أوانٍ حجرية من دبا البيعة

تتبنى أسلوباً تصويرياً بتقاسيم هندسية محفورة

ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة
ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة
TT

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة
ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة

خرجت من ولاية دبا البيعة في سلطنة عُمان مجموعة كبيرة من الأواني الأثرية المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، تشهد لتقليد فني راسخ ساد في الساحل الجنوبي الشرقي من الجزيرة العربية على مدى قرون من الزمن. اعتمد هذا التقليد أسلوباً تجريدياً صرفاً تجلّى في سلسلة من التقاسيم الهندسية الثابتة شكّلت مفردات معجمه الخاص، كما تظهر الدراسات التصنيفية التي شملت عشرات القطع الخاصة بهذا الميراث، وتبيّن أن العناصر التصويرية الحيّة لم تدخل إلى هذا المعجم وتنصهر فيه إلا في حالات نادرة للغاية.

تشكّل دبا منطقة ساحلية تنقسم اليوم ثلاثة أقسام سياسياً، وهي دبا البيعة التابعة لسلطنة عمان، دبا الحصن التابعة لإمارة الشارقة، ودبا الفجيرة التابعة لإمارة الفجيرة. تقع ولاية دبا البيعة في محافظة مسندم التي تشرف على مضيق هرمز، في أقصى شمال عُمان، حيث تمثل قوساً بحرياً ضيقاً لمروحة تطل على بحر عُمان من جهة، وترتبط من جهة أخرى بعمق جبلي تتداخل فيه الحدود الغربية والجنوبية الغربية لشبه جزيرة مسندم مع دولة الإمارات العربية المتحدة. ظهرت في هذه الولاية معالم مقبرة أثرية من طريق المصادفة خلال عام 2012 أثناء قيام نادي سبورتينغ الرياضي بأعمال بنائية، وسارعت وزارة التراث والسياحة في سلطنة عُمان إلى تولّي مهمة أعمال المسح والتنقيب في هذه المقبرة خلال السنوات التالية.

تحوي هذه المقبرة مدفنين يمتدّان على شكل رواقين طويلين يضمّ كلّ منهما سلسلة من القاعات تذخر باللقى الأثرية المتعددة الأنواع، منها مجموعة كبيرة من الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، شكّلت جزءاً كبيراً من الأثاث الجنائزي الخاص بهذه القبور. من الرواق الذي عُرف باسم «القبر الجماعي الأول»، خرج الجزء الأكبر من هذه القطع، حيث بلغ عددها 241 آنية، إضافة إلى 71 غطاء، وأظهرت الأبحاث العلمية أن هذه القطع تعود إلى حقب متلاحقة. تعود أقدم القطع إلى ما يُعرف بـ«عصر وادي سوق»، نسبة إلى الوادي الذي يقع بين مدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي وغرب ولاية صُحار في عُمان، ويمثّل هذا العصر ثقافة سادت بن عامي 2000 و1600 قبل الميلاد. تشكل القطع التي تتبع هذا العصر جزءاً محدوداً من هذه المجموعة الكبيرة، فيما يعود الجزء الأكبر إلى العصر الحديدي الذي يتكوّن من حقبة مبكرة سادت بين 1300 و1100 قبل الميلاد، وحقبة لاحقة سادت بين 1100 و600 قبل الميلاد.

تتبنّى هذه الأواني أسلوباً تجريدياً صرفاً قوامه شبكة من التقاسيم الهندسية المحفورة، تنسكب في خطوط غائرة على سطح الحجر الناعم الذي شكّل مادة لهذه الأواني. وتظهر تحوّلات هذه التقاسيم الهندسية تطوّر هذا الأسلوب التجريدي خلال الحقبة الطويلة الممتدة على قرون عدة متعاقبة. تدخل العناصر التصويرية بشكل متجانس إلى هذه التقاسيم خلال العصر الحديدي المكبر، وتتمثّل هذه العناصر بأوراق نباتية مسطّحة ومفرودة، جرى تحويرها وتجريدها من أي ثقل مجسّم. تنتمي هذه الأوراق المنبسطة إلى الفصيلة التي تسمّى «بسيطة»، وهي الأوراق التي تنمو كل منها منفردة على حدة. تنمو هذ الأوراق على نصل واحد يظهر على شكل خط مستقيم ناتئ، وهي أوراق بيضوية الشكل، يعلو كلاً منها خط عمودي طويل في الوسط، تحده شبكة من الخطوط الأفقية القصيرة، تمثّل عروق الورقة.

تدخل العناصر التصويرية الحية استثنائياً ضمن تأليف نباتي من هذا الطراز يشكل زينة لآنية تبدو فريدة من نوعها في مجموعة اللقى

تدخل العناصر التصويرية الحية استثنائياً ضمن تأليف نباتي من هذا الطراز يشكل زينة لآنية تبدو فريدة من نوعها في مجموعة اللقى التي خرجت من «القبر الجماعي الأول». تتّخذ هذه الآنية شكل صندوق مستطيل، نُقشت على كلّ من جانبيه الطويلين المعاكسين صورة ناتئة تمثّل حيواناً ذا 4 قوائم يصعب تحديد صنفه بدقّة. تتبع الصورتان تأليفاً واحداً جامعاً، تتكوّن خلفيته من سلسلة من الخطوط الأفقية المسنّنة تشكل جزءاً من اللغة التشكيلية المعتمدة في هذا الميدان. وسط هذه السلسلة، تظهر صورة الحيوان الناتئة في وضعية جانبية، وهو كما يبدو ذئب على جانب، ومعزة على الجانب الآخر. في المقابل، تحل على جانبي الصندوق الصغيرين أوراق نباتية تقليدية.

إلى جانب هذا الصندوق، يحضر العنصر التصويري بشكل مغاير في آنية أخرى تتمثّل بطبق ذي مقبض طويل عُثر عليه كذلك في «القبر الجماعي الأول». يأخذ هذا المقبض شكل رأس طير، وتوحي شبكة الخطوط التي تزين الطبق، والطرف الخلفي الناتئ لهذا الطبق، بأن هذه الآنية شكّلت على شكل هذا الطير. تبدو هذه القطعة استثنائية من نوعها، إذ لا نجد ما يشابهها في ميراث مختلف مجموعات أواني الحجر الناعم التي خرجت من مقابر عدة من الساحل الجنوبي الشرقي من الجزيرة العربية، تتبع اليوم الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان.

في المقابل، نقع على آنية تُشابه في حلّتها الصندوق الذي خرج من «القبر الجماعي الأول». تعود هذه الآنية إلى «القبر الجماعي الثاني» في ولاية دبا البيعة، وهي كذلك على شكل صندوق تزينه نقوش تصويرية نباتية تعتمد الأوراق المسطحة والمفرودة المعهودة. على جانب واحد من جانبي هذا الصندوق الطويلين، يظهر حيوان ذو 4 قوائم يشابه في تكوينه الظباء ذات الرقبة الطويلة، يحلّ هنا إلى جانب أربع أوراق مسطحة تخرج من نصل واحد مستقيم.

خارج دبا البيعة، نقع على كوب من الحجر الناعم تزيّنه عناصر تصويرية حية، مصدره مقبرة جبل البُحيص في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة. تتمثل هذه الزينة من سلسلة من أربع أسماك صُوّرت في وضعية جانبية، تعلوها سلسلةٌ من أربعة طيور في وضعية مشابهة. يعود هذا الكوب كما يبدو إلى عصر وادي سوق، ويشهد لحضور خجول للعناصر التصويرية في هذا الميدان الواسع الذي ساد فيه النسق التجريدي بشكل شبه كامل.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.