عصر نووي جديد... أوروبا خارج «المظلة» الأميركية

القارة العجوز تستعد لسيناريوهات لم تعهدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال قمة «الناتو» ببريطانيا في 4 ديسمبر 2019 (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال قمة «الناتو» ببريطانيا في 4 ديسمبر 2019 (أ.ب)
TT
20

عصر نووي جديد... أوروبا خارج «المظلة» الأميركية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال قمة «الناتو» ببريطانيا في 4 ديسمبر 2019 (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال قمة «الناتو» ببريطانيا في 4 ديسمبر 2019 (أ.ب)

يمر الإنسان عادةً، كما الأمم، بعد المعاناة من الصدمة (Trauma) بأربع مراحل هي: النكران، واللعنة، والقبول، وأخيراً الوعد بالخروج منها. وكلما سُرّعت عملية الخروج من النكران إلى القبول كانت المعاناة أقلّ. تمرّ أوروبا اليوم بالصدمة الأهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فمَن دافع عنها، ومَن وضعها تحت جناحه النووي الحامي، يبدو كأنه تخلّى عنها فجأة، حتى ولو كان هناك مَن توقّع أن يحصل ذلك في يوم ما.

يأتي التلويح الأميركيّ بإمكان رفع الحماية النووية عن أوروبا في وقت لا تبدو القارة العجوز جاهزة لذلك، خصوصاً أن ما يُفرّق الأوروبيين أكثر بكثير مما يجمعهم. تفرّقهم الجغرافيا، كما الطوبوغرافيا. أيضاً يفرّقهم التاريخ، كما تفرقهم القوميّات. هم أمم ودول في قارة واحدة. وأميركا أمم متعدّدة في بلد واحد موحّد بمستوى قارة.

يرى كثيرون في القارة الأوروبية أن المصداقيّة الأميركيّة سقطت، وما على أوروبا إلا أن تستعد لسيناريوهات لم تعهدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

مشهد عام لاجتماع «الناتو» (أ.ب)
مشهد عام لاجتماع «الناتو» (أ.ب)

لماذا الآن؟

اعتمدت الاستراتيجية الأميركية الكبرى خلال الحرب الباردة على الردع النوويّ، كما على احتواء العالم الشيوعيّ. لا يزال السلاح النووي رادعاً، لكن الاحتواء سقط ولم يعد، كما سقطت معه الشيوعيّة. وإذا كانت الحرب الباردة قد ارتكزت على صراع ثنائيّة الآيديولوجيات (الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية)، فإن عالم اليوم يعاني من كثرة الآيديولوجيات، منها العلماني ومنها الدينيّ. من بين هذه الآيديولوجيات تبرز تلك التي ترفع شعار «أميركا أولاً»، أو تلك التي تقول «الاشتراكية الصينية بخصائص صينيّة لجعل الصين عظيمة مجدداً»، وأخيراً وليس آخراً الآيديولوجيا التي تنادي بعودة «روسيا مجدداً إلى مصاف القوى العظمى وبالقوة العسكريّة».

ارتكزت الاستراتيجية الأميركية العسكريّة الكبرى في بعض الحالات، خلال الحرب الباردة أو بعدها، على التخطيط، وتأمين الوسائل اللازمة لإمكانية خوض حربين على مسرحين مختلفين حول العالم، وفي الوقت نفسه، والانتصار فيهما. تبدّلت هذه الاستراتيجية مع كل من الرئيسين، باراك أوباما ودونالد ترمب، وبدأ العسكر الأميركي التحضير لسيناريو حرب واحدة على مسرح واحد... والانتصار فيها بالطبع.

وهنا قد يتظهّر المسرح المقصود والمُرتقب استناداً إلى مواقف الرئيس ترمب، ألا وهو المسرح الصينيّ. بكلام آخر، تبدو المتطلبات الأمنيّة من الولايات المتحدة، خصوصاً من الحلفاء وهم كُثر، أكبر بكثير من قدراتها. ومن هنا يمكن فهم تصرّف ترمب مع الحلفاء، خصوصاً في أوروبا. فالتحالف، بالنسبة إليه، يقوم على المشاركة والمساهمة في التكلفة الاستراتيجيّة، ومن يصرف أكثر، يجب أن ينال الحصة الكبرى من الأرباح.

الغواصة النووية الفرنسية «تورفيل» خلال توقفها في مرفأ قرب هاليفاكس بنوفا سكوتيا (كندا) يوم 16 مارس الحالي (وزارة الخارجية الفرنسية - رويترز)
الغواصة النووية الفرنسية «تورفيل» خلال توقفها في مرفأ قرب هاليفاكس بنوفا سكوتيا (كندا) يوم 16 مارس الحالي (وزارة الخارجية الفرنسية - رويترز)

الردع النوويّ

يقول المفكّر الأميركي الراحل كينيث والتز: «كلما كان هناك مزيد من السلاح النووي، كان (ذلك) أفضل للاستقرار». وإذا تأكّد فعلاً نزع المظلّة النووية الأميركيّة عن أوروبا، فما البديل؟

قدّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون النووي الفرنسي بديلاً للمظلة الأميركية، معتبراً أن روسيا أصبحت تشكّل خطراً داهماً على الأوروبيين. أتى الردّ الروسي سريعاً بتذكيره بحروب نابليون على روسيا وكيف انتهت باحتلال مقاتلي الكوزاك السلاف العاصمة باريس عام 1814. لكنَّ حروب نابليون على روسيا، تختلف بظروفها بشكل كامل عن صراع اليوم. في ذلك الوقت كان «الجيش الكبير» الفرنسي بمثابة السلاح النووي في عام 1812، (Grande Armee). كما شكّل تكتيك نابليون القتاليّ العسكري ثورة في الشؤون العسكريّة. قام هذا التكتيك على اعتماد مبدأ «سير القوى العسكريّة مشتّتة، والتلاقي على نقطة الحسم الأساسيّة حيث مركز ثقل العدو». شكّل العمق الجغرافيّ الروسي، كـ«الجنرال ثلج»، والأوبئة... العامل القاتل للجيش الفرنسي الكبير.

لم يعد العمق الجغرافيّ، ولا عامل الطقس، عاملين مهمين كما كانا مع القدرة التدميريّة للسلاح النوويّ، حتى ولو قال مرّة الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ لأحد زائريه اليوغوسلاف عام 1957: «لدينا أراضٍ واسعة، ولدينا عدد سكاني ضخم، فحتى لو قتلوا 300 مليون نسمة منّا، فهل ستنتهي الحرب؟». في هذا الإطار، تتمتع روسيا بالعمق الجغرافي، لكن ليس لديها العمق الديمغرافيّ. في المقابل، تفتقر فرنسا إلى العمق الجغرافيّ، وحالة الديمغرافيا فيها ليست واعدة. فماذا عن القدرة النوويّة الفرنسيّة - البريطانية؟

عَلم حلف «الناتو» (رويترز)
عَلم حلف «الناتو» (رويترز)

لا تزيد الترسانة النووية الفرنسية - البريطانية مجتمعةً على 515 رأساً نوويّاً. تعمل الترسانة البريطانية ضمن حلف «الناتو». أما الترسانة الفرنسيّة فهي فرنسيّة بحتة، أي من خارج هذا الحلف، وتقوم على عقيدة دفاعيّة، ترتكز بدورها على قدرة الإطلاق من البحر والجوّ. في المقابل، تملك روسيا نحو 5889 رأساً نوويّاً، ضمنها نحو 2000 رأس نووي تكتيكي. أما ترسانة الولايات المتحدة، فهي تقدّر بـ5244 رأساً نوويّاً، منها نحو 1700 رأس تنتشر في مواقع محددة، أغلبها في أوروبا وكلها تُطلق من الجوّ.

مظلة نووية أوروبية.. تساؤلات

لم تقرر الولايات المتحدة حتى اليوم نزع المظلّة النوويّة عن أوروبا. لكن النقاش حول مرحلة ما بعد المظلّة الأميركيّة فُتح فعلاً. لم يثق الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول بعزم أميركا على المخاطرة بعاصمتها واشنطن من أجل باريس، ومن هنا بنى «القوة النوويّة الفرنسيّة الضاربة». فلماذا ستثق أوروبا اليوم بفرنسا على أنها ستضحّي بباريس من أجل الدفاع عن برلين؟ وإذا ما سُلّم جدلاً بأن أوروبا قبلت بالمظلّة النوويّة الفرنسيّة -البريطانية، فهل تكفي هذه المظلة لكل القارة في ظل الخلل في موازين القوى النووية لصالح روسيا؟ وهل يمكن فعلاً التعويض عن المظلة النوويّة الأميركيّة، خصوصاً عندما يقول خبراء إن فرنسا تحتاج إلى عقد من الزمن إذا أرادت زيادة 100 رأس نووية إلى ترسانتها الحالية؟

وإذا تمت الموافقة الأوروبيّة على اعتماد المظلّة النوويّة الجديدة، فماذا عن الوقائع السياسيّة الداخلية في كل بلد معنيّ بالأمر؟ ألا يتطلّب هذا التحوّل موافقات من برلمانات البلدان المعنيّة؟ لكنَّ الأسئلة الأخطر والأهم قد تكون على الشكل التاليّ: كيف سيكون مستقبل حلف «الناتو»، وما دور أميركا فيه، خصوصاً من الناحية النوويّة؟ وماذا عن البند الخامس من بنود الحلف، وهو البند الذي ينص على أن الاعتداء العسكري على دولة في الحلف يُعد اعتداءً على جميع الأعضاء ويتطلب رداً؟ وماذا عن العقيدة النوويّة الجديدة للحلف، وكيف ستعوّض هذه العقيدة الخلل في موازين القوى النووية مع روسيا، وبشكل يخلق رادعاً لموسكو؟ أين سيوضع السلاح النووي؟ ومن المسؤول عنه؟ مَن يعطي أمر استعماله؟ وفي أيّ ظروف مصيريّة؟ وضدّ أيّ أهداف روسيّة؟ وكيف ستتم المواءمة الأوروبيّة بين السلاحين النوويّ والتقليديّ؟

يبدو من المستحيل الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة الآن. لكن الأكيد أن أميركا تغيّرت، وأن أوروبا ستتغيّر حتماً. فقد بات يقيناً اليوم أنه عندما تتحرّك أميركا يتحرك العالم معها.

حقائق

الأسلحة النووية بالأرقام

لا تزيد الترسانة النووية الفرنسية - البريطانية مجتمعةً على 515 رأساً نوويّاً. في المقابل، تملك روسيا نحو 5889 رأساً نوويّاً، ضمنها نحو 2000 رأس نووي تكتيكي. أما ترسانة الولايات المتحدة فتقدَّر بـ5244 رأساً نوويّاً.


مقالات ذات صلة

أزمة جديدة بين تركيا واليونان تعرقل أجندة إيجابية لحل الخلافات العالقة

شؤون إقليمية جنود يونانيون رددوا هتافات تحمل إهانات لتركيا خلال عرض عسكري في أثينا بمناسبة يوم الاستقلال (رويترز)

أزمة جديدة بين تركيا واليونان تعرقل أجندة إيجابية لحل الخلافات العالقة

طفت أزمة جديدة على السطح بين تركيا واليونان على خلفية ترديد جنود يونانيين هتافات تحمل إهانات لتركيا في عرض عسكري بأثينا خلال احتفالات يوم الاستقلال.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
العالم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته يتحدث خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء البولندي بعد اجتماعهما في وارسو... بولندا 26 مارس 2025 (أ.ف.ب)

أمين عام «الناتو»: لا يزال بوسعنا الوثوق بالأميركيين بعد تسريبات «سيغنال»

قال مارك روته الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، اليوم الأربعاء، إن أوروبا لا تزال تستطيع الوثوق بالإدارة الأميركية بعد تسريبات «سيغنال».

«الشرق الأوسط» (وارسو)
العالم جنود يرفعون العلمين الليتواني والأميركي خلال حفل افتتاح معسكر «هيركوس» التابع للجيش الأميركي في بابراد بليتوانيا يوم 30 أغسطس 2021 (رويترز)

مقتل 4 جنود أميركيين خلال تدريبات في ليتوانيا

قال مارك روته، الأمين العام لـ«حلف شمال الأطلسي (ناتو)» خلال زيارته وارسو، اليوم الأربعاء، إن 4 جنود أميركيين قُتلوا في ليتوانيا خلال تدريب.

«الشرق الأوسط» (فيلنيوس)
أوروبا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته (أ.ف.ب)

أمين عام «الناتو» يُحذّر روسيا من رد فعل «مدمر» إذا هاجمت بولندا

حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مارك روته، اليوم (الأربعاء)، روسيا من أن الحلف سيقف دائماً إلى جانب بولندا أو أي عضو آخر في الحلف.

«الشرق الأوسط» (وارسو )
الولايات المتحدة​ جانب من مناورات الناتو في ألمانيا الشهر الحالي (إ.ب.أ)

إعلام أميركي: إدارة ترمب تدرس التخلي عن قيادة الناتو

من الممكن أيضا دمج خمس من أصل 11 قيادة عسكرية تابعة للجيش الأميركي بموجب الخطة التي تخضع للدراسة، وذلك بهدف تقليص النفقات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

السناتور الأميركي ساندرز يسعى لتصويت في مجلس الشيوخ لمنع بيع أسلحة لإسرائيل

السناتور الأميركي بيرني ساندرز متجها إلى مكتبه في الكابيتول اليوم (أ.ف.ب)
السناتور الأميركي بيرني ساندرز متجها إلى مكتبه في الكابيتول اليوم (أ.ف.ب)
TT
20

السناتور الأميركي ساندرز يسعى لتصويت في مجلس الشيوخ لمنع بيع أسلحة لإسرائيل

السناتور الأميركي بيرني ساندرز متجها إلى مكتبه في الكابيتول اليوم (أ.ف.ب)
السناتور الأميركي بيرني ساندرز متجها إلى مكتبه في الكابيتول اليوم (أ.ف.ب)

قال السناتور الأميركي بيرني ساندرز اليوم الخميس إنه سيسعى لإجراء تصويت في مجلس الشيوخ الأسبوع المقبل على قرارات من شأنها منع مبيعات أسلحة بقيمة 8.8 مليار دولار لإسرائيل، مُشيرا إلى أزمة حقوق الإنسان التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة بعد قصف إسرائيل للقطاع وتعليقها لإيصال المساعدات.

وقال ساندرز، وهو مستقل يميل إلى الحزب الديمقراطي، في بيان أعلن فيه خطته «ينتهك (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو القانون الأميركي والدولي بوضوح في هذه الحرب الوحشية، ويجب علينا إنهاء تواطؤنا في هذه المذبحة».

وفي ظل دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإسرائيل القائم منذ عقود، فمن غير المرجح إقرار قرارات توقف مبيعات الأسلحة، لكن المؤيدين يأملون أن تدفع إثارة القضية حكومة إسرائيل والإدارات الأميركية على بذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين.

وقال ساندرز في بيان «لم تدخل أي مساعدات إنسانية إلى غزة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع ونصف منذ أن أعلنت السلطات الإسرائيلية حصارا شاملا - أي لا طعام ولا ماء ولا دواء ولا وقود منذ بداية مارس». واتهم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان إسرائيل في فبراير (شباط) بتجاهل غير مسبوق لحقوق الإنسان في عملياتها العسكرية في غزة، كما قال إن حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) انتهكت القانون الدولي.

وصوت مجلس الشيوخ بأغلبية ساحقة في نوفمبر (تشرين الثاني) لعرقلة ثلاثة قرارات قدمها ساندرز كانت ستوقف عمليات نقل الأسلحة التي وافقت عليها إدارة الرئيس السابق جو بايدن المنتمي للديمقراطيين الذي لاقى انتقادات من التقدميين لتقصيره في مساعدة الفلسطينيين مع تدهور الأوضاع في غزة.

ونقض الرئيس دونالد ترمب، الذي بدأ ولايته الثانية في 20 يناير (كانون الثاني) وهو مناصر قوي لإسرائيل، جهود بايدن لوضع قيود على الأسلحة المرسلة إلى حكومة نتنياهو. وفي الشهر الماضي، تجاوز ترمب عملية مراجعة في الكونغرس ليوافق على مبيعات عسكرية لإسرائيل بمليارات الدولارات.