التنافس بين الصين وأميركا في مجال الذكاء الاصطناعي... متعدد الأوجه

يشمل الاعتبارات الجيوسياسية والبيانات والمواهب والتنظيم والبنية التحتية التكنولوجية

التنافس بين الصين وأميركا في مجال الذكاء الاصطناعي... متعدد الأوجه
TT
20

التنافس بين الصين وأميركا في مجال الذكاء الاصطناعي... متعدد الأوجه

التنافس بين الصين وأميركا في مجال الذكاء الاصطناعي... متعدد الأوجه

في 13 مارس (آذار) الحالي، أصدرت شركة «أوبن إيه آي» مقترحاً لخطة عمل الولايات المتحدة للذكاء الاصطناعي. وأكدت في تقريرها أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة تحتل حالياً مكانة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن نجاح شركة «ديب سيك» الصينية يشير إلى أن هذه الميزة ليست بالأهمية نفسها التي تبدو عليها، وأنها تتضاءل تدريجياً، كما كتب دينغدينغ تشين، وينغفان تشين، ورونيو هوانغ *.

وتهدف خطة عمل الذكاء الاصطناعي إلى ضمان استمرار تفوق ابتكارات الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة على ابتكارات الصين، ما يضمن ريادة الولايات المتحدة في هذا المجال.

تنافس متعدد الأوجه

مع ذلك، فإن اختزال التنافس في إطار تبسيطي لـ«مَن يقود الذكاء الاصطناعي» يتجاهل التعقيدات المحيطة به. فالتنافس بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي ليس لعبة محصلتها صفر؛ بل هو تنافسٌ متعدد الأوجه ومعقد، تُشكِّله عوامل كثيرة، كالاعتبارات الجيوسياسية، والوصول إلى البيانات، والمواهب، والبيئات التنظيمية، والبنية التحتية التكنولوجية.

تصاميم ذكية متنوعة

دفعت المنافسة بين الصين والولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى منافسة أكثر تنوعاً وتميزاً. ويُجسِّد تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة الطبيعة المتطورة لهذه المنافسة. على سبيل المثال، صُمم «GPT-4.5» من «أوبن إيه آي» خصيصاً للمهام المعقدة عالية الأداء، متفوقاً في توليد النصوص المعقدة وفهمها من خلال موارد حاسوبية هائلة. يسمح هذا التخصص له بالتعامل مع المهام التي تتطلب فهماً عميقاً للغة والسياق والفروق الدقيقة.

من ناحية أخرى، يتبنى «Perceiver» من «ديب مايند» نهجاً مختلفاً؛ حيث يُقدِّم نسخة من أداة تحويلية قادرة على معالجة البيانات متعددة الوسائط -مثل الصور والأصوات والفيديو- ما يجعله متعدد الاستخدامات عبر مجموعة متنوعة من أنواع المدخلات.

أنظمة ذكية متكيفة ليست بنمط واحد مهيمن

أدى التنافس في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي بين البلدين إلى استكشاف هياكل معمارية متنوعة مُحسنة لحالات استخدام مختلفة، بدلاً من مجرد تجاوز حدود الحوسبة. تُبرز هذه المناهج الوطنية المتباينة الطبيعة الديناميكية والمتطورة لبحوث الذكاء الاصطناعي؛ حيث تظهر أساليب وتطبيقات مبتكرة. وهذا يُشير إلى أن مستقبل الذكاء الاصطناعي ستُحدده أنظمة متعددة متخصصة وقابلة للتكيف، وليست بنية معمارية واحدة مهيمنة.

التطوير المتنوع لنماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة

يزداد تنوع المشهد التقني لنماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة، ما يجعل من غير العملي إجراء مقارنات بناءً على منظور أحادي البعد فقط. يشمل نموذج الذكاء الاصطناعي مجموعة متنوعة من المجالات، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، والتعلم الآلي، والتعلم العميق، والرؤية الحاسوبية، ونماذج الذكاء الاصطناعي الهجين؛ حيث يستخدم كل منها أطراً معمارية مختلفة.

وبينما يعتمد معظم نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية الرائدة في الولايات المتحدة، مثل «ChatGPT-O3» من «OpenAI» و«Grok-3» من «xAI»، على هياكل لأدوات تحويلية، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن هذه النماذج ستستمر في الهيمنة على مستقبل تطوير الذكاء الاصطناعي.

الريادة التكنولوجية

يُظهر التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب تغير المتطلبات في مختلف القطاعات، أن الريادة التكنولوجية لا يمكن تحديدها فقط من خلال التفوق الحالي لأي بنية معمارية واحدة؛ بل سيُشكل مستقبل الذكاء الاصطناعي مجموعة من النماذج المتخصصة التي يُعالج كل منها مهامَّ ومتطلبات فريدة.

ابتكارات لنظم ذكية متنوعة

تعمل شركات التكنولوجيا في كل من الصين والولايات المتحدة باستمرار على ابتكار نماذج الذكاء الاصطناعي وتحسينها، مُصدرة منتجات واسعة النطاق ذات تطبيقات مُتنوعة ومزايا مُتميزة. على سبيل المثال، يُعزز نظام «Claude 3.5 Sonnet» من «أنثروبيك» قدرات التفكير البصري من خلال تحسين قدرة الذكاء الاصطناعي على نسخ النصوص من صور غير مُكتملة أو مُشوشة، ما يُمثل تقدماً كبيراً في مجال الذكاء الاصطناعي مُتعدد الوسائط. وبالمثل، يُجسد استخدام «DeepSeek» نموذج «MoE» (مزيج الخبراء) مفتوح المصدر، كيفية تعزيز الكفاءة من خلال تخصيص الموارد ديناميكياً للخبراء المُتخصصين في مهام مُحددة، ما يُحسِّن كلاً من استخدام الموارد وأداء المهام.

من ناحية أخرى، يُمثل نموذج «Hunyuan Turbo S» من «تنسنت» نهجاً مختلفاً؛ إذ يستفيد من بنية «Hybrid Mamba Transformer» لتحقيق التوازن بين التفكير السريع والسطحي والتفكير البطيء والمدروس، ما يُحقق مرونة فريدة في صنع القرار.

تُوضح هذه الأمثلة اتساع نطاق النهج الذي يتبعه مطورو الذكاء الاصطناعي؛ حيث يُمثل كل نموذج آفاقاً جديدة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من تفوق هذه النماذج في مجالات مختلفة، فإنها لا تستبعد بعضها بعضاً؛ بل تعكس مشهداً سريع التطور؛ حيث تُحرك الابتكارات اتجاهات معمارية متعددة ومتباينة.

فرص التعاون بين الصين والولايات المتحدة

للحفاظ على هيمنتها في مجال الذكاء الاصطناعي، شددت الولايات المتحدة ضوابط التصدير، وقيدت تعاونها مع الصين. في يناير (كانون الثاني) 2025، قدَّم مكتب الصناعة والأمن Bureau of Industry and Security» (BIS)» إطار عمل لنشر الذكاء الاصطناعي، ما حدَّ من وصول الصين إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي الأميركية المتقدمة، بما في ذلك الرقائق المتطورة، والحوسبة السحابية.

ومع ذلك، يتجاهل هذا النهج الفوائد المحتملة للتعاون؛ إذ تتمتع كلتا الدولتين بنقاط قوة فريدة، ويمكن للتعاون أن يدفع عجلة الابتكار في البحث والأمن ومعايير الذكاء الاصطناعي العالمية، ما يعود بالنفع في نهاية المطاف على منظومة الذكاء الاصطناعي الأوسع.

تدفق متبادل للمواهب في الذكاء الاصطناعي

هناك تدفق كبير للمواهب في مجال الذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة، مع درجة عالية من التكامل العابر للحدود في بحوث الذكاء الاصطناعي.

وقد وجدت بدور الشبلي وآخرون، من خلال تحليل مجموعات بيانات لأكثر من 350 ألف عالم ذكاء اصطناعي، و5 ملايين ورقة بحثية في هذا المجال، أن معظم علماء الذكاء الاصطناعي المهاجرين إلى الصين يأتون من الولايات المتحدة، بينما يأتي معظم المهاجرين إلى الولايات المتحدة من الصين، ما يُبرز بوضوح التدفق الثنائي للكفاءات.

بحوث صينية- أميركية مشتركة

إضافة إلى ذلك، ورغم وجود اتجاه تنازلي، فلا تزال الأدبيات العلمية حول بحوث الذكاء الاصطناعي الناتجة عن التعاون الصيني الأميركي، تتفوق بشكل ملحوظ على مثيلاتها الناتجة عن تعاون الولايات المتحدة مع دول أخرى.

ووفقاً لقاعدة بيانات أنشأتها جامعة جورجتاون؛ بلغ عدد المقالات المشتركة بين الصين والولايات المتحدة 47715 مقالاً، وهو رقم أعلى بكثير من ثاني أكبر متعاون، المملكة المتحدة، التي بلغ عدد المقالات المشتركة معها 18400 مقال. كما أظهرت الدراسات أن أوراق البحوث التي تتضمن تعاوناً بين الولايات المتحدة والصين تميل إلى أن يكون لها تأثير أكبر من تلك التي تقودها دولة واحدة بمفردها.

ومع ذلك، اتخذت الحكومة الأميركية خطوات للحد من تبادل المواهب والتعاون بين البلدين، ولا سيما في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي. وقد طُرح أخيراً مشروع قانون يُسمَّى «قانون إيقاف تأشيرات الحزب الشيوعي الصيني»، ويهدف إلى استبعاد الطلاب الصينيين من المشاركة في المشاريع الأكاديمية الأميركية. وتُهدد هذه الإجراءات بإلحاق الضرر ببيئة التعاون بين الولايات المتحدة والصين في مختلف مجالات البحث والابتكار.

من ناحية أخرى، هناك إمكانات كبيرة للتعاون بين شركات الذكاء الاصطناعي الصينية والأميركية، ولا سيما في مجالات مثل الأمن والحوكمة والمعايير التكنولوجية الدولية.

ابتكارات صينية متميزة

ومع التقدم السريع لنماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة في الصين، فإنها تُضيِّق الفجوة بشكل متزايد مع تلك التي تقودها الشركات الأميركية. على سبيل المثال، أظهر الإصدار الأخير من «Ernie 4.5» من «Baidu» قدرات رائعة في فهم الوسائط المتعددة ومعالجة اللغات، بينما يُمكِّن برنامج «Hunyuan 3D-2.0» مفتوح المصدر من «Tencent» الذي أُطلق في 18 مارس، من تحويل النصوص والصور إلى نماذج ثلاثية الأبعاد، ما يُمثل تقدماً ملحوظاً في المحتوى المُولَّد بالذكاء الاصطناعي (AIGC).

علاوة على ذلك، يُبرز التعاون المستمر بين شركات الذكاء الاصطناعي الصينية والأميركية إمكانات التآزر التكنولوجي.

وأخيراً، دخلت شركة «أبل» في شراكة مع «علي بابا» لتطوير ميزات متقدمة للذكاء الاصطناعي، بينما تستكشف «فورد» دمج نماذج الذكاء الاصطناعي في تصميم السيارات، بما في ذلك نماذج من شركتي «أوبن إيه آي» و«أنثروبيك» الأميركيتين، و«ديب سيك» الصينية. تساعد نماذج الذكاء الاصطناعي هذه في أتمتة مهام، مثل إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد من الرسومات، وإجراء تحليلات الإجهاد على مكونات السيارة، مما يُقلل بشكل كبير من أوقات المحاكاة والاختبار.

التنافس: تحدٍّ متعدد الأبعاد وتعاوني

في الختام، بينما يُصوَّر التنافس بين الصين والولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي غالباً على أنه تنافس على الهيمنة العالمية، فإنه في الواقع تحدٍّ متعدد الأبعاد وتعاوني.

وتدفع كلتا الدولتين عجلة الابتكار التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي قُدماً، وبدلاً من مجرد التنافس، تتوفر لهما فرص كثيرة للتعاون. ومن خلال التركيز على الأهداف المشتركة في سلامة الذكاء الاصطناعي والحوكمة والابتكار، لا تستطيع الولايات المتحدة والصين فقط تطوير أجنداتهما التكنولوجية الخاصة؛ بل تُسهمان أيضاً في تشكيل مشهد عالمي مسؤول ومبتكر للذكاء الاصطناعي.

* «ذا دبلومات»، خدمات «تريبيون ميديا».


مقالات ذات صلة

«من فضلك» و«شكراً»... التعامل بلباقة مع «تشات جي بي» يُكلّف الشركة ملايين الدولارات

تكنولوجيا شعار تطبيق «تشات جي بي تي» يظهر على شاشة هاتف جوال (د.ب.أ)

«من فضلك» و«شكراً»... التعامل بلباقة مع «تشات جي بي» يُكلّف الشركة ملايين الدولارات

اعترف سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، بأن المجاملات البسيطة، مثل قول: «من فضلك» و«شكراً» لروبوت «تشات جي بي تي» التابع لشركته، مكلفة بشكل ضخم.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تكنولوجيا التطبيقات قد تستخدم صور الوجه في تقنيات التعرف البيومتري دون علم المستخدمين (كاسبرسكي)

احذر قبل المشاركة... تريندات «دُمَى الذكاء الاصطناعي» متعة أم تهديد للخصوصية؟

تحذِّر «كاسبرسكي» من مخاطر مشاركة الصور والمعلومات الشخصية عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي الترفيهي، لما قد تسببه من انتهاك للخصوصية وسرقة الهوية.

نسيم رمضان (سان فرنسيسكو - الولايات المتحدة)
تكنولوجيا رافق الروبوتات مدربون من البشر وكان على بعضهم دعم الآلات جسدياً أثناء السباق (رويترز) play-circle

عبر الروبوتات والمسيّرات... الذكاء الاصطناعي يعيد رسم ملامح الحياة اليومية في الصين

الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد خطوط برمجية غير مرئية، بل صار يتجسد في آلات تسير، تطهو، تراقب وتغني -مرحباً بمرحلة «الذكاء الاصطناعي المجسّد».

الاقتصاد تظهر صفحة بحث «غوغل» من خلال عدسة مكبرة في هذه الصورة التوضيحية (رويترز)

وزارة العدل الأميركية تقاضي «غوغل» لإجبارها على بيع متصفح «كروم»

تواجه شركة «غوغل»، التابعة لشركة «ألفابت»، محاكمة تاريخية يوم الاثنين، حيث تسعى وزارة العدل الأميركية إلى إجبار عملاق التكنولوجيا على بيع متصفح «كروم».

«الشرق الأوسط» (كاليفورنيا )
خاص الرؤية المستقبلية لـ«غوغل» ترتكز على تعدد الوسائط وتعاون العوامل الذكية وديمقراطية بناء حلول الذكاء الاصطناعي (شاترستوك)

خاص ما بعد النماذج الضخمة... «غوغل» تمهّد لعصر الذكاء التعاوني متعدد الوسائط

«غوغل» تكشف في «كلاود نكست 2025» عن تحول الذكاء الاصطناعي من النماذج إلى الإنتاج، مؤكدة أن العوامل الذكية تقود مستقبل الأعمال والابتكار.

نسيم رمضان (لاس فيغاس)

التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟

التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟
TT
20

التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟

التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟

سواء كنتَ على دراية بأعمال الفيلسوف فريدريك نيتشه أو كنت من معجبي المغنية كيلي كلاركسون، فربما سمعت على الأرجح عبارة «ما لا يقتلك يجعلك أقوى What doesn’t kill you makes you stronger». وعلى الرغم من أن هذه العبارة تبدو كأنها تشجيع على المثابرة في الأوقات الصعبة، فإنها صحيحة علمياً أيضاً، كما يقول جيف كراسنو، مؤلّف كتاب «التوتر الجيد»: «الفوائد الصحية للقيام بالأشياء الصعبة».

التوتر الجيد: التحديات تعزز المرونة والرفاهية

يقول كراسنو: «إن التوتر، سواء كان ناتجاً عن تحديات جسدية مثل الغطس في حمامات الثلج أو الضغوط النفسية مثل تلك التي تحصل في أثناء المحادثات الصعبة، يعزز المرونة والرفاهية على المدى الطويل. المفتاح في ذلك يكمن في التفريق بين التوتر الجيد والتوتر السيئ واستخدام الأول لصالحك». لفهم الفرق بين التوتر الجيد والسيئ، يقدم كراسنو هذا المثال: «إذا كنت تتنزه سيراً على الأقدام وصادفت أفعى مجلجلة على الطريق، فمن المحتمل أن يكون لديك استجابة للتوتر الناشئ تلبي الضرورة البيولوجية للبقاء على قيد الحياة». ويقول: «المشكلة في التوتر المعاصر بالنسبة إلى الكثير من الناس هي أن الأفعى المجلجلة لا تفارق الطريق أبداً».

التوتر السيئ مقابل التوتر الجيد

يعيش كثير منَّا في حالة من «الاِحْتِداد المزمن» الذي يشمل المشقة الشخصية، والإرهاق في العمل، والصدمات السابقة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعمل على مدار 24 ساعة المصممة لإبقاء الناس في حالة من اختطاف اللوزة الدماغية.

يقول كراسنو: «نحن نعيش في اقتصاد قائم على جذب الانتباه، حيث يتنافس الجميع على خطف تركيزك في كل لحظة من خلال مستويات متزايدة من الإثارة والفضائح والخوف والغضب. وهذا يُبقي الناس في حالة من التوتر المزمن، وهذا في الحقيقة الوقت الذي يكون فيه التوتر سيئاً حقاً».

التوتر الجيد نابع من مشقّات الأسلاف

من ناحية أخرى، ينبع التوتر الجيد من المضايقات التي عانى منها أسلافنا. يقول كراسنو: «لقد تطورنا على مدى مئات الآلاف من السنين كإنسان عاقل بعلاقة مع التوتر في العصر الحجري القديم، مثل ندرة السعرات الحرارية، والتقلبات في درجات الحرارة، والانغماس في الطبيعة، والعيش المشترك، والتعرض للضوء». ثم يضيف فيقول: «لقد شكلت آليات التكيف مع هذه الأشكال من التوتر مسارات فسيولوجية في الجسم عززت طول العمر والقدرة على الصمود». ويقول كراسنو إن المشكلة تكمن في أننا جرَّدنا الحياة من أغلب مسببات التوتر والضغوط التي كانت سائدة في العصر الحجري القديم. على سبيل المثال، لدى الكثير منّا إمدادات لا نهائية من السعرات الحرارية تحت تصرفنا. ونقضي معظم أوقاتنا في حالة من الخمول بصفة عامة داخل بيئات منظمة لدرجة الحرارة، بعيداً عن الطبيعة. ونعتمد على الإضاءة الاصطناعية، مما قد يؤثر على النوم».

عواقب التخلص من التوتر الجيد

إن التخلص من التوتر الجيد لصالح الراحة كانت له عواقب، ويقول كراسنو إن الانتشار المتزايد للأمراض المزمنة ناتج عن السهولة والراحة المزمنة. ويضيف: «لقد خدعنا أنفسنا بالاعتقاد أننا نستطيع الوجود كأفراد منفصلين في منازلنا ذات الأسرّة الواحدة، ونطلب احتياجاتنا من الخدمات طوال اليوم». ثم تابع يقول: «منذ الثورة الصناعية، التي تسارعت وتيرتها بشكل خاص في السنوات الخمسين الماضية، صممنا نمط حياتنا من أجل مزيد من الراحة والسهولة والرفاهية».

استحداث التوتر الجيد

وازِنْ التوتر السيئ بإدخال التوتر الجيد بالقدر المناسب. قال الطبيب السويسري باراسيلسوس في أوائل القرن السادس عشر: «الجرعة وحدها هي التي تسبب قوة السم». ويقول كراسنو إن الجرعة الصحيحة من الانزعاج الذي يفرضه المرء على نفسه، مثل الأنشطة الشاقة وتنظيم درجة الحرارة، يمكن أن تجعلك أقوى. ولكن من المهم أن تبدأ ببطء». ويضيف كراسنو: «لا أنصح أبداً أي شخص لم يسبق له أن غطس في الثلج من قبل أن يدخل حماماً ثلجياً لأول مرة. ادخل في حمام ثلج بدرجة قليلة لترى كيف يكون شعورك. ابحث عن حدود الانزعاج الذي تشعر به وانغمس فيه وكن فضولياً بشأن ما يوجد على الجانب الآخر منه، لأنه أمر جيد للغاية بشكل عام».

استحداث التوتر الاجتماعي

ويدعو كراسنو أيضاً إلى الميل إلى التوتر الاجتماعي، ويقول: «أسميه الغوص في الحمام الثلجي للمحادثات الصعبة والمجهدة، وأن نصبح أكثر ارتياحاً حيال انزعاجنا ولو بدرجة بسيطة، حتى نتمكن من التخلص من الكثير من العلل».

وبصفته مقدم بودكاست «كوميون»، حيث يتحدث عن الصحة والعافية، يصادف كراسنو بانتظام أشخاصاً لا يتفقون مع وجهات نظره، ويرسلون إليه رسائل إلكترونية أو يعلقون على منشوراته. وبدلاً من تجاهلهم أو عدم موافقتهم علناً، يدعوهم إلى المشاركة في مكالمة عبر تطبيق «زووم». وأغلبهم يتهرب منه، لكن بعضهم يقبل المكالمة. لقد تمكن من خلق بيئة آمنة، وتصرف بأدب جم وانفتاح وفضول.

الانزعاج.. عن طريق الانفتاح الذهني

يقول كراسنو: «نحن نبني جهازنا المناعي الفسيولوجي من خلال التعرض منخفض الدرجة لمسببات الأمراض والفيروسات والبكتيريا. وقد تمكنت من خلال إجراء هذه المحادثات من بناء ما أسميه جهاز المناعة النفسي».

وبالإضافة إلى ذلك، كما يقول، فإنها تمرين على التواصل والاستماع النشط والانفتاح الذهني، وأتاحت فرصة للنمو الشخصي. ويوضح قائلاً: «لقد عززت آرائي الخاصة، لأنني اضطررت وللمرة الأولى إلى التفكير في أفضل جوانب الرأي المعارض».

يحصر الناس أنفسهم داخل القصة التي يروونها لأنفسهم عن أنفسهم، لكن كراسنو يقول إن التغيير ممكن إذا كنت على استعداد للميل إلى عدم الراحة.

ويضيف: «بمجرد أن تدرك بالفعل عدم الاستمرارية لديك، يمكنك أن تتحكم في مسار حياتك، وأنَّ تقبُّل الانزعاج سوف يُغيّر مسار حياتك. فالبشر مجرد عملية وليسوا منتجاً. نحن نتحرك بشكل ديناميكي عبر هذا الطيف من الكمال إلى المرض والكوارث. ويمكنك كذلك التحرك نحو الكمال كعملية أيضاً. فلديك القدرة على التحكم في مسار تلك الرحلة».

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».