل الأندروجين، وهو بروتين ينظِّم نمو الخلايا استجابة لهرمونات الذكورة.

ولفهم الجينات التي تُبقي هذا المستقبِل نشطاً، طوَّر الباحثون نموذجاً متقدماً لخلايا سرطانية يحمل وسماً فلورياً (fluorescent tag) (هو جزيء مرتبط كيميائياً للمساعدة في اكتشاف جزيء حيوي، مثل البروتين أو الأجسام المضادة أو الأحماض الأمينية) يضيء تبعاً لكمية مستقبِل الأندروجين داخل الخلية، ما سمح بتتبُّعه بدقة لحظة بلحظة.

وبالاستفادة من «تقنية كريسبر» عطَّل العلماء آلاف الجينات واحداً تلو الآخر لاكتشاف الجينات التي يعتمد عليها مستقبِل الأندروجين ليبقى مستقراً وموجوداً داخل الخلية.

ثم جاءت النتائج لتؤكد دور جينات معروفة، مثل HOXB13 وGATA2 لكنها كشفت أيضاً مفاجأة كبيرة في PTGES3 وهو بروتين لم يكن محسوباً ضمن قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذا المسار.

* لماذا يُعد PTGES3 اكتشافاً مهماً؟ على خلاف البروتينات المماثلة له لم يكن تأثير PTGES3 مرتبطاً بوظيفته المفترضة كإنزيم. بل ظهر أنه يؤدي دوراً مزدوجاً في دعم مستقبل الأندروجين؛ إذ إنه يعمل كمرافق بروتيني Co-chaperone داخل السيتوبلازم ما يساعد على استقرار مستقبل الأندروجين ويمنع تدهوره. ويعمل أيضاً كعامل مساعد داخل النواة؛ حيث يعزز قدرة المستقبل على الارتباط بالحمض النووي وتشغيل الجينات التي تغذي نمو الورم.

وهذا الدور الثنائي يجعل هذا البروتين كأحد «محركات» سرطان البروستاتا التي تعتمد عليها الخلايا السرطانية لمواصلة النمو والانتشار.

آفاق جديدة لعلاج السرطان

• من المختبر إلى المرضى: عند تحليل بيانات مئات المرضى وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات PTGES3 يرتبط بانخفاض فعالية العلاج الهرموني، وهو مؤشر مبكر على مقاومة الورم.

وعند اختبار تعطيل هذا البروتين في فئران مصابة بسرطان البروستاتا انخفضت مستويات مستقبل الأندروجين، وتباطأ نمو الورم بشكل كبير، وهو دليل إضافي على دوره الحاسم واستحقاقه أن يكون هدفاً دوائياً جديداً.

ويقول الباحث الرئيسي لوك غيلبرت (وهو باحث رئيسي في معهد «آرك» وأستاذ مشارك في جراحة المسالك البولية في كلية الطب بجامعة «كاليفورنيا») إن هذا العمل يبرهن على قوة الفحص الجيني غير المنحاز عبر «تقنية كريسبر» وقدرتنا على اكتشاف وظائف جديدة لبروتينات ظنَّ العلماء أنهم يعرفونها جيداً.

• تطوير أدوية علاجية: تستهدف العلاجات الحالية مستقبل الأندروجين مباشرة؛ سواء بتقليل الهرمونات الذكرية أو بحجب قدرة المستقبِل على الوصول إلى الحمض النووي.

لكن النتائج الجديدة تقدِّم استراتيجية مختلفة تكمن بالتدخل في استقرار مستقبل الأندروجين نفسه، عبر التأثير على البروتينات التي تحميه وترافقه ومن ضمنها PTGES3.

ويقول الباحث الأول هاولونغ لي من مركز «فريد هاتشينسون للسرطان» وقسم علاج الأورام بالإشعاع بجامعة «كاليفورنيا»: «نتوقع أن يساعد هذا النهج في فهم عوامل نسخ أخرى مهمة في سرطانات تعتمد على الهرمونات، وليس سرطان البروستاتا فقط».

ويعمل الفريق حالياً على فهم البنية الدقيقة لتفاعل PTGES3 مع مستقبل الأندروجين، تمهيداً لتطوير أدوية تستهدف هذا الارتباط، بما في ذلك تقنيات تفكيك البروتينات مثل PROTACs التي حققت نجاحاً في تجارب سريرية لأهداف دوائية أخرى.

ويمثل اكتشاف PTGES3 كمنظم رئيسي لمستقبل الأندروجين تحولاً مهماً في فهم سرطان البروستاتا؛ خصوصاً لدى المرضى الذين يعانون من مقاومة للعلاج الهرموني.

وإلى جانب كشف آليات جديدة وراء نمو الورم يقدِّم هذا الاكتشاف مساراً واعداً لعلاجات أكثر فعالية ودقة قد تغيِّر مستقبل الرعاية للمرضى المصابين بأحد أكثر السرطانات شيوعاً بين الرجال.

إنه مثال حي على كيف يمكن لتقنيات الجينوم الحديثة -كالفحص الشامل باستخدام «كريسبر»- أن تعيد كتابة قواعد علم الأورام وتفتح آفاقاً علاجية لم تكن متاحة من قبل.


نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
TT

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025.

الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي

نحن نغرق في بحر من المحتوى المُنمّق وغير المنطقي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، كما تتحدث الكاتبة أنالي نيويتز، صاحبة عمود «هذا يُغيّر كل شيء»، عن كيفية انتشار المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عام 2025.

لا شك أن 2025 سيُذكَر بوصفه عام المحتوى المُنمّق. وهذا المصطلح الشائع يُطلق على المحتوى غير الصحيح والغريب، بل والقبيح في كثير من الأحيان، الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، وقد أفسد تقريباً كل منصة على الإنترنت... إنه يُفسد عقولنا أيضاً.

لقد تراكمت كميات هائلة من هذا المحتوى المُنمّق خلال السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن العلماء باتوا قادرين على قياس آثاره على الناس بمرور الوقت.

• نشاط دماغي أقل لدى المستخدمين. وجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأشخاص الذين يستخدمون نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مثل تلك التي تقف وراء برنامج «تشات جي بي تي»، لكتابة المقالات، يُظهرون نشاطاً دماغياً أقل بكثير من أولئك الذين لا يستخدمونها.

• آثار سلبية على الصحة النفسية. ثم هناك الآثار السلبية المحتملة على صحتنا النفسية، حيث تشير التقارير إلى أن بعض برامج الدردشة الآلية تُشجع الناس على تصديق الأوهام أو نظريات المؤامرة، بالإضافة إلى حثّهم على إيذاء أنفسهم، وأنها قد تُسبب أو تُفاقم الذهان.

• تقنية التزييف العميق. أصبحت تقنية التزييف العميق شائعة؛ ما يجعل التحقق من الحقيقة على الإنترنت أمراً مستحيلاً. ووفقاً لدراسة أجرتها «مايكروسوفت»، لا يستطيع الناس التعرف على مقاطع الفيديو التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي إلا في 62 في المائة من الحالات.

وأحدث تطبيقات شركة «اوبن ايه آي» هو «سورا» Sora، وهي منصة لمشاركة الفيديوهات تُنشأ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي - باستثناء واحد. يقوم التطبيق بمسح وجهك وإدراجك أنت وأشخاص حقيقيين آخرين في المشاهد المزيفة التي يُنشئها. وقد سخر سام ألتمان، مؤسس الشركة، من تبعات ذلك بالسماح للناس بإنشاء فيديوهات يظهر فيها المستخدم وهو يسرق وحدات معالجة الرسومات ويغني في الحمام.

• تقليل الإنتاجية. لكن ماذا عن قدرة الذكاء الاصطناعي المزعومة على جعلنا نعمل بشكل أسرع وأكثر ذكاءً؟ وفقاً لإحدى الدراسات، عندما يُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مكان العمل، فإنه يُقلل الإنتاجية، حيث أفادت 95 في المائة من المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بأنها لا تحصل على أي عائد ملحوظ على استثماراتها.

مذنب "سوان" الى يمين تجمّع من النجوم

تدمير الأرواح والوظائف

إن الفساد يُدمر الأرواح والوظائف، ويُدمر تاريخنا أيضاً. أنا أكتب كتباً عن علم الآثار، ويقلقني أن ينظر المؤرخون إلى وسائل الإعلام من تلك الحقبة ويكتشفوا زيف محتوانا، المليء بالخداع والتضليل.

إن أحد أهم أسباب تدويننا الأمور أو توثيقها بالفيديو هو ترك سجل لما كنا نفعله في فترة زمنية محددة. وعندما أكتب، آمل أن أسهم في إنشاء سجلات للمستقبل؛ حتى يتمكن الناس اللاحقون من إلقاء نظرة على حقيقتنا، بكل ما فيها من فوضى.

إن برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تُردد كلماتٍ بلا معنى؛ فهي تُنتج محتوًى لا ذكريات. ومن منظور تاريخي، يُعدّ هذا، من بعض النواحي، أسوأ من الدعاية. على الأقل، إن الدعاية من صنع البشر، ولها هدف محدد، وهي تكشف عن الكثير من سياساتنا ومشاكلنا. أما الزيف فيمحونا من سجلنا التاريخي؛ إذ يصعب استشفاف الغاية منه.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي بالفن؟ كيف سنتعامل مع عالمٍ تندر فيه الوظائف، ويتصاعد فيه العنف، ويتم فيه تجاهل علوم المناخ بشكل ممنهج؟

الحفاظ على صحة الدماغ

كيف تعلمتُ الحفاظ على صحة دماغي؟ تتحدث هيلين تومسون، كاتبة عمود في علم الأعصاب، عن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً في صحتها هذا العام.

• غذاء صحي: لقد تعلمت أن أعيش بنمط حياة صحي. كل صباح، أضيف ملعقة من الكرياتين إلى الماء، وأشربه مع الفيتامينات المتعددة، ثم أتناول بعض الزبادي العادي الغني بالبكتيريا. ويتناول أطفالي حبوب الإفطار المنزلية، ويشربون الكفير، ويحاولون التحدث بالإسبانية باستخدام تطبيق «دولينغو». وبعد توصيلهم إلى المدرسة، أغطس في بركة ماء باردة، ثم أستريح في الساونا قبل العمل. لاحقاً، أضيف دائماً ملعقة من مخلل الملفوف إلى غدائي، ولا أفوّت فرصة للمشي قليلاً في الحديقة.

حياتي الجديدة المفعمة بالرضا هي نتيجة مباشرة لقضاء عام كامل في البحث عن طرق مثبتة علمياً للحفاظ على صحة الدماغ - من تعزيز الاحتياطي المعرفي إلى تنمية ميكروبيوم صحي. الآن، وأنا أُقيّم الوضع، أرى أن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً.

• تجربة طبية. جاء أحد أبسط الدروس من جو آن مانسون في مستشفى بريغهام والنساء في ماساتشوستس، التي أرسلت إلي تفاصيل تجربة واسعة النطاق على كبار السن تُظهر أن تناول الفيتامينات المتعددة يومياً يُبطئ التدهور المعرفي بأكثر من 50 في المائة. وعندما سألت خبراء آخرين عن المكملات الغذائية، إن وُجدت، التي قد تُعزّز صحة الدماغ، برز الكرياتين في ذهني - فهو يُزود الدماغ بمصدر طاقة عندما يكون في أمس الحاجة إليه. لكن التغيير حدث في سلة مشترياتنا الأسبوعية؛ إذ أقنعتني محادثاتي مع علماء الأعصاب وخبراء التغذية بأهمية العناية المستمرة بميكروبيوم الأمعاء. لذا؛ بدأت عائلتي بتطبيق ذلك: تناول ثلاثة أنواع من الأطعمة المخمرة يومياً بناءً على نصيحة عالم الأوبئة تيم سبيكتور، والامتناع عن تناول الأطعمة فائقة المعالجة في وجبة الإفطار، والحرص على إدخال مزيج متنوع من الأطعمة الكاملة في نظامنا الغذائي.

• التواصل مع البيئة. كما أن التعرّض للبرد والحرارة يُمكن أن يُقلل من الالتهابات والتوتر، ويُعزز التواصل بين الشبكات الدماغية المسؤولة عن التحكم في العواطف واتخاذ القرارات والانتباه؛ ما قد يُفسر ارتباطها بتحسين الصحة النفسية. كما أصبح الخروج إلى الطبيعة أولويةً عائلية. فقد تعلمتُ أن البستنة تُعزز تنوع بكتيريا الأمعاء المفيدة، بينما قد يُفيد المشي في الغابات الذاكرة والإدراك، ويُساعد على الوقاية من الاكتئاب.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو سرعة ظهور النتائج. فبينما تُعدّ بعض العادات استثماراً طويل الأمد في الصحة الإدراكية، إلا أنني مقتنعة بأن عادات أخرى كان لها تأثير فوري: أطفال أكثر هدوءاً، وتحسن في التركيز، وطاقة أكبر. ربما يكون تأثيراً وهمياً، لكن هناك ما يُجدي نفعاً.

مذنبات كونية متألقة

أما شاندا بريسكود - وينشتاين، كاتبة عمود في مجلة «سبيس - تايم»، فقد قدمت ملاحظات ميدانية حول كيفية تصدّر المذنبات عناوين الأخبار في عام 2025.

• المذنب «ليمون» لقد كان عام 2025 حافلاً بالمذنبات. فقد اكتُشف المذنب ليمون Lemmon في يناير (كانون الثاني) الماضي، وظلّ حديث الساعة لمدة تسعة أشهر. كانت صور ذيل ليمون الطويل والجميل، الناتج من تسخين الشمس للمذنب، تخطف أنفاسي في كل مرة.

• المذنب «سوان». ثم كان هناك اكتشاف المذنب C/2025 R2 (سوان) في سبتمبر (أيلول)، وهو مذنب شديد السطوع لدرجة أنه حتى عندما كان قريباً من القمر في عيد «الهالوين»، كان لا يزال مرئياً بوضوح للمراقبين. وكان هناك أيضاً المذنب 3I/أطلس، الذي اشتهر بعد أن أعلن عالم فلك في جامعة هارفارد، متخصص في علم الكونيات، أنه مسبار فضائي.

إن رحلتنا مع المذنبات هذا العام ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من ردود فعل البشر تجاه الأجرام السماوية الغامضة التي تظهر في السماء. وبينما نستذكر العام الماضي، شهدنا أحداثاً كثيرة مخيفة ومُحبطة؛ ما قد يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المذنبات ربما نذرت بنهاية العالم كما نعرفه.

«إنسان دينيسوفان»

«إنسان دينيسوفان» قلب مفاهيمنا عن الإنسان القديم رأساً على عقب. وهنا يستعرض مايكل مارشال، كاتب عمود «قصة الإنسان»، أهم اكتشافات «إنسان دينيسوفان» لهذا العام.

يصادف هذا العام مرور 15 عاماً على اكتشافنا «إنسان دينيسوفان»، وهي إنسان من مجموعة من البشر القدماء الذين عاشوا في ما يُعرف اليوم بشرق آسيا قبل عشرات آلاف السنين. وقد أثار هذا الإنسان فضولي منذ ذلك الحين؛ لذا سررتُ هذا العام برؤية سلسلة من الاكتشافات المثيرة التي وسّعت فهمنا لمكان عيشهم وهويتهم.

• أدلة من جزيئات إصبع. كان «إنسان دينيسوفان» أول أشباه البشر الذين تم اكتشافهم بشكل أساسي من خلال الأدلة الجزيئية. وكانت أول أحفورة معروفة عبارة عن عظمة إصبع من كهف دينيسوفا في سيبيريا، التي كانت صغيرة جداً بحيث لا يمكن التعرف عليها من خلال شكلها، ولكنها أسفرت عن تحليل الحمض النووي في عام 2010. وأشارت النتائج الجينية إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان مجموعة شقيقة لـ«إنسان نياندرتال»، الذي عاش في أوروبا وآسيا. كما أظهرت النتائج أيضاً أنهم تزاوجوا مع الإنسان الحديث.

واليوم، يمتلك سكان بعض مناطق جنوب شرقي آسيا، مثل بابوا غينيا الجديدة والفلبين، أعلى نسب الحمض النووي لـ«إنسان دينيسوفان» في جينوماتهم.

ومنذ ذلك الحين، سعى الباحثون جاهدين للعثور على المزيد من الأمثلة على «إنسان دينيسوفان»، لكنّ هذه الجهود كانت بطيئة. ولم يظهر مثال ثانٍ إلا في عام 2019: عظم فك من كهف بايشيا كارست في شياخه على هضبة التبت.

• اكتشافات جديدة. ثم جاء عام 2025 وتدفقت الاكتشافات الجديدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، تأكد وجود «إنسان دينيسوفان» في تايوان. وأكد الباحثون هذا الاكتشاف الآن باستخدام البروتينات المحفوظة داخل الأحفورة. ثم في يونيو (حزيران) الماضي عُثر على أول وجه لإنسان، حيث وُصفت جمجمة من مدينة هاربين شمال الصين عام 2021، وسُميت نوعاً جديداً.

حتى الآن، تبدو هذه النتائج منطقية للغاية. كما أنها رسمت صورة متكاملة لـ«إنسان دينيسوفان» كإنسان ضخم البنية.

وكان الاكتشافان الآخران في عام 2025 مفاجأتين كبيرتين. ففي سبتمبر، أُعيد بناء جمجمة مهشمة من يونشيان في الصين. ويبدو أن جمجمة يونشيان 2 تعود إلى «إنسان دينيسوفان» مبكر، وهو اكتشاف مثير للاهتمام؛ نظراً لقدمها التي تبلغ نحو مليون عام. ويشير هذا إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان موجوداً مجموعةً منفصلة منذ مليون عام على الأقل، أي قبل مئات آلاف السنين مما كان يُعتقد سابقاً. كما يدل هذا على أن السلف المشترك بيننا وبين «إنسان نياندرتال»، والمعروف باسم السلف العاشر، قد عاش قبل أكثر من مليون عام.

• استخلاص جينوم من سن وحيدة. بعد شهر واحد فقط، أعلن علماء الوراثة عن ثاني جينوم عالي الجودة لـ«إنسان دينيسوفان»، والذي استُخرج من سنّ عمرها 200 ألف عام في كهف دينيسوفا. الأهم من ذلك، أن هذا الجينوم كان مختلفاً تماماً عن الجينوم الأول المُبلغ عنه، والذي كان أحدث عهداً، كما أنه كان مختلفاً عن الحمض النووي للـ«دينيسوفان» لدى البشر المعاصرين.

ويُشير هذا إلى وجود ثلاث مجموعات على الأقل من الـ«دينيسوفان»: مجموعة مبكرة، ومجموعة لاحقة، ومجموعة تزاوجت مع جنسنا البشري. هذه المجموعة الثالثة، من الناحية الأثرية، تظل لغزاً محيراً.

* مجلة «نيو ساينتست» - خدمات «تريبيون ميديا»


حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
TT

حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد

لم يعرف الطبّ، في أغلب تاريخه، كيف يرى الإنسان كاملاً، إذ كان يرى أجزاءً متناثرة من الحكاية: صورة أشعة معزولة، تحليل دم بلا سياق، تقريراً سريرياً يُقرأ سريعاً ثم يُطوى. وهكذا تفرّق الجسد إلى ملفات، وتحوّل المريض إلى أرشيف بيانات، وغابت الصورة الكاملة خلف زحمة التفاصيل.

كان ابن رشد سيصف هذا المشهد بلا تردّد: حيثما غاب الربط، تكسّرت الحقيقة. فالعِلّة لا تُفهم دون معلولها، والمرض لا يُقرأ دون سياقه، والإنسان لا يُختزل في رقم أو صورة.

الذكاء الاصطناعي التعددي

اليوم، ومع صعود ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي التعدّدي (Multimodal AI)، يقف الطبّ أمام لحظة استثنائية تُعيد للإنسان وحدته المفقودة. لم تعد الخوارزمية تكتفي بقراءة صورة أو تحليل أو نصّ منفرد، بل باتت قادرة على دمج الإشارات الحيوية، والصور الشعاعية، والسجلات السريرية، وحتى اللغة التي يصف بها المريض ألمه... لتصوغ فهماً أقرب إلى ما كان يفعله الطبيب الحكيم بالفطرة: رؤية المريض ككائن واحد، لا كمجموعة بيانات مبعثرة.

ولا ينتمي هذا التحوّل إلى الخيال العلمي، بل إلى مختبرات البحث المتقدّمة. ففي دراسة حديثة صادرة عن جامعة بنسلفانيا، نُشرت في فبراير (شباط) 2025 في مجلة «npj Digital Medicine» (الطبّ الرقمي – إحدى مجلات مجموعة «نيتشر» العلمية)، قدّم الباحثون إطاراً جديداً يسمح بدمج الصور الطبية، والسجلات السريرية، والبيانات الحيوية، والنصوص الطبية، لقراءة المريض بوصفه وحدة متكاملة لا ملفات منفصلة محفوظة في ذاكرة الحاسوب.

هنا يبدأ التحوّل الحقيقي: من طبّ يقرأ البيانات... إلى طبّ يفهم الإنسان.

• العلم الذي جمّع ما فرّقته السجلات.

تستقبل الخوارزمية الحديثة، في اللحظة نفسها، صور الأشعة، ونتائج التحاليل المخبرية، والإشارات الحيوية، والنصوص الطبية، وحتى البيانات القادمة من الساعات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء. ثم لا تكتفي بقراءتها، بل تُعيد نسجها في صورة واحدة متكاملة، أشبه بخريطة حيّة للجسد والزمن معاً.

لم يعد التشخيص تفسيراً لصورة ثابتة، بل هو فهم لمسار حياة كاملة.

وهنا تكمن القفزة: فالنظام الصحي التقليدي اعتاد العمل بمنطق «الوسيط الواحد»؛ طبيب الأشعة يرى الصورة، طبيب القلب يقرأ التخطيط، وطبيب المختبر يلاحق المؤشرات. غير أن المرض لا يحترم هذه الحدود، إذ لا يولد في عضو واحد، ولا يتقدّم في مسار منفصل، بل يعلن عن نفسه من خلال تفاعل خفي بين الإشارات.

بهذا المعنى، لا يجمع الذكاء الاصطناعي التعدّدي البيانات فحسب، بل يعيد للطب لغته الأصلية: لغة الترابط.

• من رؤية اللحظة إلى رؤية الزمن. في إحدى التجارب السريرية المتقدّمة، استطاع نموذج ذكاء اصطناعي توقّع احتمالية ظهور مرض قلبي قبل نحو ثماني سنوات من تشخيصه السريري. ولم يلتقط علامة واحدة حاسمة فقط، بل التقط شبكة دقيقة من التغيّرات الصغيرة التي تبدو — كلٌّ على حدة — بلا معنى، لكنها حين تُقرأ معاً ترسم بداية الخلل الصامت.

هنا يتغيّر جوهر الذكاء نفسه. فالخوارزمية لا تقرأ صورة آنية، ولا تحاكم رقماً معزولاً، بل تُنصت إلى الزمن وهو يعمل داخل الجسد. إنها ترى المرض بوصفه مساراً لا حادثة، وتفهم العلّة بعدّها عملية تراكم لا لحظة انفجار. وبهذا التحوّل، يتبدّل دور الطبيب: من «باحث عن المرض» إلى «قارئ للزمن».

تغير عيادة المستقبل

• إنقاذ المريض وإنقاذ الطبيب.

تشير تقارير صادرة عن «Harvard Medical School» في ديسمبر ( كانون الأول) 2025 إلى أن الطبيب يقضي أكثر من ثلاث ساعات يومياً في كتابة الملاحظات وتوثيق السجلات، وقتاً يفوق أحياناً زمن الإصغاء للمريض نفسه. وهنا لا يكون الإرهاق مهنياً فقط، بل يكون إنسانياً أيضاً. أما حين تُدمج البيانات تلقائياً داخل نموذج ذكي واحد، فسوف يتحرّر الطبيب من عبء الورق والتكرار، ويستعيد جوهر مهنته: اللقاء، الإصغاء، والفهم. فالخوارزمية تحسب وتربط، لكنها لا تعرف القلق في عين المريض، ولا التردّد في صوته. الآلة تُحلّل والإنسان يُنصت.

• كيف ستتغيّر العيادة؟ لم تعد العيادة الحديثة مجرّد مكان للفحص، بل نقطة التقاء لأنواع متعددة من الذكاء؛ حيث يعمل الذكاء الاصطناعي التعدّدي في الخلفية على دمج الصور، والتحاليل، والسجلات، والسلوك الصحي اليومي في نموذج واحد، يرافق المريض والطبيب معاً، ويُعيد تشكيل القرار الطبي من جذوره. وهكذا نلاحظ:

- اختفاء «المريض المُجزّأ».

- التشخيص يصبح تفسيراً للعلاقات.

- العلاج يصبح شخصياً بأعلى درجاته.

- انخفاضاً كبيراً في الأخطاء الطبية.

• من ورق العيادة إلى خريطة الإنسان

لا يقدّم الذكاء الاصطناعي التعدّدي تقنية جديدة فحسب، بل فلسفة مختلفة في فهم الإنسان. فالمرض لا يظهر فجأة، بل يُكتب ببطء في النوم، وفي القلب، وفي القلق، وفي تفاصيل لا يلتفت إليها أحد... قبل أن يتجسّد يوماً في صورة أشعة أو نتيجة تحليل. هنا يتحوّل سجلّ العيادة من أوراق تُملأ بعد وقوع الحدث، إلى خريطة حيّة تُقرأ قبل اكتمال القصة.

فرصة عربية يجب ألا نفوّتها

هذا التحوّل ليس ترفاً غربياً، بل فرصة عربية حقيقية، تتزامن مع تسارع التحوّل الرقمي في السعودية والإمارات وقطر، وظهور السجلات الطبية الموحّدة، ورؤى واضحة للصحة الرقمية ضمن «رؤية السعودية 2030».

إذا نجحنا في بناء نموذج عربي للذكاء الاصطناعي التعدّدي، يمكن للطب أن يقفز من التشخيص المتأخّر إلى الوقاية الاستباقية، ومن علاج المرض إلى منعه قبل أن يولد. وكما كتب ابن سينا قبل ألف عام: (أفضلُ الطبّ ما منع العلّة قبل حدوثها).

إن العنوان «حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة» — ليس توصيفاً تقنياً لابتكار جديد، بل إعلان تحوّلٍ عميق في معنى الطبّ نفسه. تحوّل يعيد للإنسان وحدته بعد أن بعثرتها السجلات، ويعيد للجسد منطقه بعد أن اختُزل في أرقام وصور. فالمرض لا يولد في عضو واحد، بل يتشكّل داخل شبكة معقّدة من الزمن والحياة والسلوك. وحين يتعلّم الذكاء الاصطناعي قراءة هذه الشبكة — لا ليحلّ محل الطبيب بل ليحرّره — يصبح القرار الطبي أكثر دقة... وأكثر رحمة في آنٍ واحد.

هنا، يستعيد الطبّ توازنه المفقود: آلةٌ تُحلّل بلا إرهاق، وطبيبٌ يُنصت بلا استعجال.

وعند هذا الحدّ الفاصل بين الحساب والحكمة، يعود الطبّ إلى جوهره الأول: معرفة الإنسان قبل معالجة المرض، ورؤية الحياة كاملة... قبل مطاردة أعراضها المتفرّقة.