قضاة لبنان يتأهبون للنزوح الجماعي

بحثاً عن العيش الكريم أمام خلفيتي الانسدادات السياسية والظروف الاستثنائية

قصر العدل في بيروت
قصر العدل في بيروت
TT

قضاة لبنان يتأهبون للنزوح الجماعي

قصر العدل في بيروت
قصر العدل في بيروت

لا تخلو البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية، ولا خطاب القسم للرؤساء المتعاقبين على الحكم ولا حتى برامج وزراء العدل، من تخصيص بند أساسي يتعهّد بالعمل على «استقلالية القضاء وتكريسه سلطة مستقلة توازي السلطتين التشريعية والإجرائية». لكن الوعود شيء والواقع شيء آخر، فالقضاء اللبناني يعيش أسوأ مرحلة في تاريخه، لا يكفيه تدخّل السلطة السياسية الفاضح في عمله، ودورها في تعيين المقربين والأزلام في المواقع الحساسة، ليكونوا أبرز أدواتها للحكم ولتنفيذ القانون بصورة استنسابية، بل جاءت الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية لتصدّع المؤسسة وتنذر بانهيار هيكل العدالة على رؤوس الجميع.

لطالما كان المنصب القضائي حلماً يراود كلّ فتاة وشاب لبناني من حملة شهادة الإجازة في الحقوق، لكنه لم يعد كذلك اليوم، إذ يتوق معظم القضاة إلى الاستقالة «والنزوح الجماعي» إلى خارج البلاد، بحثاً عن حياة كريمة لهم ولأسرهم وأبنائهم.

الأسباب التي تحمل هؤلاء على ذلك كثيرة، منها أن القاضي لم يعد صاحب سلطة، بل يكاد بعضهم لا يحكم «باسم الشعب اللبناني» بل باسم المرجعية السياسية التي عيّنته في منصبه.

الأدلة على ذلك لا تعدّ ولا تحصى، يكفي الإشارة إلى تعطيل التحقيق في ملفّ انفجار مرفأ بيروت، وتقويض ملفات المصارف اللبنانية والبنك المركزي والحاكم السابق رياض سلامة، وعرقلة مسار التحقيق بأحداث الطيونة التي وقعت بين مسلحين من «حزب الله» وحركة «أمل» وآخرين من أبناء منطقة عين الرمانة، وقضايا الاغتيال والتصفيات السياسية... وآخرها مقتل المسؤول في حزب «القوات اللبنانية» إلياس الحصروني في بلدة عين إبل الجنوبية، والإعلان الصريح من الأجهزة الأمنية بأنها لم تعد قادرة على التقدّم بالتحقيق.

أزمة بنيوية

يعترف مصدر قضائي لبناني بارز بأن «مشكلة القضاء باتت بنيوية أكثر مما هي معنوية ومالية واقتصادية»، وأطلق صرخة تحذّر من «محاولات حثيثة لتدمير القضاء وهدم بنيان العدالة، بدل تعزيزها وحمايتها».

المصدر الذي طلب إغفال اسمه أبلغ «الشرق الأوسط» أن «الصورة سوداوية جداً، وإذا بقيت الأمور على حالها حتى نهاية العام الحالي سنشهد هجرة جماعية للقضاة ستفاجئ الجميع». وكشف عن أن «كل قاضٍ بدأ يبحث جدياً عن فرصة للمغادرة، والعشرات منهم أرسلوا ملفاتهم وسيَرهم الذاتية إلى مؤسسات حقوقية وجامعية ومحاكم عربية ودولية للالتحاق بها طلباً للعمل والحياة الكريمة، بدل انتظار راتب شهري في لبنان لا يتعدّى الـ500 دولار أميركي حالياً».

تتباين المواقف حيال التصعيد القضائي واللجوء إلى الاعتكاف، وترى مصادر سياسية أن أزمة الانهيار المالي وفقدان القضاة 90 في المائة من قيمة رواتبهم ينسحب أيضاً على النواب والوزراء. إلا أنّ المصدر القضائي رفض هذه المقاربة، وأكد أن «النواب والوزراء بمعظمهم رجال أعمال ومتمولون وأصحاب شركات، لا يتأثرون بالأزمة، بينما ليس لدى القاضي سوى راتبه الشهري». وأردف: «لا يجوز التشبيه بين السياسي الذي يستطيع العمل في التجارة وأي مجال آخر، بينما لا يملك القاضي أي دخل مالي غير الراتب». وشدد على أن «كلّ ما تبلّغه القضاة خلال انعقاد الجمعية العمومية قبل عشرة أيام، عبارة عن وعدٍ بتغطية المساعدات التعليمية لمدة خمسة أشهر كحدٍ أقصى، بالإضافة إلى وعد بالبحث عن شركة تأمين خاصّة للتعاقد معها، لتغطية النفقات الطبية والاستشفائية، لكنّ للأسف لا شيء مؤكد».

مرحلة اللاعودة

من جهته، يحاذر وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال القاضي هنري الخوري، وصول الأزمة القضائية إلى مرحلة اللاعودة، ويضع في أولوياته معالجة الأسباب التي أوصلت القضاة إلى هذه المرحلة من الاحتقان والتصعيد.

ويجزم مصدر بارز في وزارة العدل بأن الوزير «يفعّل لقاءاته واتصالاته برئيس الحكومة (نجيب ميقاتي) وبالمراجع القضائية لتبديد الهواجس التي تعتري الجسم القضائي». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: إن الوزير الخوري «يتحسّس صعوبة ما يعانيه زملاؤه القضاة، يأخذ مطالبهم على محمل الجدّ ويبذل كل جهد لوصول القضاة إلى حقوقهم دون منّة من أحد».

ثم يشير إلى أن الخوري «توصل مع المعنيين إلى اتفاق إنجاز عدد من الأمور التي تريح القضاة، سواءً بما خصّ التقديمات الاجتماعية من استشفاء وتعليم، أو بما يخص التقديمات المنح المالية من صندوق تعاضد القضاة»، كاشفاً عن أن «الأزمة سمحت بالبحث عن مداخيل مالية لصندوق القضاة، وبالفعل، بدأت تحصيل هذه الإيرادات التي سيلمس القضاة نتائجها في وقت قريب».

وعود تنتظر التنفيذ

اليوم، لا أحد يحسد رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبّود، على منصبه. إذ إن الرجل الذي سعى لأشهر طويلة على إنهاء الاعتكاف السابق بتلبية جزء يسير من حقوق القضاة، عاد ليواجه أزمة مستجدّة برزت مع إعلان مفاجئ لأكثر من 100 قاضٍ توقفهم الفوري عن العمل حتى تتوفر مقومات الحياة الكريمة لهم. ويبدو أن القاضي عبّود لن يقبل هذه المرّة بالعودة إلى شلّ القضاء وتعطيله، فرسالته كانت واضحة للقضاة خلال الجمعية العمومية التي انعقدت في 18 سبتمبر (أيلول) الحالي؛ إذ كشف قاضٍ شارك في الاجتماع المغلق لـ«الشرق الأوسط» عن أن رئيس مجلس القضاء «بدا مقتنعاً جداً بأحقية مطالب القضاة المعنوية والمادية والاجتماعية وحتى اللوجيستية». وأشار القاضي (أيضاً طلب إغفال اسمه) إلى أن عبود «ذهب أبعد للقول إن وضع قصور العدل صعب ولا يحتمل، وإنه متفهّم لعمل القضاة بظروف صعبة جداً، بلا كهرباء ولا ماء ولا قرطاسيّة. ولكن من غير المقبول العودة إلى إقفال قصور العدل والمحاكم والدوائر القضائية وتعطيل مسار العدالة، فحقوق الناس مقدسة وهي أمانة في عنق كلّ قاضٍ».

ولفت القاضي إلى أن عبود «تمنّى على القضاة الذين توقفوا عن العمل التراجع عن قرارهم وتجنب توسيع دائرة الاعتكاف، ودعا القضاة ليكونوا على قدر قسمهم لأنهم وحدهم الضمانة الحقيقية لبقاء البلد».

تقويض القانون

ما يستحق الذكر، أنه لم يسبق لقضاة لبنان أن استنكفوا عن أداء رسالتهم ولا تخلّفوا عن إصدار الأحكام والقرارات القضائية. إلا أن الأزمة الراهنة قلبت الأمور رأساً على عقب، وبات الإضراب والاعتكاف السلاح الأخير الذي لا بدّ من اللجوء إليه. وهنا يرى القاضي غالب غانم، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، أن «وضع القضاء اللبناني يتأثر سلباً بالوضع السائد في البلاد، وفي غياب أركان دولة القانون، فإن العاصفة التي تضرب لبنان تهدّد بتقويض القضاء حتى لو كانت إرادة القضاة حديدية».

غانم أعرب لـ«الشرق الأوسط» عن أسفه لـ«تمادي تدخلات السياسية بالسلطة القضائية، وكأنهم (السياسيون) يعتقدون أنهم يحققون مكاسب على أرض القضاء، إلّا أن أي تدخل في القضاء سيرتدّ سلباً على البلد ككل». وأضاف: «في السابق كانت التدخلات السياسية سريّة أو غير منظورة، أما اليوم فغدت حدود التدخل مباحة».

وتطرّق غانم إلى «إهمال متعمّد للمرفق القضائي»، وقال: «صحيح أن البلد منهار اقتصادياً ومن واجب القاضي أن يضحّي كغيره، لكن هناك حدّاً أدنى من الحقوق. نحن لا نطلب أن يكون وضع القاضي كما كان قبل الأزمة، إلا أننا نرى وجوب تأمين الحدّ الأدنى أقلّه في التقديمات الاستشفائية والتعليمية حتى يصمد القاضي ويواصل أداء رسالته»، داعياً السلطة السياسية إلى «النظر في وضع القضاء من زاوية خاصّة، حتى تبقى الإنتاجية القضائية قائمة».

استهداف القضاء

بموازاة الأزمة الاقتصادية، يعاني القضاء أزمة معنوية، عبر حملات تطاله عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً في الفترة التي رافقت مرحلة الاعتكاف الأخيرة وما تلاها. وهنا يلاحظ القاضي غانم «وجود نظرة عدائية من المجتمع تجاه القضاء، وهذا أمر خطير جداً... وحتى إذ كان هناك اعوجاج لدى بعض القضاة القلائل جداً، لماذا استهداف مؤسسة القضاء بشكل عام؟... لماذا التعاطي الإعلامي مع القضاء بشيء من السخرية والتهكّم، بما يرتدّ سلباً على الناس وملفاتهم؟».

الرئيس السابق للسلطة القضائية لا ينكر تأثر بعض القضاة بالتدخلات السياسية. ويوضح: «للأسف، بدل أن يأتي السياسيون إلى القضاء، ثمة قضاة يذهبون إلى أهل السياسة للتقرّب منهم، وهذا غير جائز... فبمجرد لمس السياسيين رفض القضاة لمطالبهم سيتوقف التدخل بعمل السلطة القضائية»، وبالتالي لا تتحوّل بعض الدوائر القضائية إلى دوائر سياسية».

وبينما لا يخفي غانم أن «عدم إقرار القوانين التي تكرّس استقلالية السلطة القضائية تؤثر سلباً على الواقع القضائي» فهو يأمل بأن «تحصر التشكيلات القضائية بيد مجلس القضاء الأعلى وحده، من دون الحاجة إلى مرسوم، فالقضاء قادر لوحده تولّي هذه المهمّة».

مرحلة سوداوية

على صعيد متصل، يعاني مرفق العدالة في لبنان من تدّني عدد القضاة بسبب إحالة العشرات منهم في السنوات الأخيرة على التقاعد، واستقالة البعض الآخر وتقديم بعضهم طلبات استيداع (العمل في الخارج مؤقتاً)، وإقفال الباب أمام امتحانات اختيار قضاة جدداً لمعهد الدروس القضائية.

أيضاً يعزو القاضي غانم أسباب النزف القضائي إلى «تحطّم المعنويات لدى الكثير من القضاة؛ ما دفع بأعداد منهم إلى طلب الاستيداع، والبعض إلى الاستقالة ومغادرة البلاد، وهذا يهدد وضع القضاء». ثم يختم: «إذا لم نذهب إلى حلول سريعة لأزمة القضاء سنكون أمام مرحلة سوداوية... انهيار القضاء له تداعيات خطيرة على الدولة والمؤسسات وعلى الشعب اللبناني ككل؛ ولذا لا بد من تحرّك سريع واجتراح الحلول حتى لا نصل إلى الأسوأ».

شرعة أخلاقية

من جانب آخر، لا يفصل المحامي الدكتور بول مرقص، رئيس مؤسسة «جوستيسيا» الحقوقية، بين أزمة القضاء والتفكك الذي يصيب مؤسسات الدولة في لبنان. ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه: «لا يمكن الحديث عن القضاء بمعزل عن حال البلد المترهلة أخلاقياً واقتصادياً ومالياً، إلا أنه يقتضي إيلاء فساد بعض القضاء اهتماماً خاصاً لأهمية موقعهم للفصل في الحقوق والحريات».

وفي انتقاد حاد للدولة «التي تخلّت عن حقوق القضاة»، يقول مرقص: «ما دامت رقاب الناس وحقوقهم في أيديهم (القضاة) لا يجوز تركهم عرضة للعوز والضغط السياسي عليهم». ويتابع: «الإصلاح يبدأ باعتماد القضاة شرعة أخلاقية يلتزمون بها افرادياً عند تبوء مناصب سياسية بعد تركهم القضاء، وذلك كي لا يسعوا إليها فيأتمروا بالسياسيين إبان عملهم القضائي، مروراً بتعديل مجلس النواب المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لجعل التشكيلات القضائية نافذة دون تدخل الحكومة، على اعتبار أن اقتراح قانون استقلال السلطة القضائية المطروح حالياً بصياغته الحالية هو معقد وغير قابل للإقرار».

القاضي غالب غانم - حسابه على إكي كوم تويت على إكس كوم - تويتر)

الأيادي النظيفة

ختاماً، لا جدوى من الرهان على أهل السلطة لإصلاح الوضع القائم، ما دام أن الكارثة التي يعيشها لبنان هي نتاج السياسات التي اتبعوها على مدى العقود السابقة. ويشدد المحامي مرقص على أن «الحل في لبنان يكمن في القضاء على طريقة حملة الأيادي النظيفة في إيطاليا التي حاربت طبقة سياسية أكثر فساداً من لبنان ونجحت في ذلك». ويرى مرقص أن «الحل الثاني هو في تسلّم الجيش اللبناني للحكم، وهذا أمر غير ديمقراطي ولا يستقيم في بلد كلبنان». ثم يضيف: «المطلوب للوصول إلى ذلك تدعيم وضعية القضاة اجتماعياً، مقابل تقديمهم تضحيات تمليها عليهم رسالتهم أصلاً... والسؤال: من سواهم (القضاة) تقع عليهم مسؤولية مكافحة الفساد؟ من سواهم بإمكانه إخضاع السياسيين لحكم القانون؟ من سواهم يعطي الإشارات للأجهزة الأمنية؟... الحل يبدأ بالقضاء وينتهي بمعاقبة الفاسدين واسترداد أموال الفساد».

يحاذر وزير العدل هنري الخوري وصول الأزمة القضائية إلى مرحلة اللاعودة ويضع في أولوياته معالجة الأسباب

الاعتكاف القضائي: معالجات لا تبدّد الهواجس

> شهد القضاء اللبناني ثلاث مراحل من الاعتكاف الذي تعدّدت أسبابه:

الاعتكاف الأول تلى أول التشكيلات القضائية في السنة الأولى من عهد الرئيس ميشال عون؛ إذ أثارت تلك التشكيلات غضباً واسعاً في الأوساط القضائية؛ لكونها لم تراع الكفاءة والأقدمية للمعينين في المراكز الحساسة. وهذا الأمر حمل القضاة على إطلاق الصرخة والمطالبة بإقرار قانون استقلالية القضاء، ومنع التدخل السياسي في أداء القضاة، قبل أن تقع الكارثة الاقتصادية والمالية التي عصفت بالجسم القضائي وأثر سلباً على أدائه وإنتاجيته.

ذلك الاعتكاف بدأ في أواخر عام 2017، وعمّق الخلاف يومها بين السلطة القضائية ممثلة بمجلس القضاء الأعلى، وبين وزير العدل (آنذاك) سليم جريصاتي (المحسوب على الرئيس ميشال عون). وبلغ الخلاف ذروته بين الطرفين على خلفية قرار اعتكاف التزم به عدد كبير من القضاة، الذين توقفوا عن ممارسة مهامهم؛ احتجاجاً على ما أسموه «إمعان السلطة السياسية في ضرب استقلالية القضاء، ومحاولة إخضاعه عبر التدخل في عمله، والتضييق عليه مادياً ومعنوياً، وحرمان القضاة من بعض المكتسبات التي توفر لهم أماناً اجتماعياً».

يومذاك تسبب الاعتكاف بمواجهة غير مسبوقة بين جريصاتي ومجلس القضاء الأعلى؛ إذ اعتبر الوزير أن الاعتكاف يشكل تحدياً له ولعهد عون في بدايته. ووجّه حينها كتاباً إلى مجلس القضاء الأعلى دعاه فيه إلى «تنبيه القضاة من الاستمرار في الاعتكاف، وتحميلهم مسؤولية أجواء غير صحية تسود أروقة قصور العدل». واستدعى كتاب وزير العدل ردّاً سريعاً من مجلس القضاء، أعلن فيه الأخير أنه «لا يحق للوزير توجيه تعاميم وكتب إلى القضاة». وذكّر بأن «مجلس القضاء الأعلى لا يعدّ جهة تنفيذية لقرارات وزير العدل عملاً بمبدأ استقلالية السلطة القضائية، ومبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها، وبالتالي لا يجوز لأي سلطة أن تطغى بعملها على أي سلطة أخرى».

القاضي سهيل عبود

الاعتكاف الثاني كان منتصف العام الماضي. فمع تسارع وتيرة الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، أعلن قضاة لبنان على أثر انعقاد الجمعية العمومية، الدخول في اعتكاف شامل خالٍ من الاستثناءات، احتجاجاً على تدني رواتبهم التي فقدت 95 في المائة من قيمتها، وكذلك غياب التقديمات الطبيّة والاستشفائية والمنح المدرسية والجامعية.

وألحق هذا الاعتكاف ضرراً كبيراً بحقوق المتقاضين؛ إذ استعصى على آلاف الأشخاص التقدم بالشكاوى بسبب الإضراب ورفض أي مراجعة، كما تسبب الإضراب بتراكم آلاف الدعوى التي لم يبت فيها، وانسحبت أضراره على السجون ومراكز التوقيف التي غصّت بالسجناء في ظل التأخر بالبت بإخلاءات سبيلهم».

مرحلة الاعتكاف تلك، التي كانت الأطول والأقسى، انتهت بإقرار زيادة الرواتب بثلاثة أضعاف كما ورد في الموازنة العامة، ومساهمة صندوق تعاضد القضاة بدفع مساعدة مالية بـ(الفريش دولار) تراوحت بين 500 و1200 دولار للقاضي، بالإضافة إلى مساهمة الصندوق بإعطاء الأولوية للمساعدة المرضية.

أما الاعتكاف الثالث (الحالي) فبدأ يوم 1 سبتمبر (أيلول) الحالي مع إعلان 111 قاضياً في القضاء العدلي والإداري والمالي، توقفهم فجأة عن العمل احتجاجاً على أوضاعهم المالية والاجتماعية. وقال هؤلاء في بيان أصدروه: «في ظل عجز الدولة عن تغطية الاستشفاء والطبابة والتعليم، الخاص بالقضاة وعائلاتهم، وفي ظل انعدام ظروف العمل اللائقة بالكرامة البشرية في قصور العدل، وفي ظل ما وصل إليه وضع القضاء على جميع الصعد، نعلن التوقّف القسري عن العمل، وذلك الى حين توافر مقومات العيش والعمل بكرامة».

هذا القرار المفاجئ قابله هنري الخوري، وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، بتحرك سريع؛ إذ دعا القضاة إلى الاجتماع به، وأكد أنه «بصدد تنفيذ مطالبهم أو أغلبها عبر اتصالات يجريها مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير المال يوسف الخليل والمراجع القضائية». أما رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود الذي بدا مستاءً من العودة إلى شلّ مرفق العدالة، فدعا القضاة إلى جمعية عمومية مغلقة عقدت في قصر العدل في بيروت، وطرح فيها القضاة مطالبهم وهواجسهم، وتعهّد عبود ببذل أقصى جهده بتبديد قلق القضاة وتحصيل حقوقهم، وتمنى عليهم الاستمرار في عملهم والتضحية من أجل الحفاظ على القضاء وهيبته. غير أن قضاة شاركوا في الجمعية العمومية، أكدوا لـ«الشرق الأوسط»، أن «المعتكفين ما زالوا على اعتكافهم»، وأن باقي القضاة «يراقبون ما ستؤول إليه مساعي وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى وبعدها يبنى على الشيء مقتضاه».


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

 

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،