تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية كشفت أعمال التنقيب المستمرة فيها عن مجموعة استثنائية من الأنصاب الحجرية الجنائزية. تعود هذه الأنصاب إلى الحقبة الهلنستية التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس، وتشهد لتقليد فني مميّز اتخذ في البدء طابعاً تجريدياً صرفاً. ساد هذا التقليد بين القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، ثم تحوّل تدريجياً، وجنح نحو أسلوب تصويري خاص ظهرت معالمه الأولى في تلك الحقبة. اختمر هذا الأسلوب التصويري في مرحلة لاحقة، ومع اختماره ظهر تقليد فني مغاير تمثّل في بروز طراز محلي في النقش والنحت الناتئ.
عُثر على هذه الأنصاب في مقابر عدة، منها تلك التي تقع شمال غربي قرية الشاخورة، على بعد نحو 700 متر جنوب «شارع البديع»، شمال العاصمة المنامة. تُعدّ هذه المقبرة من بين أكثر المدافن الأثرية ثراء ووفرة في البحرين، ومنها خرج مخزون ثري من اللقى الجنائزية المتعددة الأنواع، شمل أواني خزفية، وأوعية حجرية وخشبية، ومجسمات طينية، وقطعاً من العقود والحلى، إضافة إلى مجموعة من شواهد القبور، تختزل في تعدّد طرزها تطوّر هذا النتاج بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني للميلاد. يتبنّى الطراز الأقدم نسقاً تجريدياً صافياً، ويأتي على شكل نصب عمودي يتكون من مساحة مستطيلة تمثل البدن الآدمي، تعلوها مساحة دائرية تمثل رأس هذا البدن. يُعرف هذا الطراز باسم «نفيش»، وهو تعبير آرامي، يوازيه في العربية تعبير «نفس»؛ أي النفس الآدمية، ويتمثّل في شاهد يُغرز في الأرض، ووظيفته كما يبدو تحديد موقع القبر، وتخليد ذكرى المتوفى.
من مقبرة «الشاخورة»، خرجت شواهد عدة تتبع هذا النسق، عُثر عليها خلال حملة تنقيب محلية جرت في مطلع تسعينات القرن الماضي. تماثل هذه القطع في تأليفها قطعاً خرجت من مقابر تقع في قرى مجاورة وتحمل اسمها، أبرزها مقبرة الحجر، ومقبرة أبو صيبع، في المحافظة الشمالية. في المقابل، نقع على قطع مماثلة خرجت من جزيرة تاروت التي تتبع إدارياً محافظة القطيف في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وتُعدّ رابع أكبر جزيرة في الخليج العربي. تعود هذه القطع إلى الحقبة نفسها، وتشهد لشيوع هذا الطراز في مواقع عدة من ساحل الخليج العربي.
بالتزامن مع شيوع هذا الطراز، ظهرت اتجاهات جديدة في النقش تشير إلى خروج محدود من هذا النسق التجريدي، وأشهر الأمثلة نصب من الشاخورة عُرض في باريس سنة 1999 ضمن معرض خصّص لآثار البحرين في «معهد العالم العربي»، وهو اليوم معروض في متحف «اللوفر» منذ 2022، وذلك ضمن مجموعة من تحف استعارها المتحف الفرنسي العريق من المتاحف البحرينية، حيث تـعرض لمدة خمس سنوات في معرض تعريفي يحمل عنوان «من دلمون إلى تايلوس». يبلغ طول هذه المسلة 47 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً، وتتميّز بظهور هالة حول دائرة الرأس، وبروز خجول للطرف الأعلى من الذراع اليمنى، إضافة إلى بروز طفيف للحية مروّسة في أسفل الوجه المجرّد. تشير هذه السمات إلى بداية ظهور اتجاه تصويري، تتجلّى ملامحه في قطعة من الحجم الصغير، تحضر اليوم إلى جانب هذه المسلة في متحف «اللوفر». وفقاً للتقليد المتّبع، تحلّ كتلة الرأس البيضاوية فوق كتلة الصدر المستطيلة في قالب مختزل. وتظهر السمات التصويرية في نتوء الصدر الأنثوي، وبروز ملامح الأنف بشكل طفيف في وسط الوجه، وحضور الذراعين الملتفتين بشكل واضح حول محيط الصدر.
تتجلّى ملامح هذا الاتجاه التصويري في قطعة أخرى عُرضت كذلك ضمن المعرض الذي أقيم في «معهد العالم العربي» منذ سنوات. تأتي هذه المسلة على شكل تمثال نصفي يمثّل الرأس والجزء الأعلى من البدن، ويبلغ طولها 35 سنتيمتراً، وعرضها 21 سنتيمتراً. يحل الرأس على شكل كتلة نصف بيضاوية، يتوسّطها أنف طويل مستطيل بارز، تحدّ طرفه الأعلى عينان مستطيلتان مجرّدتان غاب عنهما أي أثر للبؤبؤ. تحت هذا الأنف الضخم، يحضر الفم، ويتمثّل في شفتين صغيرتين مطبقتين يفصل بينهما خط غائر. أعلى الرأس مسطّح وأملس وعار تماماً، وأسفله مقوّس، ويوحي طول ذقنه بحضور لحية مروّسة خفيّة. يستقرّ هذا الوجه فوق رقبة عريضة تتوسّطها مساحة عمودية ناتئة، ويظهر الصدر على شكل كتلة مسطّحة تشكّل قاعدة لهذه العنق الطويلة.
من مقبرة «الشاخورة» خرجت شواهد عدة تتبع هذا النسق عُثر عليها خلال حملة تنقيب محلية جرت في مطلع تسعينات القرن الماضي
في معرض «معهد العالم العربي، ظهر هذا النصب المميز إلى جانب نصب آخر يتبع هذا النسق التصويري الآدمي المختزل، مصدره مقبرة تُعرف باسم «المقشع»، وهو اسم قرية تقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات تقريباً، وتطل على شمال «شارع البديع». يبلغ طول هذا النصب 28 سنتيمتراً، وعرضه 13 سنتيمتراً، ويتميّز بعينين لوزيتين ضخمتين مجرّدتين، يحيط بكلّ منهما إطار موازٍ عريض وناتئ. يستقر الأنف وسط هاتين اللوزتين، وهو على شكل مساحة مستطيلة فقدت الجزء الأسفل منها. تغيب شفتا الفم خلف شاربين مقوّسين يعلوان لحية مثلثة مستطيلة على شكل نصف دائرة. وتحضر الأذنان على شكل دائرتين مجرّدتين تحدّان طرفي وسط كتلة الرأس البيضاوية. تحجب هذه اللحية المختزلة العنق، وتشكل قاعدة للرأس الذي يعلو كتلة الصدر المستطيلة. كما جرت العادة، يخلو هذا الصدر الأملس من أي مساحات ناتئة، ويبدو كأنه خالٍ من أي أضلع.
تشكل هذه القطع الثلاث كما يبدو بداية لانطلاق اتجاه تصويري جديد في النحت والنقش، تتضح ملامحه بشكل كامل في القرنين الأولين، من خلال مجموعة كبيرة من المسلات، عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في عدد من المقابر الأثرية، أبرزها مقبرة «الشاخورة» ومقبرة «المقشع» وقلعة البحرين. تتبع هذه المسلات طرزاً عدة يجمع بينها الطابع التصويري الآدمي الجنائزي، وتشهد لنشوء فن خليجي محلي يشابه في تكويناته نتاج الحواضر الشرقية التي جمعت بين التقاليد اليونانية والفارسية في قوالب خاصة بها، كما في تدمر السورية، والحضر العراقية، والبتراء الأردنية.