من «جنّاتهنّ الصغيرة» إلى غرف الإيواء... شهادات نازحاتٍ جنوبيّات في لبنان

يعانين من غياب الخصوصية بعدما غادرن بيوتهنّ قسراً بسبب الحرب

سيدات جنوبيات نازحات إلى أحد مراكز الإيواء في بيروت (أ.ف.ب)
سيدات جنوبيات نازحات إلى أحد مراكز الإيواء في بيروت (أ.ف.ب)
TT

من «جنّاتهنّ الصغيرة» إلى غرف الإيواء... شهادات نازحاتٍ جنوبيّات في لبنان

سيدات جنوبيات نازحات إلى أحد مراكز الإيواء في بيروت (أ.ف.ب)
سيدات جنوبيات نازحات إلى أحد مراكز الإيواء في بيروت (أ.ف.ب)

تقف نانسي خلف نافذة المنزل الذي لجأت إليه وعائلتها في منطقة برج حمّود شرقي بيروت. لا وديان هنا ولا سهول خضراء تسرح إليها عيناها كما كانت تفعل على شرفة بيتها في النبطيّة الجنوبيّة؛ هنا إسمنتٌ فقط.

«أشتاق إلى كل حجرٍ في بيتنا الذي بناه أبي بدموع العين. أشتاق إلى الحديقة، إلى غرفتي وتفاصيلي الصغيرة التي تركتها هناك. لكني أحمد الله أنني وعائلتي وصلنا بخير إلى بيروت بعد رحلة النزوح الشاقّة والمرعبة». تتحدّث الشابة لـ«الشرق الأوسط» وفي حلقها غصّةٌ عمرُها أسبوع. هي في حالة صدمة منذ تلك اللحظة التي أقفلت فيها باب البيت الجميل خلفها، وهربت من القصف الإسرائيلي إلى مصيرها المجهول.

وحش العطش

«رحلة الموت»، «فيلم الرعب»، «وحش العطش»... كلّها عباراتٌ تتكرّر على ألسنةِ السيّدات النازحات. وإذا كانت نانسي قد وجدت شقةً تؤويها وعائلتها، فإنّ نساءً كثيرات اضطررن للّجوء إلى مراكز إيواء النازحين المنتشرة على امتداد الخريطة اللبنانية.

نساءٌ كثيرات اضطررن إلى اللجوء إلى المدارس بعد أن بات من الصعب والمكلف العثور على شقق للإيجار (إ.ب.أ)

تتذكّر زينب: «13 ساعة في السيارة كانت أشبَه بالجحيم»، وعندما أسألها عن أبشع مواقف رحلتها وعائلتها من الجنوب إلى بيروت، تجيب من دون تردّد: «العطش». تخبر كيف أنّ أولادها بكَوا رعباً من القصف الذي كان ينهال حولهم، كما أنهم بكَوا بسبب العطش؛ «خرجنا من البيت مذعورين فنسينا أن نجلب معنا مياهاً، وعلى الأوتوستراد الطويل والمزدحم بالسيارات لم تكن هناك محال نشتري منها المياه».

زينب الثلاثينية والنازحة إلى أحد مراكز الإيواء مع أولادها الثلاثة، إحداهم تعاني نقصاً مزمناً في الأكسيجين، لا تتمنى سوى العودة إلى بيتها «حتى لو كان ركاماً». النزوح مرهقٌ لسيّداتٍ أُرغمن على مفارقة منازلهنّ، جنّاتهنّ الصغيرة.

يوم النزوح الكبير... عشرات آلاف السيارات في الطريق من الجنوب إلى بيروت (أ.ب)

دعمٌ قدر المستطاع

زينب مثلاً نسيت أن تجلب معها مناديل الحجاب، أما بتول فتحاول التخفيف من وطأة المأساة بالضحك والسخرية، قائلةً إنّ أهمّ ما نسيت إحضاره معها هو شاحن الهاتف.

في مراكز الإيواء، تسعى اللجان التنظيمية إلى تأمين كل ما استطاعت من احتياجات النازحات والنازحين. في أحد المراكز في منطقة ضهور الشوير (المتن الشمالي)، تشرف رئيسة خلية الأزمة صباح مجاعص على وصول المساعدات وتوزيعها وهي تتابع شؤون النازحين الـ260 ليل نهار.

«كسيّدة أنا أتفهّم التعب النفسي الذي تمرّ به النازحات، لكننا هنا نحاول قدر المستطاع ألا ننسى التفاصيل التي قد تخفّف عنهنّ قليلاً»، تقول مجاعص في حديثها مع «الشرق الأوسط». توضح أنه جرى تأمين الفرش والأغطية والمواد الغذائية على أنواعها وأدوات التنظيف والعناية الشخصية، إضافةً إلى الملابس وحتى ألعاب الأطفال. وتضيف المسؤولة التي اختبرت التجربة ذاتها في «حرب تموز» 2006: «على المستوى النفسي، نحاول أن نساعد السيدات على التأقلم من خلال تسليمهنّ مسؤولية المكان كي يشعرن وكأنهن في بيوتهنّ، أي أن نمنحهنّ صلاحيّة طبخ ما يردن وتقسيم مهام التنظيف وما إلى ذلك من اهتماماتٍ يومية».

عيّنة من المساعدات التي تصل للنازحين إلى مراكز الإيواء (الشرق الأوسط)

صعوبة الاستحمام

تجلس كاملة، وهي سيّدة سبعينية، في ردهة أحد مراكز الإيواء. إلى جانبها على كرسيّ بلاستيك زوجها الثمانينيّ، وحولَهما في الغرفة أولادهما والأحفاد. «أكثر ما يقهرني أنني لم أتمكّن من الاستحمام منذ أتيت»، تهمس لي السيّدة المسنّة والدموع في عينَيها. توضح أنّ ظروف الاستحمام، من صفّ الانتظار الطويل، إلى الحمّام المشترك، وعدم توفّر المياه الساخنة في كل الأوقات، «صعبة لشخصٍ في سنّي».

لكنّ المأساة الحقيقية التي عاشتها كاملة كانت وفاة زوج ابنتها بنوبةٍ قلبيّة، في السيارة خلال رحلة نزوحهم من قرية معركة في قضاء صور، والتي امتدّت 15 ساعة. هي مصابة بصدمة نفسية تدفعها إلى البوح بأنه «إذا وقع غرضٌ ما على الأرض أُصاب بالهلع من الصوت». يُضاف ذلك كله إلى الظروف الصحية للسيدة التي تعاني من السكّريّ وضغط الدم وآلام في الظهر.

تحوّلت بعض مدارس لبنان إلى مراكز إيواء تعجّ بالنساء والأطفال (أ.ف.ب)

غرفة واحدة لـ40 شخصاً

رغم أوجاعهنّ الكثيرة، تتحدّث السيّدات النازحات عن حُسن استقبال المتطوّعين في مراكز الإيواء لهنّ. «لم يقصّر معنا أحدٌ بشيء، والمعاملة غاية في اللطف»، تقول سميرة. لا تكترث السيدة الستينية كثيراً إلى أغراضٍ نسيت أن تُحضرها معها، بقدر ما يهمّها أن تعود إلى قريتها الجنوبيّة «بخير وسلام».

هذا جزءٌ من لسان حال غالبيّة النازحات. تؤكّد ذلك علياء عواضة، الناشطة اللبنانية في مجال حقوق المرأة والمديرة التنفيذية لمنصّة «نقطة - المختبر النسوي». تتابع علياء عواضة وفريقها من كثب أحوال السيدات اللاجئات إلى مراكز الإيواء، وهي تقوم بجولاتٍ ميدانية على تلك المراكز لتوزيع المساعدات الخاصة بالنساء.

عيّنة من المساعدات التي توزّعها منصة «نقطة» على النساء النازحات (الشرق الأوسط)

أبرز أوجه المعاناة التي عاينتها علياء عواضة، وفق ما تقول لـ«الشرق الأوسط»، هو «غياب الخصوصية وعدم توفّر مساحات خاصة بالنساء لأنّ المدارس التي فُتحت أمام النازحين صغيرة، كما أن عددها قليل». تخبر أنها زارت غرفة تؤوي 40 شخصاً بين نساءٍ ورجال من عائلة واحدة. تتحدّث عن حمّاماتٍ مشتركة في بعض المراكز، مما يجعل من الاستحمام بالنسبة إلى النساء مهمّة مستحيلة.

سرعان ما تتحوّل تلك الظروف القاهرة إلى «ضغط معنويّ وقلق نفسيّ بالنسبة إلى النساء، لا سيّما أنهنّ تركن بيوتهنّ من دون جلب أي أغراض شخصية»، تقول علياء عواضة. «تصوّري أنّ بعضهنّ ما زلن بالملابس ذاتها منذ يوم الهروب، ولم يستطعن الاستحمام ففضّلن تحميم أطفالهنّ نظراً لضيق الوقت والمساحة»، تضيف الناشطة الحقوقية.

أول صفعة لابنتي

ما كلامُ مريم (27 عاماً) الآتية من بلدة صريفا الجنوبيّة سوى صدىً لمُشاهدات علياء عواضة؛ «التعامل معنا هنا في المركز على درجة عالية من الإنسانية، لكن المعاناة الكبرى هي في الاستحمام وسط ظروف تغيب عنها الخصوصية».

توزيع الملابس على النازحين في أحد مراكز الإيواء (أ.ف.ب)

لن تخرج مشاهد العبور من الجنوب إلى بيروت بسهولة من مخيّلتها: «ما زلت أبصر الناس النائمة على الطرقات، وأسمع عويل النساء وبكاء الأطفال». انعكس كل ذلك ضغطاً نفسياً على مريم، وبالتالي على ابنتها البالغة 9 أعوام. تعترف دامعةً: «في حياتي كلها لم أمدّ يدي عليها. بالأمس صفعتها لفرط ما كنت متوتّرة. بكت قائلةً: ماما هيدي أول مرة بتضربيني». ضمّت مريم وحيدتها واعتذرت إليها، ثم اصطحبتها إلى دار البلديّة حيث عثرت لها على بعض الملابس الشتويّة، «لأنّ الطقس صار بارداً هنا، وخزانتها بقيت مكتنزة بالثياب الجميلة هناك، تحت القصف في صريفا الجنوبيّة».


مقالات ذات صلة

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

يوميات الشرق في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

«نانسي» و«سهى» و«هناء»... 3 أسماء لـ3 نساءٍ كدن يخسرن حياتهنّ تحت ضرب أزواجهنّ، قبل أن يخترن النجاة بأنفسهنّ واللجوء إلى منظّمة «أبعاد».

كريستين حبيب (بيروت)
شؤون إقليمية امرأتان تشربان الشاي في الهواء الطلق بمقهى شمال طهران (أ.ب)

إيران: عيادة للصحة العقلية لعلاج النساء الرافضات للحجاب

ستتلقى النساء الإيرانيات اللاتي يقاومن ارتداء الحجاب، العلاجَ في عيادة متخصصة للصحة العقلية في طهران.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا صورة جرى توزيعها في يناير 2024 لنساء وأطفال بمخيم زمزم للنازحين بالقرب من الفاشر شمال دارفور (رويترز)

شهادات «مروعة» لناجيات فررن من الحرب في السودان

نشرت «الأمم المتحدة»، الثلاثاء، سلسلة من شهادات «مروعة» لنساء وفتيات فررن من عمليات القتال بالسودان الذي يشهد حرباً منذ أكثر من عام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
آسيا صورة من معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس للتعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات (أ.ف.ب)

معرض صور في باريس يلقي نظرة على حال الأفغانيات

يتيح معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس التعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات، ومعاينة يأسهن وما ندر من أفراحهنّ.

«الشرق الأوسط» (باريس)
آسيا امرأة يابانية مرتدية الزي التقليدي «الكيمونو» تعبر طريقاً وسط العاصمة طوكيو (أ.ب)

نساء الريف الياباني يرفضن تحميلهنّ وزر التراجع الديموغرافي

يعتزم رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا إعادة تنشيط الريف الياباني الذي انعكست هجرة السكان سلباً عليه.

«الشرق الأوسط» (هيتاشي (اليابان))

بيروت ـــ تل أبيب... يوم الصواريخ والغارات

جانب من الأضرار التي خلفهها صاروخ ل"حزب الله" في "بتاح تكفا" قرب تل أبيب أمس (أ.ف.ب)
جانب من الأضرار التي خلفهها صاروخ ل"حزب الله" في "بتاح تكفا" قرب تل أبيب أمس (أ.ف.ب)
TT

بيروت ـــ تل أبيب... يوم الصواريخ والغارات

جانب من الأضرار التي خلفهها صاروخ ل"حزب الله" في "بتاح تكفا" قرب تل أبيب أمس (أ.ف.ب)
جانب من الأضرار التي خلفهها صاروخ ل"حزب الله" في "بتاح تكفا" قرب تل أبيب أمس (أ.ف.ب)

عاش لبنان وإسرائيل، أمس، يوماً عنيفاً من الغارات والصواريخ؛ إذ شنّت إسرائيل عشرات الغارات، بعضها على ضاحية بيروت الجنوبية وفي الجنوب حيث مسحت حياً بأكمله، في حين وسّع «حزب الله» استهدافاته للأراضي الإسرائيلية وصولاً إلى تل أبيب ومحيطها، مطلقاً نحو 300 صاروخ.

وهزّت صواريخ «حزب الله» قلب تل أبيب في رد على المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في منطقة البسطة في بيروت. وقال مصدر أمني إن «حزب الله» يحاول أن يثبت من خلال معادلة «بيروت مقابل تل أبيب» استمرار قوته الصاروخية، وإرباك الدفاعات الإسرائيلية.

وبينما أفيد بتعليق العمل بمطار بن غوريون لوقت قصير، قالت وسائل إعلام إسرائيلية إن «انفجارات عنيفة سُمعت في تل أبيب الكبرى»، في حين دوّت صافرات الإنذار في نهاريا وعكا والجليل الأعلى مع إطلاق رشقات صاروخية باتجاهها. وأفيد بأن 5 أشخاص أصيبوا في وسط إسرائيل.

كذلك، واصلت إسرائيل استهداف الجيش اللبناني الذي أعلن «استشهاد أحد العسكريين وإصابة 18 بينهم مصابون بجروح بالغة نتيجة استهداف العدو الإسرائيلي مركز الجيش في العامرية على طريق القليلة - صور». ورأى رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أن استهداف إسرائيل للجيش اللبناني يمثل رسالة دموية مباشرة برفض مساعي التوصل إلى وقف إطلاق النار.