«بي بي سي» و«حماس»... قصّة مقالين

هيئة الإذاعة البريطانية تواجه انتقادات حادّة لتغطيتها حرب غزة

شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)
شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)
TT

«بي بي سي» و«حماس»... قصّة مقالين

شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)
شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)

أثارت تغطية هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لحرب إسرائيل على غزة عاصفة إعلامية وسياسية، تجاوز صداها أروقة البرلمان البريطاني إلى طاولة مباحثات جمعت رئيس الوزراء ريشي سوناك بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ.

السبب؟ رفض «بي بي سي» وصف مقاتلي «حماس» بـ«الإرهابيين» في الأيام التي تلت الهجوم الذي شنّته الحركة على إسرائيل، والذي أسقط 1400 قتيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وردّت عليه تل أبيب بحرب، هي الأعنف على غزة، أسقطت أكثر من 8 آلاف قتيل حتى اليوم.

متظاهرون يحملون أعلاماً إسرائيلية وينتقدون سياسة «بي بي سي» التحريرية خارج مقرها بلندن في 16 أكتوبر (إ.ب.أ)

وعلى الرغم من دفاع الشبكة البريطانية الأبرز عن قرارها التحريري لأيام، فإنها أذعنت للضغوط السياسية والدولية، وأصبحت ترفق الإشارة إلى «حماس» بتصنيفها على قائمة المنظمات الإرهابية في بريطانيا. وفي تأكيد على مراجعتها توصيف «حماس»، قالت ناطقة باسم «بي بي سي» لـ«الشرق الأوسط» إن المؤسسة ابتعدت عن استخدام كلمة «مسلّح» لوصف مقاتلي «حماس» و«حزب الله»، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن «(بي بي سي) لا تحظر الكلمات، وقد تكون هناك أوقات، اليوم أو في المستقبل، يكون من المناسب فيها استخدام هذا المصطلح».

كان هذا التصريح اقتباساً من مقال نشرته مديرة أخبار «بي بي سي»، يستعرض الصعوبات الكبيرة التي تواجهها المؤسسة في تغطية حرب غزّة، خاصّة أن الانتقادات لم تقتصر على وصف «حماس»، بل تجاوزتها لاتهامات بالانحياز لإسرائيل، وأخرى للفلسطينيين.

عاصفة انتقادات

شهدت «بي بي سي» خلال السنوات القليلة الماضية سلسلة أزمات على خلفية تعليقات اعتُبرت «غير محايدة»، أو شبهة تجاوزات أخلاقية لأحد مذيعيها، حتى اتّهامات بالتحيّز لهذا الحزب أو ذاك. لكن أيّاً من هذه الأزمات لم يتحوّل إلى محور نقاش حكومي، أو يُثر هذا الكمّ من الاهتمام الدولي.

فقد نقلت تقارير إعلامية بريطانية أن الرئيس الإسرائيلي أثار قضية وصف حركة «حماس» مع سوناك لدى زيارة الأخير تل أبيب الأسبوع الماضي. وذكر موقع صحيفة «ذي إندبندنت» أن هرتسوغ عبّر عن استيائه لرئيس الوزراء البريطاني، ووصف تغطية «بي بي سي» بـ«الفظيعة». وقال: «حقيقة كونها لا تعترف بـ(حماس) كمنظمة إرهابية أمر يتطلب معركة قانونية وشعبية كاملة». ورداً على ذلك، رأى سوناك أنه يجب تسمية هجمات 7 أكتوبر «كما هي، أي عمل إرهابي ارتكبته منظمة إرهابية شريرة».

هيرتسوغ لدى استقباله سوناك في 19 أكتوبر (إ.ب.أ)

وفي السياق ذاته، حرص وزراء بارزون في الحكومة البريطانية على إثارة هذه القضية في تصريحاتهم خلال الأسبوعين الماضيين. فوزير الدفاع البريطاني غرانت شابس وصف سياسة «بي بي سي» بأنها «تكاد تكون مشينة»، ومن ثم ينبغي على المؤسسة تحديد «بوصلتها الأخلاقية». وكذلك، حضّها وزيرا الخارجية جيمس كليفرلي والثقافة لوسي فرايزر على مراجعة موقفها.

اختبار الحياد

لم تتردّد «بي بي سي» في معالجة هذه الانتقادات، ومحاولة شرح سياستها التحريرية؛ خصوصاً عبر مقالين، أولهما بقلم جون سيمبسون، محرّر الشؤون الدولية فيها، أعقبه بعد أيام مقال لمديرة الأخبار ديبورا تورنيس.

وفي 11 أكتوبر، نشر سيمبسون مقاله بعنوان «لماذا لا تصف (بي بي سي) مسلحي (حماس) بـ(الإرهابيين)؟»، في أول محاولة من المؤسسة للردّ على تسونامي تساؤلات الإعلام والدوائر الحكومية والنيابية والمسؤولين الأجانب عن سبب تحفّظها عن استخدام وصف «الإرهابي» عند الإشارة إلى «حماس»، رغم التصنيف الرسمي البريطاني للحركة والمزاج السياسي السائد.

منطق سيمبسون، والمؤسسة التي يمثّلها، اختصره في هذه الفقرة: «الإرهاب كلمة مشحونة يستخدمها الناس لوصف جماعة لا يوافقون عليها أخلاقياً. ليست مهمة (بي بي سي) أن تقول للناس من يجب أن يدعموا ومن يجب أن يدينوا، من هم الأخيار ومن هم الأشرار».

واستشهد سيمبسون في معرض شرحه بالضغوط التي تعرّضت لها مؤسسته في ثمانينات القرن الماضي ببريطانيا. وقال إنه «كان من الصعب الحفاظ على هذا المبدأ عندما كان (الجيش الجمهوري الآيرلندي) يقوم بحملة تفجيرات في إنجلترا ويقتل المدنيين الأبرياء، لكننا فعلنا ذلك. وكانت حكومة مارغريت ثاتشر تمارس ضغوطاً هائلة على (بي بي سي)، وعلى المراسلين الأفراد من أمثالي في هذا الشأن، وخاصة بعد تفجير برايتون الذي نجوت فيه من القتل، فيما قتل وجُرح كثير من الأبرياء الآخرين».

موظّف ينظّف مدخل مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخه بالطلاء الأحمر (رويترز)

تمسكت «بي بي سي» بموقفها لأيام، قبل أن تراجعه أمام تصاعد الضغوط. وفي هذا الصدد، يقول ديس فريدمان، مدير مركز أبحاث الإعلام في كلية غولدسميث، التابعة لجامعة لندن، إن هيئة الإذاعة البريطانية تعرّضت لضغوط هائلة للتخلي عن سياستها المتمثلة في الامتناع عن وصف «حماس» بالإرهابية. وهي اليوم تواصل وصف «حماس» بأنها «حركة فلسطينية تحكم قطاع غزة منذ عام 2007»، مع الإشارة إلى حقيقة أن بعض الدول «صنفتها جماعة إرهابية».

ورأى فريدمان، متحدّثاً لـ«الشرق الأوسط»، أن «هناك حجة قوية مفادها أنه إذا كان لهيئة الإذاعة البريطانية أن تؤخذ على محمل الجد، سواء داخل المملكة المتحدة أو على المستوى الدولي، فلا بد أن تكون مستقلة عن تلك الحكومات، وأبرزها حكومتا المملكة المتحدة وإسرائيل، اللتين تطالبانها بتغيير رأيها».

انتقادات عكسية

بالتزامن مع العاصفة السياسية التي واجهتها «بي بي سي» على خلفية توصيفها لحركة «حماس»، وجدت المؤسسة نفسها أمام موجة انتقادات موازية اتّهمتها بالانحياز لصالح إسرائيل في تغطية حرب غزة.

ولفت فريدمان إلى هذه المفارقة، مسلّطاً الضوء على انتقادات وجّهها صحافيون داخل «بي بي سي» لتغطية اعتبروها مؤيدة لتل أبيب. وقال: «أرسل موظفون رسالة هذا الأسبوع إلى المدير العام، مفادها أن المؤسسة تتعامل مع حياة الإسرائيليين باعتبارها أفضل من حياة الفلسطينيين». وتابع: «في كثير من الأحيان، نرى عناوين الصحف، بما في ذلك في هيئة الإذاعة البريطانية، أن الإسرائيليين (يُذبحون)، بينما (يموت) الفلسطينيون في القصف المستمر، أو نقرأ عن (الفظائع التي ترتكبها حماس)، في مقابل (المعاناة في غزة)، كما لو أن الأخيرة لا تمثّل فظاعة غير مسبوقة».

متظاهر يحمل علماً فلسطينياً خارج مقر «بي بي سي» بغلاسكو في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)

تطرّقت ديبورا تورنيس، مديرة الأخبار في «بي بي سي»، لمجمل هذه الانتقادات في مقال نشرته الأربعاء، اعتبرت فيه أن «هذه الحرب هي من الأحداث الأكثر تعقيداً واستقطاباً التي غطيناها في تاريخنا». ولفتت إلى أن «بي بي سي» واجهت «انتقادات وشكاوى بأننا منحازون لإسرائيل وضدها، ولصالح الفلسطينيين وضدهم».

وفيما جددت تورنيس التزام المؤسسة بمبدأ الحياد، أكّدت اتّخاذها عدداً من الإجراءات الإضافية «حول كيفية إسناد ووصف المصادر والمعلومات في تغطيتنا لهذه الحرب».

كما تطرّقت إلى اللغة المستخدمة في وصف الضحايا المدنيين، وقالت إنه «يتعين علينا أن نفكر ملياً في الطريقة التي نتحدث بها عن الوفيات بين المدنيين، وكيف أن اللغة التي نستخدمها قد تعطي، عن غير قصد، الانطباع بأننا ننظر إلى بعض الوفيات على أنها أكثر أهمية من غيرها أو نعامل الناس على أي من الجانبين بشكل مختلف». وأشارت إلى «تداول تغريدة تقول إن الناس (ماتوا) في غزة و(قُتلوا) في إسرائيل على نطاق واسع كمثال على ذلك».

وعبّر فريدمان عن تخوّفه من تعرض «بي بي سي» لمزيد من الضغوط لـ«لتأطير الحرب على الفلسطينيين من منظور مؤيد لإسرائيل» على حد قوله، مشيراً إلى لقاء جمع تيم ديفي، المدير العام لـ«بي بي سي»، بأعضاء حزب المحافظين في البرلمان الأسبوع الماضي.

وشدد فريدمان على ضرورة تحوّل النقاش الحالي من كيفية وصف «حماس» إلى ما قد يشكل جرائم حرب وإبادة جماعية، خاصة في إطار الغزو البري المحتمل لغزة.


مقالات ذات صلة

صرخة جندي عائد من غزة: متى سيستيقظ الإسرائيليون؟

شؤون إقليمية جنود في مقبرة بالقدس خلال تشييع رقيب قُتل في غزة يوم 20 نوفمبر (أ.ب)

صرخة جندي عائد من غزة: متى سيستيقظ الإسرائيليون؟

نشرت صحيفة «هآرتس» مقالاً بقلم «مقاتل في جيش الاحتياط»، خدم في كل من لبنان وقطاع غزة. جاء المقال بمثابة صرخة مدوية تدعو إلى وقف الحرب.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي فلسطينيون يؤدون صلاة الجمعة على أنقاض مسجد مدمر في خان يونس بجنوب قطاع غزة (إ.ب.أ)

لا أمل لدى سكان غزة في تراجع الهجمات بعد أمري اعتقال نتنياهو وغالانت

لم يشهد سكان غزة، الجمعة، ما يدعوهم للأمل في أن يؤدي أمرا الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت إلى إبطاء الهجوم على القطاع الفلسطيني، مع إعلان مقتل 21 شخصاً على الأقل.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي جنود إسرائيليون خلال العملية البرية داخل قطاع غزة (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد جنوده في معارك بشمال غزة

أعلن الجيش الإسرائيلي، الخميس، مقتل أحد جنوده في معارك في شمال قطاع غزة. وأضاف أن الجندي القتيل يدعى رون إبشتاين (19 عاماً) وكان ينتمي إلى لواء غيفعاتي.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
العالم العربي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت (أرشيفية - رويترز)

«حماس» تُرحّب بمذكرتي توقيف نتنياهو وغالانت وتصفهما بخطوة «تاريخية»

رحّبت حركة «حماس»، اليوم (الخميس)، بإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية النائب الإسرائيلي غادي آيزنكوت (رويترز)

آيزنكوت يتهم إسرائيل بـ«فشلها في خطة الحرب على غزة بشكل خطير»

قال النائب عن حزب الوحدة الوطنية الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، إن خطة إسرائيل لحربها ضد «حماس» في غزة «فشلت بشكل خطير»، واتهم الحكومة الإسرائيلية بالضياع.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».