خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

حكومة الجلالي أمام استحقاقات حياتية عاجلة

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
TT

خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)

مع تشكيل الحكومة السورية الجديدة برئاسة محمد الجلالي، تصدرت مسألة تحسين الأوضاع المعيشية مطالب المواطنين الذين أنهك الفقر غالبيتهم العظمى. وبينما لم يكسر التطور الحاصل، حالة اليأس من حدوث انفراجة، بسبب معاناة الأسر مع الحكومات السابقة، خصوصاً الأخيرة التي وُصفت بـ«حكومة التجويع»، استبعدت مصادر متابعة أن تستطيع الحكومة الجديدة انتشال البلاد من التدهور الاقتصادي الحاد، لأن الأمر مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد، ولأن رئيس الحكومة وأعضاءها «ليسوا أصحاب قرار»، بل مجرد «موظفين» ينفّذون قرارات السلطات العليا.

مهمة مستحيلة

يأتي تشكيل الحكومة الجديدة في وقت تعاني فيه كل القطاعات في مناطق الحكومة السورية من تدهور ينحدر بشكل يومي إلى قعر جديد، ومن تفاقم الفساد، وتعمق الفقر والجوع وازدياد نسبتهما.

وتقول مهندسة تقطن وسط دمشق: «فقدنا القدرة على التحمل. وأحياناً تفوق وجبة البيض قدراتنا».

وتشهد الأسواق حالة انكماش غير مسبوقة رغم حصول تخفيضات بنسبة 20 إلى 50 في المائة على كثير من المواد الأساسية والغذائية منذ نحو أسبوعين أو أكثر حسبما رصدت «الشرق الأوسط».

لكنَّ صاحب بقالية في منطقة الزاهرة جنوبي دمشق، يؤكد أنه «لا يوجد إقبال على الشراء، لأنه لا توجد سيولة بين الناس التي تسعى لتأمين الخبز».

طفلان يفترشان الشارع في أحد أحياء جنوب دمشق (الشرق الأوسط)

محمد، وهو من سكان حي «دف الشوك» شرقي دمشق، يقول: «لا كهرباء، وتأمين الماء يحتاج إلى مرتب موظفَين اثنين، وأسطوانة الغاز باتت تصل كل 90 يوماً... هذه ليست عيشة. يجب تأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية».

وما زاد الأوضاع سوءاً، تجدُّد أزمة المواصلات منذ ثلاثة أسابيع، بسبب توقف محطات الوقود عن تزويد حافلات النقل الخاصة بمادة المازوت نتيجة النقص الحاد.

ويؤشر إلى ذلك مشهد تجمع الحشود في مواقف الحافلات، وانتشار أعداد كبيرة في الشوارع الرئيسية عائدين إلى منازلهم سيراً على الأقدام.

«الحكومة مشكورة أوصلتنا إلى هذا الحال»، يقول موظف لـ«الشرق الأوسط» وهو عائد مشياً من مكان عمله في وسط دمشق. ويوضح: «عدا عن الانتظار الطويل، الركوب في حافلة يحتاج إلى خوض معركة بسبب الازدحام». ويلفت إلى انقطاع كثير من زملائه عن العمل بسبب ندرة المواصلات، وبعضهم لعدم توفر أجور النقل لديهم، بينما يؤكد سائق حافلة توقف غالبية أصحاب حافلات النقل عن العمل لعدم توفر المازوت.

أول رئيس حكومة من الجولان

وبعد عشرة أيام من تكليف الجلالي، خلفاً لرئيس الوزراء السابق حسن عرنوس، صدر مرسوم رئاسي بتشكيلة الحكومة الجديدة. ومن أبرز التغييرات تعيين نائب وزير الخارجية والمغتربين بسام الصباغ وزيراً للخارجية، خلفاً للوزير فيصل المقداد الذي أصبح نائباً لرئيس الجمهورية، ومفوضاً بمتابعة تنفيذ السياسة الخارجية والإعلامية في إطار توجيهات رئيس الجمهورية.

رئيس الوزراء السوري الجديد محمد غازي الجلالي (الإخبارية السورية)

والجلالي، وفق معلومات «الشرق الأوسط»، يتحدر من قرية «راوية» إحدى قرى هضبة الجولان السورية المحتل، وتنتمي عائلته إلى عشيرة «الهوادجة» العربية، وهو أول شخصية تنحدر من الجولان يتم تكليفها بتشكيل الحكومة في عهدَي الأسد الأب والأسد الابن.

وبعد نكسة يونيو (حزيران) عام 1967، نزحت عائلة الجلالي إلى دمشق، واستقرت في القسم الشرقي من حي التضامن جنوب دمشق، حيث ترعرع في الحي ودرس في مدارسه، وتمكن والده غازي الجلالي بحكم عمله أمين فرقة في «حزب البعث» من الحصول على إيفاد خارجي لابنه الوحيد على نفقة الحزب لمتابعة تحصيله العلمي العالي في جامعة مصرية، وذلك بعد حصوله على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق عام 1992.

وإثر اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، نزحت عائلة الجلالي أواخر العام نفسه من حي التضامن، وسكنت في «مدينة البعث» بمدينة القنيطرة، في حين بقي الجلالي يقيم في دمشق.

والجلالي من ضمن 45 اسماً اختارهم الرئيس بشار الأسد ليكونوا أعضاء في اللجنة المركزية لـ«حزب البعث» خلال انتخابات الحزب الأخيرة في مايو (أيار) الماضي، بعدما أفرزت نتائج الانتخابات 80 عضواً.

وفي يوم تكليفه، أعاد الجلالي نشر مقولة كان قد نشرها العام الماضي على صفحته الشخصية في موقع «فيسبوك» لفردريك باستيا، المنظِّر الليبرالي الكلاسيكي والاقتصادي السياسي الفرنسي، الذي يعد من أنصار المذهب الحر في الاقتصاد، وعاش في القرن التاسع عشر، وقال فيها: «ليس هناك إلا فارق واحد بين الاقتصادي الجيد والاقتصادي السيِّئ، وهو أنَّ الاقتصادي السيِّئ يقصر نفسه على التأثير المرئي. أما الاقتصادي الجيد فيأخذ في حسبانه معاً التأثير الذي يُمكن أن يُرى وتلك التأثيرات التي يجب التنبؤ بها».

محل ألبسة رجالية وسط دمشق (الشرق الأوسط)

تباين في الآراء والأرقام

وعلى أن الشارع متفق اليوم على ضرورة إحراز تقدم ولو بسيطاً على مستوى الخدمات الأساسية إلا أن التعيين الجديد أُحيط بآراء متباينة كثيرة. فقد نشرت صحيفة «صاحبة الجلالة» الإلكترونية المحلية أبرز آراء ومقترحات الجلالي قبل الإعلان عن تكليفه. ومن ذلك على سبيل المثال أن «تدني القدرة الشرائية للمواطن يجعل السكن في المرتبة الثانية ضمن أولوياته، رغم أنه حاجة ماسة. إلا أن حاجة الطعام والشراب اليومية تحتل المرتبة الأولى ضمن تلك الاحتياجات»، و«على الحكومة أن تعزز بداية المناخ الاستثماري من خلال توفير بنية تحتية آمنة للاستثمار».

في المقابل، جاءت تعليقات على منشور «صاحبة الجلالة» تقول: «لن نحكم حتى نرى نتيجة أفعاله لا أقواله. الناس جاعت»، و«نفس أقوال عرنوس، ومن قبله (عماد) خميس ومن قبله (وائل) الحلقي، ونفس أقوال الذي سيأتي بعد الجلالي، وهكذا دواليك، والحال من سيئ لأسوء».

وبقي في الحكومة الجديدة التي تضم 27 وزيراً، 11 وزيراً من الحكومة السابقة منهم وزراء الدفاع والداخلية والأوقاف، في حين دخل 14 وزيراً جديداً بينهم الإعلامي والخبير الاقتصادي زياد غصن، الذي آلت إليه حقيبة وزارة الإعلام، بينما بدل اثنان حقيبتيهما.

موظفون لا أصحاب قرار

مصدر مقرب من دوائر صنع القرار في دمشق، استبعد أن تتمكن الحكومة الجديدة من إيجاد حلول للأزمات الغارقة فيها البلاد. وقال المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط»: «الأمر لا يتعلق بالأشخاص، القضية هي أن رئيس الوزراء في سوريا والوزراء ليسوا أصحاب قرار. هو أكبر موظف في الحكومة، والوزراء موظفون أيضاً. هم ينفِّذون قرارات تصدر من فوق».

وأضاف المصدر: «قرار استبعاد أكثر من 600 ألف عائلة من الدعم الحكومي الذي جاء ضمن خطط إلغاء الدعم، لم يُصدره عرنوس، وكذلك قرارات رفع الأسعار».

عجوز تجمع النفايات والبلاستيك وسط دمشق (الشرق الأوسط)

ورأى المصدر أن «الانفراج الاقتصادي مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد منذ فترة طويلة»، وقال: «الغرب يطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، والدول العربية تطالب بتنفيذ المبادرة العربية للحل في سوريا والمعروفة بـ(خطوة مقابل خطوة)».

ولا شك أن الأمر أكثر تعقيداً من وصول حكومة ذات كفاءة أو لا. فتطبيق القرار الدولي الذي صدر في 2015 يقضي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وانتقال سلمي للسلطة، مرهون أيضاً بالعقوبات الاقتصادية وأولها قانون قيصر الأميركي الذي فُرض في 2020 وكان بداية الانهيار الاقتصادي السريع في البلاد.

وحسب المصدر، حتى بعض الانفراجات القليلة التي لاحت، سواء مع بعض العواصم العربية أو مع أنقرة وكان من شأنها ان تنفِّس الاحتقان المعيشي والاقتصادي داخلياً لم تُترجَم استثمارات فعلية على الأرض.

وعلَّق المصدر على مسألة تزامن تشكيل الحكومة الجديدة مع إشارات من دمشق منذ بداية العام الجاري إلى أنها بدأت عملية إصلاح إداري، شملت الأجهزة الأمنية وتشكيلات عسكرية و«حزب البعث»، بالقول: «(تغييرات) شكلية. هل تم استئصال مافيات الفساد المتحكمة في البلاد؟ وهل تراجعت جرائم القتل والسرقة والخطف؟ الوقائع على الأرض تقول: لا».

وسبق أن كشف وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم الذي جرت إقالته من حكومة عرنوس في مارس (آذار) 2023، في منشوراته، عن أن الدولة «تخسر مبلغ 38 ألف مليار ليرة كل عام بسبب سرقة الدقيق والقمح والخبز».

تنفيس مدروس

وبعدما تحولت الحكومة السابقة إلى تسيير أعمال، عقب انتخابات مجلس الشعب في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، كان لافتاً تصاعُد حدة الانتقادات الموجهة إليها.

وتعليقاً على قرارها أن يحصل المواطن العائد إلى البلاد عبر مطار دمشق الدولي على «شيك» ورقي بقيمة 100 دولار ملزَم بتصريفها قبل دخوله البلاد، على أن يتسلم قيمته لاحقاً من المصارف التجارية بدلاً من الأجهزة الموجودة في المطار، كتبت «صاحبة الجلالة» في منشور: «فيما يخص قرار الشيك للمائة دولار. لماذا نتحدث عنه بصيغة المجهول؟ مَن اقترح هذا القرار؟ ولماذا؟ ومَن وافق عليه؟ حددوا لنا مَن اقترح ومَن وافق؟ ليس كل قرار غبيّ يسجَّل ضد مجهول».

الخبير الاقتصادي عامر شهدا، كتب على صفحته الشخصية على «فيسبوك»: «ما أمنياتكم للحكومة في رحيلها بعد ساعات؟ بالنسبة لي أدعوهم للبكاء على الأطلال التي خلَّفوها».

وأوضحت مصادر متابعة في دمشق، في تفسيرها لأسباب الحملة ضد الحكومة، لـ«الشرق الأوسط»: «أغلبية ما يُنشَر في مواقع أو صفحات موالية خصوصاً ما يتعلق بالحكومة، يأتي بتوجيه من السلطة من أجل التنفيس عن المواطنين».

في 8 مايو (أيار) الماضي، وبعد تقديم عرنوس عرضاً أمام مجلس الشعب حول ما نفَّذته حكومته، نشر شهدا منشوراً مطولاً ناقض فيه ما تضمنه العرض.

سوق باب سريجة وسط دمشق المختص ببيع المواد الغذائية واللحوم والخضار وتبدو فيه حركة المارة ضعيفة جداً (الشرق الأوسط)

وقال: «تمنينا أن نسمع من معاليكم وضعاً مقارناً لنسب الهدر والفساد من عام 2020 لغاية 2024، وأن نسمع وضعاً مقارناً عن انتشار الجريمة والسرقات في المجتمع وانخفاض أعمار الداخلين لسوق الدعارة».

وعرض شهدا ما سمّاها «أرقام الشعب السوري»، منذ تشكيل عرنوس الحكومة عام 2020، وقال: «بفضل شماعة العقوبات وارتفاع الأسعار العالمية وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي ريعي، موازنة 2020 بلغت (2.9) مليار دولار، بينما في 2024 أصبحت (2.6) مليار دولار. وسعر الصرف الرسمي في 2020 كان 434 ليرة مقابل 800 في السوق السوداء، بينما في 2024 وصل سعر الصرف الرسمي إلى 13 ألف و500 ليرة».

وحسب الأرقام، ارتفعت تكاليف المعيشة بين 2022 و2023 بحدود 97.9 في المائة، فيما بقي الحد الأدنى للأجور عند راتب يناهز 93 ألف ليرة أي نحو 7 دولارات. وبلغ عدد السكان الذي يحتاجون إلى المساعدة نحو 15 مليون نسمة، 90 في المائة منهم تحت خط الفقر.


مقالات ذات صلة

البنك الأوروبي لإعادة الإعمار: نمو معتدل لمنطقة جنوب وشرق المتوسط 2.1 %

الاقتصاد تصاعد الدخان فوق جنوب لبنان عقب ضربة إسرائيلية في مدينة صور (رويترز)

البنك الأوروبي لإعادة الإعمار: نمو معتدل لمنطقة جنوب وشرق المتوسط 2.1 %

أظهر تقرير الآفاق الاقتصادية الإقليمية أن معدل النمو في منطقة جنوب وشرق المتوسط للنصف الأول من عام 2024 لن يتجاوز 2.1 في المائة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد مضخات في حقل نفط بولاية كاليفورنيا الأميركية (رويترز)

النفط دون تغيير يذكر في ظل تراجع المخزونات الأميركية واستمرار مخاوف الطلب

لم يطرأ تغيير يذكر على أسعار النفط، يوم الخميس، بعد هبوطها في الجلسة الماضية؛ إذ عوّض تأثير مؤشرات على ارتفاع الطلب على الوقود وانخفاض المخزونات الأميركية…

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
تحليل إخباري تصاعُد الدخان من موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت قرية خيام الجنوبية (أ.ف.ب)

تحليل إخباري اقتصاد لبنان في محنة الحرب: من دعم دولي في 2006 إلى فراغ مالي في 2024

شهد لبنان عبر تاريخه الحديث العديد من الحروب المدمِّرة التي تركت آثاراً كارثية على اقتصاده واستقراره الاجتماعي، أبرزها حرب يوليو 2006.

هدى علاء الدين (بيروت)
الاقتصاد عرض سبائك الذهب في مكتب «غولد سيلفر» في سنغافورة (رويترز)

مجدداً... الذهب في مستوى قياسي بفعل رهانات الفائدة وضعف الدولار

سجل الذهب مستوى مرتفعاً جديداً يوم الأربعاء، بدعم من ضعف الدولار الأميركي، وآمال خفض أسعار الفائدة مجدداً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد رجل عند مخرج مصفاة نفط في مقاطعة شاندونغ بالصين (رويترز)

النفط يتراجع وسط مخاوف من عدم قدرة خطط التحفيز الصينية على دعم الطلب

تراجعت أسعار النفط يوم الأربعاء، مع إعادة المستثمرين تقييم قدرة خطط التحفيز الصينية على دعم الاقتصاد بما يكفي لدفع مزيد من نمو الطلب على الوقود.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.