بالجدّات والقطط ومواسم الزيتون... آية دبس ترسم التعلُّق بالمكان

الرسامة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط»: الفنّ الحقيقي يُحاكي الذاكرة

تشبه موضوعاتها المكان وناسه وترسم مواسم الزيتون (آية دبس)
تشبه موضوعاتها المكان وناسه وترسم مواسم الزيتون (آية دبس)
TT

بالجدّات والقطط ومواسم الزيتون... آية دبس ترسم التعلُّق بالمكان

تشبه موضوعاتها المكان وناسه وترسم مواسم الزيتون (آية دبس)
تشبه موضوعاتها المكان وناسه وترسم مواسم الزيتون (آية دبس)

لم تتعمَّد الرسامة اللبنانية آية دبس التحوُّل إلى لاجئة، وإنما بدفعٍ من تكدُّس الأهوال، تُحدِّث «الشرق الأوسط» من كاليفورنيا. كانت في الثانية عشرة عندما رسمت لوحتها الأولى؛ شجرة. ولما اشتدَّت إبادة جنوبها اللبناني، سألت إنقاذها من على جدران منزل العائلة هناك؛ خشية مُشاركته المصير المريع. تشبه موضوعاتها المكان وناسه، وترسم مواسم الزيتون والبيوت العتيقة. تهوى رسم الجدّات، ففيهنّ ترى العُمر المحال على الهدوء.

قصدت بيروت للدراسة في كلية الفنون الجميلة، فلمحت في عمارتها جسر تواصل بين الحجر والبشر. تَلاصُق أبنيتها ألهمها رسم التقارُب الإنساني، فإذا بصُور طفولتها ورائحة الأرض في قريتها الجنوبية تلتحقان بالمشهد البيروتي، وتجعلان الفنانة تعكس على الوسائط ما يعتمل في الروح.

تشبّثها برسم واقع الإنسان على الأرض يتصدَّر في السلم والحرب (آية دبس)

تصف الفنّ بـ«الحقيقي» حين يؤدّي دوره حيال «الأشياء القريبة» قبل مُطالبته بتجسيد «ما هو بعيد». تُحمّله وظيفة «المراقبة والتقاط التفاصيل»، فيستدعي إلى وسائطه «ما قد لا تراه عيون الآخرين». والفنانة، إن استقالت من الرسم بالريشة والألوان، مُعلنةً تحوَّلها إلى احتراف فنّ الديجيتال، تُشيَّد في أعمالها اختزالات عاطفية غذَّتها ذاكرة ثرية بالصور وخيال يجيد الشحطات بشرط الإبقاء على صلتها بالواقع.

تهوى رسم الجدّات ففيهنّ ترى العُمر المحال على الهدوء (آية دبس)

ويحلو لها رسم الشرفات، وبولع مُشابه ترسم القطط. هذا اللطف الذي يسير على أربع ويُصدر مواء رقيقاً، يتّخذ في رسوم آية دبس مساحة عريضة. تعلّقها بالقطط تجسَّد في الفنّ، أسوةً بأشكال التعلُّق الأخرى المستقاة من ذاكرة القرية ووجوه عصيّة على الغياب. ولمّا طارد التوحُّش إنسان غزة، رسمت طاعنةً في السنّ تُغادر منزلها مُحمَّلة بكنبتها على ظهرها. تمدُّد النار إلى لبنان أشعل التفاعل مجدداً مع الرسم، لتجاوُز الموضوع حيّزَه ومحاكاته ضحايا الحروب على الأرض.

طاعنة في السنّ تُغادر منزلها مُحمَّلة بكنبتها على ظهرها (آية دبس)

الوفاء للمكان جعل تناوُل إشكالية النزوح الطارئة جراء الحرب، مُلحَّاً. وها هي تحضُر في رسومها، كأنها تتدفّق لتشغل المساحة بمظاهر هذا التدفُّق، فيتراءى الشوق والحنين والانسلاخ والغصّة. تقول: «أحبّ المكان. أحمل منزلي أينما غادرت. وفيه قططي وكنبتي. رسمتُ الكنبة لأنها الملاذ الحميم. باستطاعتها نَقل المرء من حالة مزاجية إلى أخرى. المساحة الشخصية تُسلَب من مالكها بفعل النزوح، فأجدني أرسم واقع الانسلاخ. حين أغادر منزلي، لا أعود أنا. أشعُر بالبُعد. كأنني طوال الوقت أطرح سؤالاً واحداً: أين أشيائي؟».

تشبه موضوعاتها المكان وناسه (آية دبس)

لصدّ هذه الغربة، سعت والدتها من مكان النزوح إلى إحضار ألبوم الصور، فلا تتوحَّش الذكريات في منزل غادره ناسه. ترى أنها «قصة سعيدة وحزينة في آن، لكنّ الأهم ألا نشعر بأننا غرباء». الأمُّ نفسها المعتادة على حصاد الزيتون وإعداده للمواسم، أبت شراءه جاهزاً من محلات البيت، لتتقصَّد رصَّ ما وصلها منه بيديها والتأكُّد من ملحه ومائه. ترسم هذه المُشاهدات، والأمل بالعودة، مُمتهنةً فَلْش الصور لضخّ الحياة في ذاكرتها البصرية والإبقاء على اتّقادها.

ارتباط الموضوع بالواقع يصيب الفنانة باحتمال تسلُّل العجز، فتجد أنّ عملاً على صلة بالموت المتواصل يتعذَّر اكتماله سريعاً. تقول: «لسنا في وضعية إنهاء الأشغال ثم إغلاق الكمبيوتر والتفرُّغ للانهيار. رسمُ الموضوع القاسي يمسُّ الحالة النفسية. نُعبّر بالفنّ ونجد فسحاتنا للبوح والتشارُك، لكنّ قسوة الموضوع لا مفرّ من تجاهلها».

ترى أنّ الفنان لا يضيف شيئاً إنْ نَقَلَ الصورة نسخةً طبق الأصل إلى فضائه التشكيلي (آية دبس)

وترى أنّ الفنان لا يضيف شيئاً إنْ نَقَلَ الصورة نسخةً طبق الأصل إلى فضائه التشكيلي. ذلك لأنها تُميّز بين الفوتوغرافيا والرسم، وتجد اختلافاً بين المجالَيْن. تستغرب ما يبدو لها استعجالاً في رسم صور ضحايا الحروب مثلاً، وتصف الفعل بـ«تسلُّق اللحظة». يتهيّأ لها العالم ظلالاً، لانسلاخ الأماكن عن ناسها، والناس عن أماكنهم، وتأجُّج الشوق. تشبّثها بالموضوع، وهو واقع الإنسان على الأرض، يتصدَّر في السلم والحرب. الفارق أنه في الأيام الهادئة ترسمه بحميمية وعاطفة. والآن يطفو الحزن، ويلحّ الحنين إلى منزل الجدّة والذكرى الجميلة وجَمعة العائلة. رسْم التاريخ والطفولة شغفها. اليوم تؤلمها الأمكنة وتشتاق إليها. ترسمها بمشاعر لا تُفسَّر.


مقالات ذات صلة

نعيم قاسم يؤكد أن غارات إسرائيل على بيروت سيقابلها رد في تل أبيب

المشرق العربي الأمين العام لجماعة «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم يلقي كلمة من مكان غير محدد 20 نوفمبر 2024 في هذه الصورة المأخوذة من مقطع فيديو (رويترز)

نعيم قاسم يؤكد أن غارات إسرائيل على بيروت سيقابلها رد في تل أبيب

أكد الأمين العام لجماعة «حزب الله» نعيم قاسم، اليوم (الأربعاء)، أن الحزب سيستهدف «وسط تل أبيب» رداً على الغارات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت العاصمة بيروت.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي جنود إسرائيليون يحملون نعشاً عسكرياً لأحدهم قتل في معارك جنوب لبنان (أ.ف.ب)

إسرائيل تجدد محاولات التقدم في الخيام عبر ثلاثة محاور

جددت القوات الإسرائيلية محاولات التوغل إلى مدينة الخيام، عبر ثلاثة محاور في جنوبها وشرقها والشمال الشرقي.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي مبنى مدمَّر بشكل كامل في ضاحية بيروت الجنوبية (أ.ب)

«حزب الله» يحاول احتواء تداعيات الحرب على بيئته مادياً ومعنوياً

يحاول «حزب الله» استيعاب، وإنْ بصعوبة، تداعيات الحرب غير المسبوقة التي طالت بيئته بشكل أساسي، والتخفيف مادياً ومعنوياً على العائلات النازحة.

كارولين عاكوم (بيروت)
شؤون إقليمية دورية للجيش اللبناني 2 نوفمبر 2024 (رويترز)

إسرائيل تؤكد أنها «لا تتحرك ضد الجيش اللبناني» بعد ضربات قتلت عسكريين

أكد الجيش الإسرائيلي، الأربعاء، أنه «لا يتحرك ضد الجيش اللبناني»، وذلك بعد مقتل أربعة جنود لبنانيين في غارتين إسرائيليتين.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
شؤون إقليمية الرئيس الإيراني بزشكيان يتحدث خلال جلسة عامة في إطار تنسيق «بريكس بلس» أثناء قمة المجموعة بقازان بروسيا 24 أكتوبر 2024 (رويترز)

الرئيس الإيراني يناشد بابا الفاتيكان التدخل لوقف الحرب في الشرق الأوسط

ناشد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، استخدام نفوذه لدى الحكومات المسيحية لوقف الحرب في الشرق الأوسط.

«الشرق الأوسط» (لندن)

لماذا يتسوّق البعض عند الشعور بالتوتر؟

سيدة تتسوق في أحد المتاجر قبل عطلة عيد الشكر في شيكاغو (رويترز)
سيدة تتسوق في أحد المتاجر قبل عطلة عيد الشكر في شيكاغو (رويترز)
TT

لماذا يتسوّق البعض عند الشعور بالتوتر؟

سيدة تتسوق في أحد المتاجر قبل عطلة عيد الشكر في شيكاغو (رويترز)
سيدة تتسوق في أحد المتاجر قبل عطلة عيد الشكر في شيكاغو (رويترز)

بصفتها أماً لطفل يبلغ من العمر 16 شهراً، تجد أحياناً الدكتورة أليسا مينينا جونيميتر، وهي أستاذة بالتسويق في كلية إيمليون للأعمال بفرنسا، نفسها وهي تتصفح وسائل التواصل الاجتماعي بلا تفكير بعد ساعات العمل، وتنجذب إلى الإعلانات والبضائع التي لم تكن تدرك حتى إنها تريدها. والشيء التالي الذي تعرفه هو أنها تضيف عناصر إلى عربة التسوق الخاصة بها، ولا تحتاج إلى أي منها بالفعل. وهذه دورة مألوفة للغاية، وتطرح السؤال: لماذا نتسوق للتعامل مع التوتر، والأهم من ذلك، هل يساعدنا ذلك حقاً؟

دخلت عبارة «العلاج بالتجزئة» مفرداتنا المعاصرة للإشارة إلى شكل من أشكال التسوق مدفوعاً باحتياجات عاطفية، وعادة ما يكون ذلك للتعامل مع التوتر أو المشاعر السلبية، أو لاستعادة الشعور بالسيطرة. في حين ينظر الكثيرون إلى العلاج بالتسوق على أنه وسيلة لتخفيف التوتر أو تحسين الحالة المزاجية، دعونا نلقِ نظرة على الأبحاث الحديثة لاكتساب فهم أكثر دقة لتأثيراته، بحسب تقرير لموقع «سايكولوجي توداي»:

لماذا نتسوق للتعامل مع التوتر؟

لا يقتصر العلاج بالتجزئة على شراء الأشياء؛ فهو غالباً ما يخدم احتياجات عاطفية أعمق. على سبيل المثال، قد يشتري الأشخاص الذين يعانون من انخفاض احترام الذات أشياء تتوافق مع صورتهم الذاتية السلبية، وهو السلوك المعروف باسم الاستهلاك للتحقق من الذات. وفي الوقت نفسه، يميل الأشخاص الذين يتمتعون بتقدير ذاتي أعلى إلى التسوق ليشعروا بتحسن تجاه أنفسهم، خاصة عندما يحسون بالضغط. والأمر المثير للاهتمام هو أن عادات التسوق لدينا يمكن أن تختلف بشكل كبير اعتماداً على كيفية نظرتنا إلى أنفسنا.

التسوق التعويضي، عندما نشتري أشياء لملء فراغ عاطفي، شائع بشكل خاص خلال الأوقات العصيبة. وقد وجد أن الأشخاص الذين يضعون قيمة عالية على الممتلكات المادية أو يكافحون مع التعاطف مع الذات هم أكثر عرضة للتسوق بوصفه وسيلة للتكيف. ومع ذلك، يمكن أن ينتهي بهم الأمر إلى جعلهم أقل سعادة بمرور الوقت، لأن ذلك لا يعالج القضايا العاطفية الأعمق وراء حاجتهم إلى الشراء.

نتائج عكسية

في حين أن التسوق قد يوفّر دفعة قصيرة الأجل، إلا أنه قد يأتي بنتائج عكسية في بعض الأحيان. تظهر الأبحاث أنه عندما يتسوّق الناس للتعويض عن ضربة تلقوها لتقديرهم لذاتهم، فإنه غالباً ما ينتهي بهم الأمر إلى الندم على مشترياتهم. وهذا صحيح بشكل خاص عندما يكون الشراء مرتبطاً بالمشكلة الأصلية - على سبيل المثال، شراء شيء ما للشعور بالذكاء بعد الشعور بالنقص في العمل.

ومن المثير للاهتمام أنه عندما يتسوق الناس لشيء لا علاقة له بضغوطهم - مثل شراء ملابس جديدة بعد يوم عمل شاق - يكون هناك ندم أقل. وهذا يوضح مدى أهمية فهم ما يدفعنا حقاً إلى التسوق.

صعود العلاج بالتسوق عبر الإنترنت

سلطت جائحة «كوفيد – 19» الضوء على زيادة فيما يسميه بعض الباحثين الاستهلاك الانتقامي؛ حيث لجأ الناس إلى السلع الفاخرة لاستعادة الشعور بالسيطرة على حياتهم، ما أعطى تقديرهم لذاتهم ورفاهتهم دفعة مؤقتة. وضمن نفس الإطار، ارتفعت معدلات التسوق عبر الإنترنت أيضاً، حيث استخدم الناس العلاج بالتجزئة للتعامل مع العزلة والقلق الناجم عن عمليات الإغلاق.

تُظهر الأبحاث أن هذا النوع من التسوق غالباً ما يكون مدفوعاً بالحاجة إلى الشعور بالسيطرة خلال أوقات الأزمات. وبينما وجد البعض الراحة المؤقتة في شراء البضائع، أحسّ آخرون بالندم لاحقاً، خاصة إذا أدركوا أن مشترياتهم كانت مدفوعة بالتوتر أكثر من الحاجة الفعلية.