تدخّلت المصادفة في ولادة حلقة «عيَّد الليل» لتكريم الفنان اللبناني غبريال يمّين بزمن الميلاد. اعتذر لوهلة، لارتباطه بفرقة «كركلا» الراقصة المُسافرة إلى السعودية في يوم التصوير. تأجّلت الرحلة، فرنَّ يُبدي الموافقة. يُخبر «الشرق الأوسط» أنّ الذين يفكّرون بالفنان ويشاؤون احتضانه بالتكريمات، هم خيرة البشر، لكنّه؛ متأثراً بأستاذه المسرحي الكبير الراحل ريمون جبارة، لا يرى جدوى في هذا. ليس استخفافاً، إنما لفهمه جوهر الحياة وتخلّيه عن القشرة.
يطرح حول «المبادرة الإيجابية»، كما يُسمّي التكريمات، السؤال النقدي: «ما الفائدة؟». وبينما يُشدّد على عدم إنكار الفضل، يتساءل عما يجنيه أصدقاؤه المكرَّمون بعد اللفتة: «الشكر عميق لكل مَن يكرّم مبدعاً في مجاله. تقدير المبادرات ليس موضع تشكيك. أتساءل فقط عما بعد ذلك؟ وعن وضع الفنان وأحواله في لبنان. هنا تحديداً، يُثار استغراب مشروع».
يذكُر تلك الأيام، حين مُنِح ريمون جبارة وساماً جمهورياً برتبة «فارس»: «استغربَ، واقترح أن تحتفظ الدولة اللبنانية بالنيشان، وتمنحه حصاناً بدل (رتبة فارس). فالحصان مفيد أكثر. أنضمُّ إلى هذه المدرسة، من دون أن أكون من الجاحدين ومُفسدي اللحظات الجميلة».
أراد ثلاثي حلقة التكريم (إل بي سي آي)؛ المقدّم رودولف هلال، والمُعدّ علاء مرعب، والمنتج رالف معتوق، إحاطة يمّين بالأحبة. بعضُهم مرَّت مدّة على آخر لقاء بهم، لكنّ القلب لم يبرد والصداقات لم تتغيّر. ظنَّ المسرحي القدير والأستاذ الجامعي، أنّ وجود زوجته في موقع التصوير يقتصر على حضورها خلف الكاميرا. فوجئ بمشاركتها وكلماتها. معاً شكّلا نموذجاً لقيم العائلة المتماسكة ولمعنى جَمعة العيد. يجيب رداً على سؤال، ما الزواج؟: «إن لم يدرك المتزوّج روحَ الطرف الآخر، فما معنى هذا كلّه؟ يُحكى كثيراً عن التفكك الأسري والعلاقات الزائفة. أردنا إثبات أننا لا نزال عائلة تجتمع على الحب. الزواج ليس طلبيّة يمكن تناولها من (السوبر ماركت). هو فعل إرادة وقرار، وأن يرحّب الشريكان بالمرارات ولا يستسلمون للأقدار المباغِتة».
من رؤيته للميلاد بأنه «مراجعة وولادة جديدة»، يجيب عن أسئلة النجاح والصداقات والحياة والموت. في كل عام، يجلس مع نفسه ويصارحها انطلاقاً مما عَبَر. توقظ فيه الحلقة رغبة في تكثيف المراجعة، فيجعلها شاملة، على هيئة استعادة كاملة لما عايشه وترك الآثار والترسّبات.
جميع الحاضرين نثروا عطراً في أعماقه: نادين الراسي، وبديع أبو شقرا، وندى أبو فرحات وأليكو ونهلا داود، وأسعد حداد، وكلوديا مارشليان... «أخبروا قصصاً لم أعلم بها. عدتُ إلى منزلي مُحمَّلاً بالكلمات الجميلة. أردتُ شكرهم على الاحتضان المؤثر».
وماذا يُعلّم المرض؟ يردُّ أنه يُعلّم كثيراً: «لا مجال لذِكر ما يتركه في المرء. لسنا في دراسة. المرض يؤجّج لحظات الوعي فينا. فالإنسان لا يكتشف مرضه، بل ما ينقص حياته فيزداد اهتمامه بمَن يحبّونه، عوض عدِّ الحب تحصيلاً حاصلاً».
يواصل الشغفُ التوهّجَ، وهو على بُعد عام من بلوغ الستين. برأيه، «مَن يظنّون أنهم يصلون، فذلك دليل على خفوت شغفهم. الإصرار على الاستمرار يصنع النجاح، وعدا ذلك ثانوي».
يعمل منذ عقود في التمثيل والإخراج وتدريس المهنة إلى حَمَلة الشعلة. يربط التجارب بالشغف، فمَن يصنع مسرحاً للإنسان وهمومه، يتلقّن تخزين التجربة وجَعْلها كنز العمر. وفي سياق هذه المراجعة الميلادية، يتمهّل قبل الإجابة عن سؤال الصداقات. بما يشبه العِبرة، يقول: «حملتني السنوات على اكتشاف مَن هو الصديق. إنه ليس ثرثرة أو جلسة سهر ولعب ورق. هو مَن تستطيع من أجله القيام بما لا تفعله من أجلكَ. هذا الصنف موجود، وعلينا الاستيقاظ لإيجاده. حالة السُبات تُصعِّب العثور عليه».
يعتذر ممَن تلفحهم الخيبات ويرونها نهاية الدنيا. فالخيبة دربُ الانتصار في فلسفة غبريال يمّين الإنسانية. عنها يقول: «أُصفّي الخيبات لتبقى القوة. أدرك أنها مريرة وموجعة، لكن فليسمح لي المتألمون بالقول، حوِّلوها إلى انتصارات. كلما اشتدّت قسوتها، وضعتكم الحياة أمام فرص حقيقية للولادة الجديدة».
وإذا كان الموت مبهَماً في نظره، فيخشاه حيناً ويشعر حيناً آخر براحة التصالح معه، فالأكيد أنّ أحد أهم وجوه المسرح اللبناني غبريال يمّين، يتطلّع إلى الغد من نافذة «الخَلْق»: «سأواصل خَلْق الأفكار. غدي هو فرصتي لأكتب. لأصوّر أفلاماً. لأنُجز شخصيات مسرحية. هذا ما يُحييني».
يكشف لـ«الشرق الأوسط» تحضير 4 مسرحيات تُحاكي إرث ريمون جبارة، يعرضها «مسرح مونو» في مارس (آذار) المقبل. العمل جارٍ، تكريماً للمسرحي الكبير، بمشاركة طلاب جامعات، وثلاثة من أصدقاء المُكرَّم، إضافة إلى يمّين: رفعت طربيه، جوليا قصار، وأنطوان الأشقر. «نريد أن يتعرف الشباب إليه. نأمل ألا تُخرّب ظروف لبنان ما نكثّف التعب لإنجازه على أكمل وجه».