«سد النهضة» الإثيوبي قضية أمن قومي لمصر

خبراء لـ(«الشرق الأوسط»): كل احتمالات التصعيد واردة.. والضربة العسكرية مستبعدة

سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي
سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي
TT

«سد النهضة» الإثيوبي قضية أمن قومي لمصر

سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي
سد الهضبة الاثيوبي.. خطر حقيقي على أمن مصر القومي

في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، اعترف وزير الري والموارد المائية المصري السابق، الدكتور محمد نصر الدين علام، بوجود أخطاء في تعامل الإدارة المصرية مع ملف السد الإثيوبي. وأكد حدوث نوع من التهاون، من منطلق الحرص على عدم تصعيد الموقف مع أديس أبابا وخلق عداوات، في فترة الثورة المصرية. بينما صرح الدكتور محمد العرابي، وزير الخارجية المصرية السابق، لـ«الشرق الأوسط»، بأن السياسة الخارجية لم تخطئ، وأن الخطأ كان من جانب الدولة حين أوكلت ملف سد النهضة الإثيوبي لجهة فنية متمثلة في وزارة الري.
مشروع سد النهضة الإثيوبي أصبح مثار جدل كبير، بعد إعلان إثيوبيا عن إقامته دونما انتظار موافقة الجانب المصري أو التوافق معه. وفي الوقت الذي يحتفل فيه الإثيوبيون بالسد بوصفه مشروعا قوميا وانطلاقة للتنمية والتطور، يعده المصريون كارثة حقيقية تهددهم بالموت عطشا، وربما جوعا أيضا، بسبب تأثيراته السلبية على حصة مصر من المياه وعلى مشروعاتها الزراعية. وقد أدى فشل الحوار التفاوضي بين مسؤولي الدولتين، في جولاته المتتابعة، إلى تسخين الأجواء بين أديس أبابا والقاهرة، وتصاعد التوتر إلى درجة الحديث عن احتمالات اللجوء إلى عمل عسكري، أو توجيه ضربة خاطفة لتدمير السد. وقد ساهمت زيارة المشير عبد الفتاح السيسي إلى روسيا أخيرا، في زيادة القلق حول الموقف المصري، وتوابع التصميم الإثيوبي على المضي قدما في بناء السد على النيل الأزرق، أحد روافد نهر النيل.
وقد طرحت هذه التطورات أسئلة كثيرة حول مستقبل ملف السد الإثيوبي والتعاطي المصري الرسمي معه، واحتمالات التصعيد من الجانبين.
يرى الخبير الاستراتيجي اللواء جمال حواش، أستاذ إدارة الأزمات والتفاوض في أكاديمية ناصر العسكرية، أن ملف السد الإثيوبي سياسي يرتبط بالأمن القومي لمصر، ويجب عدم التهوين من شأنه، على حد قوله. وأضاف في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن سد إثيوبيا واحد من 34 سدا كان مخططا لها هناك، ما يعني أن المسألة لم تكن مفاجئة لمصر، ولكن الحكومات الفائتة غضت الطرف عما يجري، وآخره ما حدث في عهد الرئيس مرسي من تراخ. وللأسف بدأت المخاطر تهل بحدوث زلازل في المنطقة، هي أولى توابع السد، لأن البحيرات الصناعية تؤدي إلى حدوث الزلازل. لذلك لا يمكنهم رفع حجم المخزون إلى 164 مليار متر مكعب، وهو ما يعادل مخزون السد العالي في مصر، نظرا لاختلاف الجيولوجيا، وعدم قدرة الأرض على تحمل ضغط هذه الكمية من المياه. كما أن السد لا يملك قدرة على الثبات، وبالتالي أعيد فتح المسألة الآن، لأنهم لم يجدوا من يقف لهم، بعد أن تحول الملف إلى وزارة الموارد المائية، رغم أنه كان ملفا أمنيا قوميا لدى اللواء الراحل عمر سليمان، الذي لم يكن يسمح لهم بالتفكير في المشروع. لذلك لم يطرح إلا بعد وفاته مباشرة. وساهم في تعقيد الأمر ما تمر به مصر منذ أحداث الثورة، بالإضافة إلى الإزعاج الذي تعرض له التنظيم الدولي في العالم، والموقف الأميركي، وتوالي المعونات المقدمة إلى إثيوبيا، من هنا وهناك، بحكم المثل القائل «إن المصالح تتصالح»؛ لذلك فإن إثيوبيا الآن تتحدث عن سد كامل السعة، بعد أن كانت تتحدث عن سد لا تتجاوز سعته 30 مليار متر مكعب، وإلى جانب ذلك، فإننا نتحمل نتيجة إهمالنا أفريقيا خلال السنوات الماضية.
وعن الحلول، أكد حواش أن أسلم حل هو «الرجوع إلى التفاوض جنبا إلى جنب، مع دعم قدراتنا، وإبراز قوتنا، في إطار الرد من دون أن نلجأ إليها. لذلك فإن زيارة المشير السيسي إلى روسيا حملت رسالة مهمة لكل الأطراف، ليعرفوا أننا لن نقف عند السلاح الأميركي. لكن هذا لا يعني إعلان الحرب، فهذا ليس من الحكمة، لأن أفريقيا هي عمق مصر وامتدادها، وليس من المعقول التلويح بحرب في هذه المنطقة، في هذا الوقت الذي تقف فيه المؤسسات الدولية ضد مصر، وعلى رأسها الأمم المتحدة وحلف الأطلنطي الذي يدافع عن تركيا في حال تعرضها لأي مكروه في إثيوبيا، بحكم دعمها للسد الإثيوبي». وقال: «إن دق طبول الحرب ضد إثيوبيا معناه أن مصر تقدم دعوات لجميع دول العالم للتدخل، بحكم كون إثيوبيا دولة صغيرة ليست بحجم مصر».
وأكد اللواء جمال حواش أن المناخ الدولي والإقليمي غير ملائم أيضا حتى لتوجيه ضربة خاطفة. وقال إنه لا بد من فتح نوافذ التصالح، وإن اضطرت مصر لخلق الوسطاء فهذا ليس عيبا، سواء كان الوسيط عاديا أو مفاوضا يحل محل أحد الأطراف للكلام باسمهم، لضمان ما جرى الاتفاق عليه، مع الأخذ في الاعتبار أن باقي الكتل تعمل لمصالحها، ونعول كثيرا على الدول العربية ودورها في دعم موقف مصر.
وختم قائلا إن هناك أساليب أخرى يمكن العمل بها من دون إعلان تفاصيلها، بالترافق مع المساعي الحثيثة التي لا تضر ومن دون أي انفعال.
* جدل مبكر
* الدكتور حيدر إبراهيم، المفكر والباحث السوداني، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الموضوع يتحرك في إطار دعاية جاهلة، وتصدر سياسيين لمشهد يتطلب خبراء متخصصين، لأن هناك جوانب فنية وتخصصية تتعلق بموضوع السد، هي التي يجب أن تكون لها الكلمة العليا، لكن ما يحدث هو أن الموضوع أخذ بعدا سياسيا مبالغا فيه، بدليل تضارب تصريحات المسؤولين في الحكومتين السودانية والمصرية؛ فهم يتكلمون بوصفهم سياسيين وليس متخصصين في المياه والسدود. مما ساهم في تعكير صفو الأجواء، وتحويل المسألة من قضية فنية ذات بعد علمي، إلى أزمة سياسية. وأضاف إبراهيم أن سد إثيوبيا الذي أثار كل هذا الجدل، مجرد تصور وخرائط على ورق، تحاول إثيوبيا عرضها على بعض الدول لمساعدتها، لأنها لن تستطيع تنفيذ المشروع وحدها. وبالتالي فأنا أرى أن الموضوع يحمل مبالغة وتهويلا كبيرين. وقال أيضا إن هناك نسبة بخر وفاقدا كبيرا في مياه النيل الأبيض والأزرق، بسبب وجود حشائش تمتص مياههما. ولو قام علماؤنا ببحث كيفية توفير هذا الفاقد، والتخلص من تلك الحشائش لأمكن توفير فائض كبير تستفيد منه دول المصب. بل إن هناك مشكلة يعاني منها الجنوبيون في السودان، بسبب فائض المياه الزائدة، التي تكون مستنقعات، وتتسبب في حدوث الملاريا. ويتمنى السكان لو تخلصوا من هذا الفائض لصالح مصر لتحقيق فائدة مزدوجة، لكن للأسف، لم تطرح هذه الموضوعات. فيما يبقى التركيز فقط على تسييس أزمة سد إثيوبيا من دون معرفة حقيقية بتفاصيل المشروع، حتى وهو مجرد خرائط على الورق، لا لشيء سوى لدواعي الإثارة، وهذه هي آفة شعوبنا للأسف.
* مخاطر جيولوجية
* وحول الجوانب الفنية في سد النهضة الإثيوبي، أكد الدكتور مغاوري شحاتة، خبير جيولوجيا المياه في جامعة المنوفية، لـ«الشرق الأوسط»، أن السد الإثيوبي أصبح أمرا واقعا، بعد أن ثبتت إثيوبيا قواعد البنية الأساسية الخاصة به. وقد أعلن المسؤولون الإثيوبيون أنه ابتداء من سبتمبر (أيلول) المقبل سيجري حجز المياه خلف السد، مما يؤثر على حصة مصر.
وأضاف أن سبب الجدل المثار حول السد الإثيوبي المزمع بناؤه على نهر النيل، يتعلق بالمخاطر الكثيرة المترتبة على توابعه؛ لأن منطقة السد لها طبيعة خاصة من الصخور القاعدية، وهي نوع من الصخور المكونة لقشرة الأرض. كما أن ثلثي تكوين حوض نهر النيل الأزرق، في جزئه العلوي، من البازلت، أي أن المياه ستحمل ركاما من صخور بازلتية. كما أن جسم السد يتكون من خرسانة وفتحات للتوربينات، بالإضافة إلى جسم سد آخر ملحق به، وهو سد ثانوي ترابي ركامي، بامتداد 4800 متر، وسعته التخزينية 63 مليار متر مكعب، لتصل الطاقة الإجمالية للتخزين في السدين معا إلى أكثر من 90 مليار متر مكعب، بعد إضافة المياه الجوفية. هذا يعني أن نحو90 مليار طن من المياه ستقع على هذا الجزء الجرانيتي المتشقق، الذي يعاني من الفواصل والكسور، وربما تحدث بعض الهزات الأرضية في المنطقة تصل قوتها إلى ست درجات على مقياس ريختر، تهدد جسم السدين معا، وتعرضهما للانزلاق والانهيار، ما يعرض السودان إلى خطر الفيضان والإغراق، لدرجة اختفاء مدينة الخرطوم بالكامل. كما ستطال الأراضي المصرية، بعض هذه الكوارث. هذا إلى جانب مشكلات أخرى هندسية وفنية، كشفتها دراسات وتقارير اللجنة الثلاثية الدولية، حيث أشار الجانب الألماني إلى أن السد يقع فوق منطقة هندسية تكتونية ديناميكية متحركة وغير آمنة، ما يعرض السد للتدمير بسبب كتلة المياه وكتلة السدين معا، إلى جانب مخاطر تتعلق بحدوث تفاعلات بين المياه والصخور.
وكشف خبير جيولوجيا المياه لـ«الشرق الأوسط» عن أن الجانب الإثيوبي أسند مهمة إقامة السد، بالأمر المباشر، إلى شركة إيطالية. ووضعت مواصفاته على عجل، وهذا على غير المألوف في مثل هذه المشروعات القومية، وذلك لسباقهم مع الزمن والسرعة في إتمامه، رغم أن المفروض هو إنجازه على مراحل وفق دراسات علمية متخصصة.
وأكد د. مغاوري شحاتة أن هناك خطأ في تصميم السد، حيث تتدفق المياه عبر جسم السد، مما يعرضه للخطر، فضلا عن المخاطر البيئية. وقال إنه كان يجب على الجانب الإثيوبي أن ينصت لمصر، ويتوجه لبدائل أخرى لتوليد الطاقة الكهربائية المطلوبة، عبر مجموعة من السدود الصغيرة التي يقل ضررها وتأثيرها على الأمن المائي المصري. لكن إثيوبيا متمسكة بالعناد رغم أن السد يتكلف عشرة مليار دولار، ولا يزيد عمره الافتراضي على 15 سنة. لكن هناك أطرافا دولية في الموضوع، وعلى رأسها تركيا التي لا أفهم سر إصرارها على نقل خبراتها السلبية في سوريا والعراق إلى إثيوبيا في مواجهة مصر. لكن المسألة ترتبط بنواح سياسية، ولا تجري في إطار التعاون الودي المفترض، فيما بين دول حوض النهر الواحد.
* إثيوبيا لا تقوى على التراجع
* ومن جهة أخرى، قال حلمي شعراوي، مدير مركز البحوث العربية والأفريقية في القاهرة، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن المسؤولين المصريين يتحملون المسؤولية تاريخيا عما حدث من إرباك المشهد المتعلق بسد النهضة الإثيوبي. بالإضافة إلى أننا معروفون في العالم بإهدارنا للمياه، فيما بين 10 و15 مليار متر مكعب سنويا، بسبب سوء التعامل مع نهر النيل. لكن مع ذلك، فهذا لا يعني أن يأتي الطرف الإثيوبي ويضربني من خلال القفزة الكبيرة التي قامت بها الحكومة الإثيوبية في السعة التخزينية للسد؛ فقد كانت تتحدث، في بداية الأمر، عن 17 مليار متر مكعب كحد أقصى يجري تخزينها خلال 7 إلى 15 سنة، حتى فوجئنا بتلك الطفرة في سعة التخزين، وربما كان ذلك دافع الحكومة المصرية في التعامل مع الأمر، وكأنه غير مضر لمصر آنذاك.
وأضاف شعراوي، مع ذلك، فإن الحكومة المصرية لا تستطيع الضغط على إثيوبيا لإيقاف المشروع؛ لأن الصورة التي لا يعلمها الكثيرون أن إثيوبيا أصغر جزء في الموضوع، وهي لا تملك التراجع، لأن الأمر يتعلق بالرأسمالية العالمية، وفكرة عولمة مشروعات المياه لاستغلال الطاقة، ومنها مشروعات نهر النيل؛ فمشروع سد النهضة الإثيوبي ليس مجرد مشروع ثنائي أو بسيط، وإنما مشروع عالمي؛ فحوائط السد هي استثمار إيطالي، وإنتاج الطاقة استثمارات هندية - صينية. وهناك شركة صينية ستقوم بنقل الكهرباء، بينما تقوم إسرائيل بالتسويق للمنتج، يعنى كسمسار. ومن حق مصر كسوق كبيرة التفكير في المشاركة في الاستثمارات.
* الحل العسكري خطأ
* وحول إمكانية اللجوء إلى الحل العسكري أو توجيه ضربة عسكرية لسد إثيوبيا، قال اللواء عادل سليمان، الخبير الاستراتيجي ورئيس منتدى الحوار الاستراتيجي، لـ«الشرق الأوسط»، إنني أختلف تماما مع من يروجون لفكرة توجيه ضربة عسكرية لإثيوبية، بل أرى هذه التصريحات نوعا من العبث، لأنه لا يصح أبدا أن نقول هذا الكلام ونحن كنا دولة تساند أفريقيا في الماضي. كما أن عصر الضربات العسكرية انتهى، ولا يمكن مقارنة موضوع سد إثيوبيا بموضوع الحفار الذي جرى خطفه في عملية استخباراتية بحتة؛ فنحن لسنا في حالة حرب، ودول حوض النيل تنقسم إلى دول منبع وممر ومصب، والمفروض أن تكون هناك مصلحة مشتركة في التعاون والاتفاق حول كيفية استغلال مياه المورد الضخم، علما بأن هذا المورد لا نستفيد تقريبا إلا بنحو ستة في المائة منه فقط، والباقي يجري فقده، ومن حق دولة إثيوبيا أن تقيم مشروعات للتنمية والتطوير وتوليد الطاقة، بعد أن عاشت لسنوات محرومة من هذه المشروعات. ومن ثم ليس من حقنا اللجوء إلى الحل العسكري، ولا يمكن أن نستطيع القيام به، لا ماديا ولا جغرافيًّا. بل بالعكس، إنني أرى أن مثل هذه التصريحات العدائية في مصر تسبب لنا المشكلات، لكن من ناحية أخرى يمكن لمصر أن تلجأ إلى المؤسسات الدولية، وتتقدم بشكوى ليس لطلب هدم السد، وإنما لتشكيل لجنة محايدة ومتخصصة، تبحث وترصد أضرار السد وتوابعه، وكيفية الحل، ولكن للأسف سوء الإدارة في الحكومة المصرية، وفشل السياسة الخارجية المصرية في تناول ملف السد وراء هذه الأزمة الآن، وكان المفروض أن يتجه المسؤولون المصريون إلى التفاهم مع دول النيل دون تعالٍ، وأن تجري مناقشته في إطار أن موضوع السد موضوع فني سياسي مزدوج، يتعلق بمصدر مهم وحيوي للمياه يؤثر علينا، ومن ثم مطلوب التعامل فنيا وسياسيا مع الموضوع وبكفاءة عالية ومدروسة جيدا، وفي إطار تعاون بين دول حوض النيل، ولا ننسى أننا دولة مصب وإثيوبيا دولة منبع.
* تقصير مصري
* وردا على الاتهامات الموجهة، أخيرا إلى وزارات الموارد المائية المتعاقبة في مصر، بالتقصير في ملف سد إثيوبيا، قال الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري، خلال الفترة من 11 مارس (آذار) 2009 حتى 30 يناير (كانون الثاني) 2011، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن إثيوبيا استغلت فترات الثورة المصرية وأحداثها المتلاحقة في الإسراع بإقامة السد، وإن كان هناك خطأ في الإدارة المصرية بلا شك في تعاملها مع هذا الملف، وحدث نوع من التهاون، ولكن كان ذلك من منطلق الحرص على عدم تصعيد الموقف مع إثيوبيا وخلق عداوات في فترة صعبة وغير مستقرة آنذاك.
وأوضح الوزير علام لـ«الشرق الأوسط» أن مخطط سد النهضة بدأ منذ عام 1964، ردا على بناء السد العالي بمصر. وكانت أميركا قد أرسلت بعثة كبيرة عام 1958 حول إقامة عدد من المشروعات، منها أربعة سدود كبرى، أحدها يدعى سد الحدود ويعرف الآن بسد النهضة. وكانت سعة هذا السد حتى عام 2010 عشرة مليار متر مكعب، ثم قفزت إلى 14 مليارا. وقد حاولت إثيوبيا على مدار التاريخ إقامة هذا السد، لكنها لم تفعل احتراما لزعامة عبد الناصر. ثم تقدمت بشكوى ضد مصر عام 1959، أعقبها قيامها بفصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية بعد 1624 سنة من الارتباط، ثم تجددت المناوشات في عهد السادات فتوقفت أديس أبابا عندما هددها بهدم السد، وتفضيل المصريين للاستشهاد في إثيوبيا على الموت عطشا. وتكرر الموقف نفسه في عهد مبارك، أيام المشير أبو غزالة، ثم أيام عمر سليمان الذي هدد بتحطيم أي منشأة خاصة ببناء السد على نهر النيل.
وحول دور الجانب المصري في هذا الموضوع، أوضح وزير الري والموارد المائية السابق، أن إثيوبيا دخلت مخطط السدود عام 2005، وطالبت مصر باستيفاء الدراسات الخاصة بالآثار الضارة للسد عليها، ثم رفض الجانب المصري تلك الدراسات، ورفض إقامة أي سد، حتى يجري الأخذ في الاعتبار تلك الآثار.
وأضاف أنه بعد الثورة المصرية ظهرت تسريبات إثيوبية حول إقامة سد مكان سد الحدود. وخلال شهرين جرى التوقيع مع الشركة الإيطالية بشكل سريع ومخالف لإجراءات القانون الدولي، من وجوب إخطار مصر قبل الإقدام على هذه الخطوة. وبعدها سافر رئيس الوزراء آنذاك، عصام شرف، واتفق على تشكيل لجنة ثلاثية لتقييم الدراسات الإثيوبية. وهنا كان خطأ الإدارة المصرية، وتهاونها في الحيلولة دون تصعيد الموقف. وكانت النتيجة أن هذه اللجنة كانت استشارية، ورأيها غير ملزم. والغريب أنه قبل يومين من انتهاء تلك اللجنة من تقريرها، جرى تحويل مجرى النيل الأزرق، مما أدى إلى تصاعد الأزمة، خاصة أن اللجنة انتهت إلى أن الدراسات الإثيوبية غير متكاملة. وبعد أحداث 30 يونيو (حزيران)، وبدلا من التفاوض حول حجم السد وأضراره الشديدة على مصر، رفضت إثيوبيا وجود خبراء دوليين، واكتفت بالمحليين. ورغم أن الخطأ المصري غير مقصود، فإنه أدى إلى فرض إثيوبيا أسلوبها على المفاوض المصري والسوداني.
وعن إمكانية اللجوء إلى التحكيم الدولي، قال د. نصر الدين علام إنه لا بد أن يوافق الطرفان على اللجوء إلى التحكيم الدولي. وموقف إثيوبيا واضح، فهي لن توافق، ولكن هناك وسيلة أخرى مثلما فعل الفلسطينيون مع إسرائيل، بخصوص الجدار العازل، حيث جرى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، من خلال طرق باب الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهنا يمكن الحصول على فتوى قانونية خلال سنة أو أكثر قليلا، تستخدمها مصر كورقة ضغط سياسي على إثيوبيا. وأنا أؤكد أنه لن يستكمل سد إثيوبيا بهذه المقاييس، ولن تسمح مصر بذلك، وستستخدم كل الوسائل المتاحة.
* إقناع العالم أولا
* خبير المياه الدولي الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، أبدى أيضا تحفظه على فكرة اللجوء إلى الحل العسكري، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن مصر لا تستطيع القيام بأي عمل عسكري ضد سد إثيوبيا، قبل أن تقنع العالم أولا بعدالة القضية المصرية؛ فإثيوبيا ترسي بتصرفها هذا مبدأ فوضى إقامة السدود في العالم، وفرض مبدأ السيادة المطلقة على مرفق مشترك. وهو أمر لا يجوز، لكنها نجحت في إقناع العالم بأن مصر هي التي تكره الخير لإثيوبيا، وأن المصريين يسرقون مياه نهر النيل رغم أن تقدير الأمم المتحدة يشير إلى أن إثيوبيا تحصل على 122 مليار متر مكعب من الأنهار فقط، يذهب منها 71 مليارا لنهر النيل. كما أن موقف أديس أبابا مخادع، إذ إن لدى الإثيوبيين 13 سدا، وسد النهضة هو رقم 14، كما أنه سيتبع بمجموعة من السدود التي تخزن ما يقرب من 200 مليار متر مكعب، وهو أمر خطير؛ لذلك لا بد لمصر من أن توضح للعالم حقيقة الأمر، لكننا للأسف أصحاب قضية عادلة لكن محاميها ضعيف، مما أفشل القضية نفسها، حيث تركت الساحة الخارجية للإثيوبيين فقط، وكأننا كنا مغيبين، رغم الخسارة الكبيرة التي تعود على مصر بسبب سد النهضة، حيث إن حجز 74 مليار متر مكعب وراء هذا السد، على مدار ثلاث سنوات، من النيل الأزرق الذي لا يتجاوز إجمالي مياهه 48 مليار متر مكعب، سيعني نقص 25 مليار متر مكعب من حصة مصر خلال تلك الفترة، بما يتبعه تبوير خمسة ملايين فدان، وبعد ذلك يصبح هناك 12 مليار متر مكعب مخصومين من حصة مصر سنويا، بما يعني تبوير 2.5 مليون فدان على الأقل، أي أن نحو 30 في المائة من الأراضي الزراعية المصرية ستبور، وبالتالي تزداد الفجوة الغذائية وفجوة المياه، ومن ثم فإذا كان سد إثيوبيا يكلفها نحو تسعة مليارات دولار، فإنه سيسبب خسائر لمصر تصل إلى نحو 20 مليار دولار، لكن العالم لا يعرف هذه التفاصيل، وحجتنا غائبة عنه.
ويطالب نور الدين المسؤولين المصريين بتقديم شكوى للاتحاد الأفريقي أولا، ثم الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لحشد الرأي العام العالمي، وعلينا رفع قضية أمام محكمة العدل الدولية؛ لأن اللجوء إلى التحكيم غير مجدٍ لتطلبه موافقة إثيوبيا أيضا، وهو ما لا يحدث.
وأكد دكتور نبيل نور الدين أن الوقت «ليس في صالحنا، لأن الجانب الإثيوبي رفض وقف بناء السد لحين التوافق عليه». لذلك ليس أمامنا إلا التحرك سريعا خلال ثلاثة إلى ستة أشهر مقبلة، قبل أن يبدأوا في حجز المياه أواخر هذا العام.
وردا على اتهام السياسة الخارجية المصرية بالضعف والتهاون في تعاملها مع ملف سد النهضة الإثيوبي، قال الدكتور محمد العرابي، وزير الخارجية المصري السابق، إن الخارجية المصرية لم تقصر، وإنما التقصير جاء من الدولة كلها؛ لأن التعامل مع هذه القضية كان يستلزم تشكيل لجنة عليا على غرار اللجنة الخاصة بقضية طابا المصرية، لكن للأسف جرى تسليم الملف لجهة فنية تمثلت في وزارة الري - مع احترامنا لها - لكنها لم تصل إلى نتيجة مرضية، وهو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، لكن ذلك لا يعني دق طبول الحرب، بل يتطلب الأمر ممارسة مصر للدبلوماسية الصارمة مع إثيوبيا، خاصة أن الأخيرة اتخذت موقفا هجوميا ضد مصر، بعد ثورة يناير، وتساقط أجهزتها السيادية في تلك الفترة. وأضاف الوزير العرابي أن إثيوبيا الآن تطبق بمهارة الدعوة إلى التفاوض على جولات بهدف كسب الوقت، وهو أمر معروف في الدبلوماسية، مشيرا إلى أن قضية سد إثيوبيا لن تموت خاصة مع إبراز المخاطر الجيولوجية، على كل الدول وليس مصر وإثيوبيا فقط، وعرض هذا الملف على المجتمع الدولي، وعندها سنصل إلى نتيجة هذا إلى جانب العمل بالتوازي مع بدائل أخرى، كتحلية المياه واستخدام المفاعلات النووية وغيرها من المشروعات البديلة.



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.