إن كان للمفارقات التاريخية تعريف، فإنه يتجسّد بلا شك في وزيرة آيرلندا الشمالية الأولى ميشيل أونيل. أونيل، التي باتت أول «قومية آيرلندية» وأول كاثوليكية تتولى هذا المنصب في تاريخ آيرلندا الشمالية، كرّست حياتها السياسية لإنهاء وجود هذا الكيان بشكله الحالي وإعادة توحيده مع جمهورية آيرلندا، وها هي اليوم تتبوّأ أعلى مناصبه التنفيذية. وللعلم، رغم انتخابها في مايو (أيار) 2022، لم تتسلم أونيل مهامها إلا مطلع الشهر الحالي بعد انجلاء أزمة سياسية عرقلت العمل التشريعي والتنفيذي في آيرلندا الشمالية قرابة سنتين. وعبر خطابها في قصر ستورمونت (مقر البرلمان الآيرلندي الشمالي) التاريخي، أكّدت أونيل أنها تسعى لخدمة جميع مواطني آيرلندا الشمالية؛ في مسعى لطمأنة «الاتحاديين» الداعمين للمملكة المتحدة. فهل ستنجح أونيل في تمثيل «المجتمع بأطيافه كافة»؟ وكيف ستسهم نشأتها وتاريخ أسرتها في بلورة سياساتها؟
منذ دخول ميشيل أونيل عالم السياسة، ارتبطت صورتها بتاريخ انخراط أسرتها في أحداث العنف الأهلي الدامية التي عرفت بـ«الاضطرابات»، التي أودت بحياة أكثر من 3600 شخص وامتدّت 30 سنة، قبل أن تلجمها «اتفاقية الجمعة العظيمة» المبرمة عام 1998 بين «الاتحاديين» (وجلهم من البروتستانت) و«القوميين» (وجلهم من الكاثوليك).
النشأة والعائلة
وُلدت ميشيل دوريس أونيل (دوريس اسم عائلتها) يوم 10 يناير (كانون الثاني) 1977 في بلدة فيرموي بأقصى جنوب جمهورية آيرلندا، لكنها تنحدر من كلونوي في محافظة تايرون، لعائلة من خلفية جمهورية آيرلندية.
سُجن والدها برندان دوريس، قبل ولادتها، بسبب انتمائه لميليشيا «الجيش الجمهوري الآيرلندي» المحظورة في بريطانيا والمتهمة بنحو نصف ضحايا الصراع وآلاف الانفجارات إبان فترة «الاضطرابات». وأصبح برندان بعد ذلك عضو مجلس محلي ممثلاً حزب «شين فين» في بلدة دونغانون خلال الثمانينات. أما عمها، بول دوريس، فكان رئيساً لمجموعة «نورايد»، وهي مجموعة جمهورية ناشطة في جمع التبرعات.
بل إن ابن عمّها توني دوريس، كان أحد ثلاثة مسلحين تابعين لـ«الجيش الجمهوري الآيرلندي» قُتلوا في كمين نصبته الخدمة الجوية الخاصة التابعة للجيش البريطاني عام 1991. وكان توني يقود فرقة اغتيالات في قرية بمحافظة تايرون، وتعرّض لإطلاق رصاص كثيف جعل من الصعب التعرف على جثّته. وفي حادثة أخرى عام 1997، أصيب قريب آخر لميشيل أونيل، هو المتطوّع في «الجيش الجمهوري الآيرلندي» غاريث ملاكي دوريس، بالرصاص.
تعليمها ومسيرتها المهنية
تلقت ميشيل تعليمها في مدرسة «أكاديمية سانت باتريك» للفتيات في دونغانون. وفي سن الخامسة عشرة، عندما كانت لا تزال تلميذة، حملت أونيل بطفلها الأول. وهي تستذكر تلك الفترة بألم ممزوج بالامتنان. إذ قالت في إحدى المقابلات الصحافية مع «ذي آيريش تايمز» إنها كانت تُعامل في المدرسة كما لو كانت «مصابة بالطاعون». وأضافت: «لن أنسى تلك التجربة أبداً. والتزمت بيني وبين نفسي أن أحداً لن يعاملني بهذه الطريقة مرة أخرى».
وفي مقابلة مع شبكة «سكاي نيوز»، تحدّثت أونيل عن الصعوبات التي واجهتها في تربية ابنتها «سيرسي» في مجتمع آيرلندا الشمالية الكاثوليكي المحافظ في التسعينات. وقالت: «تم وضعي في خانة: أم عازبة وغير متزوجة، تم شطبها (من المجتمع) تقريباً. لكنني كنت مصممة على ألّا أشطب اسمي، وأن أعمل بجد وأعيش حياة جيدة من أجل ابنتي». وفي وقت لاحق، رُزقت بابن، وأصبحت في عام 2023 جدة.
في المقابل، عبّرت ميشيل أونيل عن امتنانها الشديد لأسرتها، وخاصة لأمها التي استقالت من عملها كي تهتم بحفيدتها وتتيح لابنتها استكمال دراستها. وقالت أونيل في فيديو نشرته على حساباتها بمنصات التواصل الاجتماعي «لقد تخلت أمي عن العمل حتى أتمكن من العودة إلى المدرسة... لقد بقيت في المنزل، وتولت مجالسة طفلتي ورعايتها وبذا سمحت لي بالعودة وإكمال تعليمي...».. وبالفعل، عادت إلى «أكاديمية سانت باتريك» لإكمال اختبارات التخرج GCSE. وبعد ذلك، بدأت تدريبها لتصبح محاسبة.
دخول عالم السياسة
تزامن دخول ميشيل أونيل عالم السياسة عام 1998، مع توقيع «اتفاقية الجمعة العظيمة»، وهي اتفاق السلام الذي ساهم في إنهاء 30 سنة من العنف والخراب في آيرلندا الشمالية. وآنذاك انضمّت أونيل إلى حزب «شين فين»، الحزب السياسي القومي المنتشر في عموم الجزيرة الآيرلندية، أي في كل من آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا. وما يذكر أنه لطالما عدّت السلطات البريطانية هذا الحزب «الجناح السياسي» لميليشيا «الجيش الجمهوري الآيرلندي».
وبعد انضمامها، صارت أونيل مقرّبة من نائب زعيم الحزب مارتن ماكغينيس، الذي كان آنذاك مرشّحاً في دائرة ميد آلستر الانتخابية، وأصبح عرّاباً لها في مسيرتها السياسية. وأيضاً، بينما كانت أونيل تعمل مع ماكغينيس وزميله عضو مجلس ميد آلستر فرانسي مولوي، عملت كذلك مستشارة لحقوق الرعاية الاجتماعية.
وفي أعقاب تنحّي والدها برندان عن مقعده في المجلس المحلي (البلدي) لدونغانون وساوث تايرون قبل انتخابات 2005، عقب تشخيصه بمرض مزمن، فازت بمقعده. ولقد توفي الأب بعد أشهر من فوز ابنته بالانتخابات وشغلها مقعده.
على الأثر، انطلقت مسيرة ميشيل أونيل صعوداً وبسرعة، فغدت بعد ذلك أول امرأة تتولى منصب عمدة دونغانون وساوث تايرون. وهذا إنجاز أسعدها جداً، إذ قالت خلال حديث لها عن أبيها «أنا متأكدة أنه لو كان على قيد الحياة، لكان نظر إلي بالرضا والاعتزاز... وافتخر كثيراً بابنته الصغيرة».
وتسارعت المسيرة منذ 2007، عندما انضمت أونيل إلى ماكغينيس ومولوي بصفتها «نائباً» في برلمان آيرلندا الشمالية عن دائرة ميد آلستر. ومن ثم، عُيّنت ناطقة باسم حزبها لشؤون الصحة، كما شغلت مقعداً في لجنة التعليم البرلمانية.
وبعد أربع سنوات من نشاطها في مقر البرلمان بقصر ستورمونت، عيّنها حزب «شين فين» وزيرة للزراعة عام 2011. وفي عام 2016 أصبحت وزيرة للصحة، التي تعدّ واحدة من أكثر الحقائب الوزارية صعوبة وتحديات في آيرلندا الشمالية.
ترقية تاريخية
حصلت أونيل في 2017 على ترقية داخل «شين فين» حملتها خلال فترة قياسية إلى منصب نائب الوزير الأول لآيرلندا الشمالية.
ذلك أنه في يناير من ذلك العام، أعلن مارتن ماكغينيس استقالته من منصب نائب الوزير الأول إثر خلافه مع «الحزب الديمقراطي الاتحادي» (البروتستانتي) حول مخطّط للطاقة. وأدّت هذه الاستقالة إلى انهيار السلطة التنفيذية التي تتقاسم السلطة بين الحزبين الكبيرين في ستورمونت، ما نتج عنه فترة جمود سياسي استمرت ثلاث سنوات.
بل إن ماكغينيس توفي بعد استقالته بوقت قصير، وعندها اختار الحزب ميشيل أونيل لتحل محله نائباً لزعيم «شين فين»، في خطوة وصفتها بـ«أكبر شرف وامتياز» في حياتها.
وبعد ذلك، عندما تجاوز نواب ستورمونت أزمة الفراغ التنفيذي في يناير 2020، مُنهين ثلاث سنوات من الجمود، عُينت أونيل نائبتاً للوزيرة الأولى آرلين فوستر من الحزب الديمقراطي الاتحادي، وجاءت هذه الخطوة عندما كانت جائحة «كوفيد - 19» تعصف بمناطق المملكة المتحدة.
غير أن حدثاً لافتاً سجّل في مايو 2022، عندما أصبح «شين فين» أكبر حزب في برلمان ستورمونت لأول مرة في تاريخ آيرلندا الشمالية. ولقد كرّر هذه النتيجة في انتخابات المجالس المحلية في عام 2023. وحول هذا الأمر، وصفت أونيل الحدثين الانتخابيين بـ«التاريخيين».
ولكن على الرغم من هذا الإنجاز، لم تتمكّن أونيل من شغل منصب الوزيرة الأولى إلا يوم 3 فبراير (شباط) 2024؛ وذلك بسبب فترة جديدة من الجمود فرضها «الديمقراطيون الاتحاديون» على برلمان ستورمونت. ذلك أن الحزب الموالي للدولة البريطانية قرّر مقاطعة حكومة «تقاسم السلطة» لفترة استمرت سنتين، احتجاجاً على اتفاقات «بريكست» التي فرضت عبئاً جمركياً إضافياً على السلع المتبادلة بين آيرلندا الشمالية وبريطانيا.
معادلة دقيقة
اليوم تواجه ميشيل أونيل في منصبها الجديد، بصفتها وزيرة أولى، تحدّياً كبيراً يحتّم عليها المواءمة بين ولائها لأمل «الوحدة الآيرلندية» وتعهدها بخدمة أفراد المجتمع الآيرلندي الشمالي بكل أطيافه.
وحقاً، قالت أونيل في خطاب تنصيبها أمام برلمان ستورمونت متعهدة: «سأخدم الجميع بالتساوي، وسأكون الوزيرة الأولى للجميع... مهما كانت تطلعاتنا، بإمكاننا ويجب علينا أن نبني مستقبلنا معاً. علينا أن نجعل تقاسم السلطة ناجحاً لأننا بشكل جماعي مكلفون بالقيادة وتقديم الخدمات لجميع أفراد شعبنا».
أيضا، عدّت أونيل تعيين وزير أول «جمهوري» «فجراً جديداً» لم تكن تتصوّره الأجيال السابقة من الكاثوليك. وسعت لتأكيد موقفها التصالحي مع لندن عبر حضورها جنازة الملكة إليزابيث الثانية وحفل تتويج الملك تشارلز الثالث، وذلك على الرغم من مواقفها - ومواقف حزبها الجمهوري القومي الآيرلندي - الرافضة لشرعية التاج البريطاني في آيرلندا الشمالية.
هذا، وكانت أونيل قد أثارت حفيظة «الاتحاديين» في آيرلندا الشمالية وبعض السياسيين البريطانيين غير مرة خلال السنوات الماضية. فقد أثارت جدلاً كبيراً في عام 2017، عندما ألقت كلمة أمام تجمع حاشد بمناسبة الذكرى الثلاثين لمقتل ثمانية مسلحين من «الجيش الجمهوري الآيرلندي» على أيدي القوات البريطانية الجوية الخاصة. ويومذاك قُتل الرجال في هجوم شنوه على مركز شرطة يوم 8 مايو 1987. وبمواجهة الغضب العارم بين «الاتحاديين» دافعت أونيل عن حضورها، وقالت إنها «جمهورية آيرلندية»، وإنها حريصة على «إحياء ذكرى موتانا».
كذلك في عام 2022، أصرّت على موقف أزعج كثيرين من «الاتحاديين» بقولها في «بودكاست» لـ«البي بي سي» إنه لم يكن للجمهوريين الآيرلنديين «بديل» عن اللجوء إلى العنف، قبل عملية السلام في التسعينات.
إلى ذلك، تعمد أونيل – مثل معظم «القوميين» والجمهوريين – إلى استخدام عبارة «شمال آيرلندا» بدلاً من «آيرلندا الشمالية»، وإن كانت قد كسرت هذه العادة في بعض المرات منذ تسلمها منصب الوزيرة الأولى.
ثم إنه، بدا أن أونيل لا تزال متمسّكة بتنظيم استفتاء حول «الوحدة الآيرلندية». إذ توقّعت في حوار ببرنامج على قناة «آر. تي. إي» الآيرلندية، أن تشهد السنوات العشر المقبلة تطوّراً في اتّجاه «إصلاحات دستورية» تقود إلى تنظيم استفتاء حول الوحدة الآيرلندية.
وعن قدرتها على تحقيق توازن بين هويتها السياسية ومهامها بصفتها وزيرة أولى لجميع ناخبي آيرلندا الشمالية، قالت أونيل لشبكة «سكاي نيوز» البريطانية: «من الواضح أنني جمهورية بل وجمهورية فخورة. لكنني أعتقد أنه من المهم حقاً أن أتطلع إلى الجمهوريين الآيرلنديين، وإلى أصحاب هوية بريطانية اتحادية على حد السواء، وأن أخبرهم أنني أحترم قيمهم وثقافتهم».
تحدي المنصب
تقود أونيل في منصبها الجديد الذراع التنفيذية للسلطة في آيرلندا الشمالية، وإلى جانبها نائبتها «الاتحادية» إيما ليتل - بينغيلي.
ومثل أونيل، تُحسب ليتل - بينغيلي على «جيل الجمعة العظيمة»، الذي شهد على تداعيات عقود من الانقسام الطائفي والقتال المسلّح... إلا أنها تنتمي إلى الفريق «الاتحادي» البروتستانتي. ومثل أونيل، كان والد ليتل - بينغلي منخرطاً في النشاط العسكري للميليشيات البروتستانتية، ونُقل عنه في ذروة نشاط حركة «ألستر المقاومة»، معارضته الشديدة لأي تسوية مع الجمهوريين «حتى النهاية المريرة... حتى الموت».هذا موقف تجاوزته ابنته إيما ولكن من دون التخلي عن قيمها «الاتحادية» وانتمائها البريطاني. واليوم بينما تعمل «الزعيمتان» على تحييد خلافاتهما الآيديولوجية جانباً، والتركيز على تحسين الاقتصاد ومكافحة البطالة وإصلاح النظام الصحي، يخشى كثيرون من فشل هذه المغامرة السياسية... والعودة من جديد إلى فترات الجمود والتعطيل.