قضاة لبنان يتأهبون للنزوح الجماعي

بحثاً عن العيش الكريم أمام خلفيتي الانسدادات السياسية والظروف الاستثنائية

قصر العدل في بيروت
قصر العدل في بيروت
TT

قضاة لبنان يتأهبون للنزوح الجماعي

قصر العدل في بيروت
قصر العدل في بيروت

لا تخلو البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية، ولا خطاب القسم للرؤساء المتعاقبين على الحكم ولا حتى برامج وزراء العدل، من تخصيص بند أساسي يتعهّد بالعمل على «استقلالية القضاء وتكريسه سلطة مستقلة توازي السلطتين التشريعية والإجرائية». لكن الوعود شيء والواقع شيء آخر، فالقضاء اللبناني يعيش أسوأ مرحلة في تاريخه، لا يكفيه تدخّل السلطة السياسية الفاضح في عمله، ودورها في تعيين المقربين والأزلام في المواقع الحساسة، ليكونوا أبرز أدواتها للحكم ولتنفيذ القانون بصورة استنسابية، بل جاءت الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية لتصدّع المؤسسة وتنذر بانهيار هيكل العدالة على رؤوس الجميع.

لطالما كان المنصب القضائي حلماً يراود كلّ فتاة وشاب لبناني من حملة شهادة الإجازة في الحقوق، لكنه لم يعد كذلك اليوم، إذ يتوق معظم القضاة إلى الاستقالة «والنزوح الجماعي» إلى خارج البلاد، بحثاً عن حياة كريمة لهم ولأسرهم وأبنائهم.

الأسباب التي تحمل هؤلاء على ذلك كثيرة، منها أن القاضي لم يعد صاحب سلطة، بل يكاد بعضهم لا يحكم «باسم الشعب اللبناني» بل باسم المرجعية السياسية التي عيّنته في منصبه.

الأدلة على ذلك لا تعدّ ولا تحصى، يكفي الإشارة إلى تعطيل التحقيق في ملفّ انفجار مرفأ بيروت، وتقويض ملفات المصارف اللبنانية والبنك المركزي والحاكم السابق رياض سلامة، وعرقلة مسار التحقيق بأحداث الطيونة التي وقعت بين مسلحين من «حزب الله» وحركة «أمل» وآخرين من أبناء منطقة عين الرمانة، وقضايا الاغتيال والتصفيات السياسية... وآخرها مقتل المسؤول في حزب «القوات اللبنانية» إلياس الحصروني في بلدة عين إبل الجنوبية، والإعلان الصريح من الأجهزة الأمنية بأنها لم تعد قادرة على التقدّم بالتحقيق.

أزمة بنيوية

يعترف مصدر قضائي لبناني بارز بأن «مشكلة القضاء باتت بنيوية أكثر مما هي معنوية ومالية واقتصادية»، وأطلق صرخة تحذّر من «محاولات حثيثة لتدمير القضاء وهدم بنيان العدالة، بدل تعزيزها وحمايتها».

المصدر الذي طلب إغفال اسمه أبلغ «الشرق الأوسط» أن «الصورة سوداوية جداً، وإذا بقيت الأمور على حالها حتى نهاية العام الحالي سنشهد هجرة جماعية للقضاة ستفاجئ الجميع». وكشف عن أن «كل قاضٍ بدأ يبحث جدياً عن فرصة للمغادرة، والعشرات منهم أرسلوا ملفاتهم وسيَرهم الذاتية إلى مؤسسات حقوقية وجامعية ومحاكم عربية ودولية للالتحاق بها طلباً للعمل والحياة الكريمة، بدل انتظار راتب شهري في لبنان لا يتعدّى الـ500 دولار أميركي حالياً».

تتباين المواقف حيال التصعيد القضائي واللجوء إلى الاعتكاف، وترى مصادر سياسية أن أزمة الانهيار المالي وفقدان القضاة 90 في المائة من قيمة رواتبهم ينسحب أيضاً على النواب والوزراء. إلا أنّ المصدر القضائي رفض هذه المقاربة، وأكد أن «النواب والوزراء بمعظمهم رجال أعمال ومتمولون وأصحاب شركات، لا يتأثرون بالأزمة، بينما ليس لدى القاضي سوى راتبه الشهري». وأردف: «لا يجوز التشبيه بين السياسي الذي يستطيع العمل في التجارة وأي مجال آخر، بينما لا يملك القاضي أي دخل مالي غير الراتب». وشدد على أن «كلّ ما تبلّغه القضاة خلال انعقاد الجمعية العمومية قبل عشرة أيام، عبارة عن وعدٍ بتغطية المساعدات التعليمية لمدة خمسة أشهر كحدٍ أقصى، بالإضافة إلى وعد بالبحث عن شركة تأمين خاصّة للتعاقد معها، لتغطية النفقات الطبية والاستشفائية، لكنّ للأسف لا شيء مؤكد».

مرحلة اللاعودة

من جهته، يحاذر وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال القاضي هنري الخوري، وصول الأزمة القضائية إلى مرحلة اللاعودة، ويضع في أولوياته معالجة الأسباب التي أوصلت القضاة إلى هذه المرحلة من الاحتقان والتصعيد.

ويجزم مصدر بارز في وزارة العدل بأن الوزير «يفعّل لقاءاته واتصالاته برئيس الحكومة (نجيب ميقاتي) وبالمراجع القضائية لتبديد الهواجس التي تعتري الجسم القضائي». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: إن الوزير الخوري «يتحسّس صعوبة ما يعانيه زملاؤه القضاة، يأخذ مطالبهم على محمل الجدّ ويبذل كل جهد لوصول القضاة إلى حقوقهم دون منّة من أحد».

ثم يشير إلى أن الخوري «توصل مع المعنيين إلى اتفاق إنجاز عدد من الأمور التي تريح القضاة، سواءً بما خصّ التقديمات الاجتماعية من استشفاء وتعليم، أو بما يخص التقديمات المنح المالية من صندوق تعاضد القضاة»، كاشفاً عن أن «الأزمة سمحت بالبحث عن مداخيل مالية لصندوق القضاة، وبالفعل، بدأت تحصيل هذه الإيرادات التي سيلمس القضاة نتائجها في وقت قريب».

وعود تنتظر التنفيذ

اليوم، لا أحد يحسد رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبّود، على منصبه. إذ إن الرجل الذي سعى لأشهر طويلة على إنهاء الاعتكاف السابق بتلبية جزء يسير من حقوق القضاة، عاد ليواجه أزمة مستجدّة برزت مع إعلان مفاجئ لأكثر من 100 قاضٍ توقفهم الفوري عن العمل حتى تتوفر مقومات الحياة الكريمة لهم. ويبدو أن القاضي عبّود لن يقبل هذه المرّة بالعودة إلى شلّ القضاء وتعطيله، فرسالته كانت واضحة للقضاة خلال الجمعية العمومية التي انعقدت في 18 سبتمبر (أيلول) الحالي؛ إذ كشف قاضٍ شارك في الاجتماع المغلق لـ«الشرق الأوسط» عن أن رئيس مجلس القضاء «بدا مقتنعاً جداً بأحقية مطالب القضاة المعنوية والمادية والاجتماعية وحتى اللوجيستية». وأشار القاضي (أيضاً طلب إغفال اسمه) إلى أن عبود «ذهب أبعد للقول إن وضع قصور العدل صعب ولا يحتمل، وإنه متفهّم لعمل القضاة بظروف صعبة جداً، بلا كهرباء ولا ماء ولا قرطاسيّة. ولكن من غير المقبول العودة إلى إقفال قصور العدل والمحاكم والدوائر القضائية وتعطيل مسار العدالة، فحقوق الناس مقدسة وهي أمانة في عنق كلّ قاضٍ».

ولفت القاضي إلى أن عبود «تمنّى على القضاة الذين توقفوا عن العمل التراجع عن قرارهم وتجنب توسيع دائرة الاعتكاف، ودعا القضاة ليكونوا على قدر قسمهم لأنهم وحدهم الضمانة الحقيقية لبقاء البلد».

تقويض القانون

ما يستحق الذكر، أنه لم يسبق لقضاة لبنان أن استنكفوا عن أداء رسالتهم ولا تخلّفوا عن إصدار الأحكام والقرارات القضائية. إلا أن الأزمة الراهنة قلبت الأمور رأساً على عقب، وبات الإضراب والاعتكاف السلاح الأخير الذي لا بدّ من اللجوء إليه. وهنا يرى القاضي غالب غانم، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، أن «وضع القضاء اللبناني يتأثر سلباً بالوضع السائد في البلاد، وفي غياب أركان دولة القانون، فإن العاصفة التي تضرب لبنان تهدّد بتقويض القضاء حتى لو كانت إرادة القضاة حديدية».

غانم أعرب لـ«الشرق الأوسط» عن أسفه لـ«تمادي تدخلات السياسية بالسلطة القضائية، وكأنهم (السياسيون) يعتقدون أنهم يحققون مكاسب على أرض القضاء، إلّا أن أي تدخل في القضاء سيرتدّ سلباً على البلد ككل». وأضاف: «في السابق كانت التدخلات السياسية سريّة أو غير منظورة، أما اليوم فغدت حدود التدخل مباحة».

وتطرّق غانم إلى «إهمال متعمّد للمرفق القضائي»، وقال: «صحيح أن البلد منهار اقتصادياً ومن واجب القاضي أن يضحّي كغيره، لكن هناك حدّاً أدنى من الحقوق. نحن لا نطلب أن يكون وضع القاضي كما كان قبل الأزمة، إلا أننا نرى وجوب تأمين الحدّ الأدنى أقلّه في التقديمات الاستشفائية والتعليمية حتى يصمد القاضي ويواصل أداء رسالته»، داعياً السلطة السياسية إلى «النظر في وضع القضاء من زاوية خاصّة، حتى تبقى الإنتاجية القضائية قائمة».

استهداف القضاء

بموازاة الأزمة الاقتصادية، يعاني القضاء أزمة معنوية، عبر حملات تطاله عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً في الفترة التي رافقت مرحلة الاعتكاف الأخيرة وما تلاها. وهنا يلاحظ القاضي غانم «وجود نظرة عدائية من المجتمع تجاه القضاء، وهذا أمر خطير جداً... وحتى إذ كان هناك اعوجاج لدى بعض القضاة القلائل جداً، لماذا استهداف مؤسسة القضاء بشكل عام؟... لماذا التعاطي الإعلامي مع القضاء بشيء من السخرية والتهكّم، بما يرتدّ سلباً على الناس وملفاتهم؟».

الرئيس السابق للسلطة القضائية لا ينكر تأثر بعض القضاة بالتدخلات السياسية. ويوضح: «للأسف، بدل أن يأتي السياسيون إلى القضاء، ثمة قضاة يذهبون إلى أهل السياسة للتقرّب منهم، وهذا غير جائز... فبمجرد لمس السياسيين رفض القضاة لمطالبهم سيتوقف التدخل بعمل السلطة القضائية»، وبالتالي لا تتحوّل بعض الدوائر القضائية إلى دوائر سياسية».

وبينما لا يخفي غانم أن «عدم إقرار القوانين التي تكرّس استقلالية السلطة القضائية تؤثر سلباً على الواقع القضائي» فهو يأمل بأن «تحصر التشكيلات القضائية بيد مجلس القضاء الأعلى وحده، من دون الحاجة إلى مرسوم، فالقضاء قادر لوحده تولّي هذه المهمّة».

مرحلة سوداوية

على صعيد متصل، يعاني مرفق العدالة في لبنان من تدّني عدد القضاة بسبب إحالة العشرات منهم في السنوات الأخيرة على التقاعد، واستقالة البعض الآخر وتقديم بعضهم طلبات استيداع (العمل في الخارج مؤقتاً)، وإقفال الباب أمام امتحانات اختيار قضاة جدداً لمعهد الدروس القضائية.

أيضاً يعزو القاضي غانم أسباب النزف القضائي إلى «تحطّم المعنويات لدى الكثير من القضاة؛ ما دفع بأعداد منهم إلى طلب الاستيداع، والبعض إلى الاستقالة ومغادرة البلاد، وهذا يهدد وضع القضاء». ثم يختم: «إذا لم نذهب إلى حلول سريعة لأزمة القضاء سنكون أمام مرحلة سوداوية... انهيار القضاء له تداعيات خطيرة على الدولة والمؤسسات وعلى الشعب اللبناني ككل؛ ولذا لا بد من تحرّك سريع واجتراح الحلول حتى لا نصل إلى الأسوأ».

شرعة أخلاقية

من جانب آخر، لا يفصل المحامي الدكتور بول مرقص، رئيس مؤسسة «جوستيسيا» الحقوقية، بين أزمة القضاء والتفكك الذي يصيب مؤسسات الدولة في لبنان. ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه: «لا يمكن الحديث عن القضاء بمعزل عن حال البلد المترهلة أخلاقياً واقتصادياً ومالياً، إلا أنه يقتضي إيلاء فساد بعض القضاء اهتماماً خاصاً لأهمية موقعهم للفصل في الحقوق والحريات».

وفي انتقاد حاد للدولة «التي تخلّت عن حقوق القضاة»، يقول مرقص: «ما دامت رقاب الناس وحقوقهم في أيديهم (القضاة) لا يجوز تركهم عرضة للعوز والضغط السياسي عليهم». ويتابع: «الإصلاح يبدأ باعتماد القضاة شرعة أخلاقية يلتزمون بها افرادياً عند تبوء مناصب سياسية بعد تركهم القضاء، وذلك كي لا يسعوا إليها فيأتمروا بالسياسيين إبان عملهم القضائي، مروراً بتعديل مجلس النواب المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لجعل التشكيلات القضائية نافذة دون تدخل الحكومة، على اعتبار أن اقتراح قانون استقلال السلطة القضائية المطروح حالياً بصياغته الحالية هو معقد وغير قابل للإقرار».

القاضي غالب غانم - حسابه على إكي كوم تويت على إكس كوم - تويتر)

الأيادي النظيفة

ختاماً، لا جدوى من الرهان على أهل السلطة لإصلاح الوضع القائم، ما دام أن الكارثة التي يعيشها لبنان هي نتاج السياسات التي اتبعوها على مدى العقود السابقة. ويشدد المحامي مرقص على أن «الحل في لبنان يكمن في القضاء على طريقة حملة الأيادي النظيفة في إيطاليا التي حاربت طبقة سياسية أكثر فساداً من لبنان ونجحت في ذلك». ويرى مرقص أن «الحل الثاني هو في تسلّم الجيش اللبناني للحكم، وهذا أمر غير ديمقراطي ولا يستقيم في بلد كلبنان». ثم يضيف: «المطلوب للوصول إلى ذلك تدعيم وضعية القضاة اجتماعياً، مقابل تقديمهم تضحيات تمليها عليهم رسالتهم أصلاً... والسؤال: من سواهم (القضاة) تقع عليهم مسؤولية مكافحة الفساد؟ من سواهم بإمكانه إخضاع السياسيين لحكم القانون؟ من سواهم يعطي الإشارات للأجهزة الأمنية؟... الحل يبدأ بالقضاء وينتهي بمعاقبة الفاسدين واسترداد أموال الفساد».

يحاذر وزير العدل هنري الخوري وصول الأزمة القضائية إلى مرحلة اللاعودة ويضع في أولوياته معالجة الأسباب

الاعتكاف القضائي: معالجات لا تبدّد الهواجس

> شهد القضاء اللبناني ثلاث مراحل من الاعتكاف الذي تعدّدت أسبابه:

الاعتكاف الأول تلى أول التشكيلات القضائية في السنة الأولى من عهد الرئيس ميشال عون؛ إذ أثارت تلك التشكيلات غضباً واسعاً في الأوساط القضائية؛ لكونها لم تراع الكفاءة والأقدمية للمعينين في المراكز الحساسة. وهذا الأمر حمل القضاة على إطلاق الصرخة والمطالبة بإقرار قانون استقلالية القضاء، ومنع التدخل السياسي في أداء القضاة، قبل أن تقع الكارثة الاقتصادية والمالية التي عصفت بالجسم القضائي وأثر سلباً على أدائه وإنتاجيته.

ذلك الاعتكاف بدأ في أواخر عام 2017، وعمّق الخلاف يومها بين السلطة القضائية ممثلة بمجلس القضاء الأعلى، وبين وزير العدل (آنذاك) سليم جريصاتي (المحسوب على الرئيس ميشال عون). وبلغ الخلاف ذروته بين الطرفين على خلفية قرار اعتكاف التزم به عدد كبير من القضاة، الذين توقفوا عن ممارسة مهامهم؛ احتجاجاً على ما أسموه «إمعان السلطة السياسية في ضرب استقلالية القضاء، ومحاولة إخضاعه عبر التدخل في عمله، والتضييق عليه مادياً ومعنوياً، وحرمان القضاة من بعض المكتسبات التي توفر لهم أماناً اجتماعياً».

يومذاك تسبب الاعتكاف بمواجهة غير مسبوقة بين جريصاتي ومجلس القضاء الأعلى؛ إذ اعتبر الوزير أن الاعتكاف يشكل تحدياً له ولعهد عون في بدايته. ووجّه حينها كتاباً إلى مجلس القضاء الأعلى دعاه فيه إلى «تنبيه القضاة من الاستمرار في الاعتكاف، وتحميلهم مسؤولية أجواء غير صحية تسود أروقة قصور العدل». واستدعى كتاب وزير العدل ردّاً سريعاً من مجلس القضاء، أعلن فيه الأخير أنه «لا يحق للوزير توجيه تعاميم وكتب إلى القضاة». وذكّر بأن «مجلس القضاء الأعلى لا يعدّ جهة تنفيذية لقرارات وزير العدل عملاً بمبدأ استقلالية السلطة القضائية، ومبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها، وبالتالي لا يجوز لأي سلطة أن تطغى بعملها على أي سلطة أخرى».

القاضي سهيل عبود

الاعتكاف الثاني كان منتصف العام الماضي. فمع تسارع وتيرة الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، أعلن قضاة لبنان على أثر انعقاد الجمعية العمومية، الدخول في اعتكاف شامل خالٍ من الاستثناءات، احتجاجاً على تدني رواتبهم التي فقدت 95 في المائة من قيمتها، وكذلك غياب التقديمات الطبيّة والاستشفائية والمنح المدرسية والجامعية.

وألحق هذا الاعتكاف ضرراً كبيراً بحقوق المتقاضين؛ إذ استعصى على آلاف الأشخاص التقدم بالشكاوى بسبب الإضراب ورفض أي مراجعة، كما تسبب الإضراب بتراكم آلاف الدعوى التي لم يبت فيها، وانسحبت أضراره على السجون ومراكز التوقيف التي غصّت بالسجناء في ظل التأخر بالبت بإخلاءات سبيلهم».

مرحلة الاعتكاف تلك، التي كانت الأطول والأقسى، انتهت بإقرار زيادة الرواتب بثلاثة أضعاف كما ورد في الموازنة العامة، ومساهمة صندوق تعاضد القضاة بدفع مساعدة مالية بـ(الفريش دولار) تراوحت بين 500 و1200 دولار للقاضي، بالإضافة إلى مساهمة الصندوق بإعطاء الأولوية للمساعدة المرضية.

أما الاعتكاف الثالث (الحالي) فبدأ يوم 1 سبتمبر (أيلول) الحالي مع إعلان 111 قاضياً في القضاء العدلي والإداري والمالي، توقفهم فجأة عن العمل احتجاجاً على أوضاعهم المالية والاجتماعية. وقال هؤلاء في بيان أصدروه: «في ظل عجز الدولة عن تغطية الاستشفاء والطبابة والتعليم، الخاص بالقضاة وعائلاتهم، وفي ظل انعدام ظروف العمل اللائقة بالكرامة البشرية في قصور العدل، وفي ظل ما وصل إليه وضع القضاء على جميع الصعد، نعلن التوقّف القسري عن العمل، وذلك الى حين توافر مقومات العيش والعمل بكرامة».

هذا القرار المفاجئ قابله هنري الخوري، وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، بتحرك سريع؛ إذ دعا القضاة إلى الاجتماع به، وأكد أنه «بصدد تنفيذ مطالبهم أو أغلبها عبر اتصالات يجريها مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير المال يوسف الخليل والمراجع القضائية». أما رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود الذي بدا مستاءً من العودة إلى شلّ مرفق العدالة، فدعا القضاة إلى جمعية عمومية مغلقة عقدت في قصر العدل في بيروت، وطرح فيها القضاة مطالبهم وهواجسهم، وتعهّد عبود ببذل أقصى جهده بتبديد قلق القضاة وتحصيل حقوقهم، وتمنى عليهم الاستمرار في عملهم والتضحية من أجل الحفاظ على القضاء وهيبته. غير أن قضاة شاركوا في الجمعية العمومية، أكدوا لـ«الشرق الأوسط»، أن «المعتكفين ما زالوا على اعتكافهم»، وأن باقي القضاة «يراقبون ما ستؤول إليه مساعي وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى وبعدها يبنى على الشيء مقتضاه».


مقالات ذات صلة

شراكة بوتين «الاستراتيجية» مع بيونغ يانغ توسّع المواجهة مع الغرب

حصاد الأسبوع المصفحة الرسمية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في بيونغ يانغ (رويترز)

شراكة بوتين «الاستراتيجية» مع بيونغ يانغ توسّع المواجهة مع الغرب

قد تشكّل الزيارة «التاريخية»، كما وصفتها موسكو وبيونغ يانغ، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، نقطة تحوّل رئيسية في الصراع المتفاقم بين روسيا

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع  اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى

لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

في صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، اقتحمت ناقلة جند مصفحة بوابة مقر رئاسة الحكومة البوليفية في العاصمة لاباز، وعلى متنها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع الجنرال زونيغا، قائد المحاولة الانقلابية الفاشلة، قيد الاعتقال (رويترز)

بوليفيا: المحاولة الانقلابية... وخلفية الصراعات المتنوعة

> يصعب فهم ملابسات المحاولة الانقلابية «الفاشلة» التي شهدتها بوليفيا يوم 26 يونيو (حزيران) الماضي، ودامت أقل من ساعتين، من غير الرجوع إلى الأجواء السياسية

«الشرق الأوسط» (مدريد)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز

قراءة في توجّه تونس شرقاً نحو الصين وآسيا

أعربت مصادر غربية خلال الأسابيع القليلة الماضية عن انشغالها «بتوجّه تونس شرقاً»، خصوصاً نحو الصين وروسيا وآسيا. وأثارت المصادر نفسها علامات استفهام حول امتناع

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

تنطلق الأحد، الجولة الأولى من الانتخابات النيابية الفرنسية المبكرة، حيث دعي 49.5 مليون مواطن فرنسي للتوجه إلى صناديق الاقتراع بعد سنتين فقط من الانتخابات السابقة المماثلة. ولقد كان من المفترض أن تحصل هذه الانتخابات في العام 2027، بيد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نسف الأجندة الانتخابية بقراره ليل الأحد في التاسع من يونيو (حزيران) الحالي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. هذا الأمر أثار الذهول ليس في فرنسا وحدها، بل أيضاً داخل الاتحاد الأوروبي... لا، بل إن المستشار الألماني أولاف شولتس، المعروف بتحفظه، لم يتردد في التعبير عن «قلقه» إزاء ما ستحمله نتائج الانتخابات، وتخوّفه من تمكن اليمين المتطرّف ممثّلاً بـ«التجمع الوطني» ورئيسه الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 سنة فقط، إلى السلطة.

ميشال أبونجم (باريس)

شراكة بوتين «الاستراتيجية» مع بيونغ يانغ توسّع المواجهة مع الغرب

المصفحة الرسمية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في بيونغ يانغ (رويترز)
المصفحة الرسمية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في بيونغ يانغ (رويترز)
TT

شراكة بوتين «الاستراتيجية» مع بيونغ يانغ توسّع المواجهة مع الغرب

المصفحة الرسمية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في بيونغ يانغ (رويترز)
المصفحة الرسمية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في بيونغ يانغ (رويترز)

قد تشكّل الزيارة «التاريخية»، كما وصفتها موسكو وبيونغ يانغ، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، نقطة تحوّل رئيسية في الصراع المتفاقم بين روسيا والغرب. لقد نفّذ «سيد الكرملين» عملياً بعض تهديداته المعلنة على خلفية زيادة انخراط الغرب في الحرب الأوكرانية. ولم يعد الأمر يقتصر على التلويح بتسليح «خصوم الولايات المتحدة وحلفائها»، بل خيار وُضع على مسار التنفيذ وينتظر القرار السياسي في اللحظة المناسبة للكرملين. بيد أن الأمر الأكثر إثارة في مُخرجات زيارة بيونغ يانغ كمُن في إطلاق إشارة جدية بجهوزية الكرملين لتوسيع «رقعة المواجهة» الدائرة في أوكرانيا وحولها، لتشمل مناطق في العالم، مشتعلة بملفات ساخنة ومعقدة للغاية. ولذلك؛ كان طبيعياً أن تثير الزيارة ونتائجها قلقاً جدياً لدى الغرب. وأن تفتح أيضاً باباً واسعاً للنقاش حول رؤية الكرملين لملامح «العالم الجديد المتعدد الأقطاب» الذي لطالما روّج له بوتين، وآليات بناء تحالفاته في المنظومتين الإقليمية والدولية التي يسعى لتكريسها.

لعل العنوان الأبرز لزيارة الرئيس فلاديمير بوتين كوريا الشمالية تمثّل في توقيع اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية الشاملة»، التي حملت في أحد بنودها تأكيداً مثيراً للغاية حول «الدفاع المشترك» ضد أخطار خارجية قد تهدّد البلدين أو أحدهما.

هذه الصيغة بحد ذاتها شكّلت مادة غنية للنقاش، وأساساً لزيادة مخاوف الغرب حيال سياسات بوتين الإقليمية.

وقبل الدخول في تفاصيل الاتفاق وآليات تطبيقه المحتملة، تجدر الإشارة إلى نقطتين فارقتين. النقطة الأولى هي أن الاتفاقية بشكلها الراهن تشكل استعادة مباشرة للإرث السوفياتي بكل ما يحمل هذا الأمر من رسائل وإشارات من جانب الكرملين حول مدى استعداده للمضي في صراعه القائم مع الغرب إلى أقصى مدى ممكن. ولذلك؛ يمكن ملاحظة أن الاتفاقية تشكل تطويراً مباشراً لـ«معاهدة الصداقة والمساعدة المتبادلة المُبرمة» بين «كوريا الديمقراطية والاتحاد السوفياتي» في العام 1961 في ذروة «الحرب الباردة».

والنقطة الثانية أن هذه أول اتفاقية من نوعها توقّعها روسيا المعاصرة خارج الإطار الجغرافي للفضاء السوفياتي السابق، بمعنى أنها خارج نطاق مجالها الحيوي وفضاء مصالحها المباشرة. وللعلم، كانت روسيا أبرمت اتفاقاً مماثلاً فقط مع حليفتها الأقرب بيلاروسيا، وكما أبرمت اتفاقات جماعية حملت المضمون نفسه في إطار «معاهدة الأمن الجماعي» مع بلدان سوفياتية سابقة، لكن هذه المعاهدة ظلت في غالب الأحيان حبراً على ورق. ولم تشهد تحركاً جماعياً «ضد خطر خارجي» على أحد بلدان المجموعة إلا في حالات محدودة للغاية.

بداية حقبة جديدة!

بناءً عليه؛ تكتسب الاتفاقية مع بيونغ يانغ أهمية إضافية. وهو ما دفع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون إلى إعلان بداية «حقبة جديدة». وقال بعد التوقيع إنه «تم الإعلان عن البداية الرسمية لعلاقات التحالف بين جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية والاتحاد الروسي؛ ما يمثل نقطة تحول رئيسية في تاريخ تطور العلاقات الكورية - الروسية».

الواقع، وفق قسطنطين أسمولوف، الباحث البارز في مركز الدراسات الكورية في معهد الصين وآسيا الحديثة التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أن تسمية الاتفاقية بحد ذاتها تشير إلى ارتفاع كبير في مستوى العلاقات الثنائية. ورأى أن «الشراكة الاستراتيجية» تقفز بالعلاقات بين موسكو وبيونغ يانغ «خطوات عدة دفعة واحدة».

وهنا، لا بد من استعادة نص المعاهدة الأصلية التي طُوّرت؛ إذ نصّت المادة 1 من «معاهدة الصداقة والمساعدة المتبادلة» لعام 1961 على ما يلي: «إذا تعرض أحد الطرفين المتعاقدين لهجوم مسلح من قِبل أي دولة أو تحالف دول، وبالتالي وجد نفسه في حالة حرب، فإن الطرف المتعاقد الآخر يقدم على الفور المساعدة اللازمة. المساعدات العسكرية وغيرها من المساعدات بكل الوسائل المتاحة لها». وهكذا استُعير النص حرفياً تقريباً في الاتفاقية الجديدة مع إضافة نكهة معاصرة عبر الكلام عن التحديات الجديدة و«العدوان» المحتمل من خصوم الطرفين. وفي هذا الإطار تبرز إشكالية التعامل مع النص الموقع، وما إذا كان الهدف منه تطبيقاً عملياً أم توجيه رسائل تهديد لأطراف ثالثة.

هنا يقول بعض الخبراء الروس إنه «من الواضح أن السؤال الذي يطرح نفسه: مَن سيصف ما يشكّل عدواناً؟ على سبيل المثال، إذا قالت كوريا الشمالية إنها تعرّضت لهجوم، هل ينبغي لروسيا أن تتفق مع وجهة النظر هذه؟ أم يتوجب عليها أن تقيّم بنفسها أن هذا عدوان، وما إذا كان الوضع يتطلب تفعيل بند الدفاع المشترك؟».

رسالة إلى «الجيران»

الواضح أن الضمانات الأمنية التي قدّمتها روسيا لكوريا الشمالية تستهدف في المقام الأول أقرب جيرانها - اليابان وكوريا الجنوبية -، فضلاً عن حليفتهما الأكبر الولايات المتحدة. ولقد تجلى ذلك في خطاب بوتين، الذي ذكر فيه تحديداً توسيع البنية التحتية العسكرية الأميركية في شمال شرق آسيا، فضلاً عن زيادة حجم وكثافة التدريبات المشتركة مع كوريا الجنوبية واليابان. ووفقاً لخبراء، فإن «الإشارة الواضحة إلى خصوم الطرفين قد تدفع بيونغ يانغ نحو نشاط عسكري أكبر في المنطقة».

أسمولوف يضع تفسيره لأحكام الاتفاقية المُبرمة عبر الإشارة إلى احتمالات تطبيق أحكام المساعدة المتبادلة في سياق العملية العسكرية في أوكرانيا. ويقول: «من الناحية النظرية، دعونا نتخيّل موقفاً يقوم فيه الجانب الأوكراني مرة أخرى بقصف بيلغورود بطائرات قدّمتها الولايات المتحدة. يعلن الجانب الروسي أن هذا بالفعل هجوم على أراضيه، ويتجاوز حدود المنطقة العسكرية الشمالية، ويطلب المساعدة من كوريا الشمالية. أي أن الاتهامات الموجهة ضد موسكو وبيونغ يانغ حول تعاون عسكري في أوكرانيا ستتحول عملياً وقعاً سياسياً وعسكرياً جديداً».

ولكن في المقابل، ثمة من يقول إن مفهوم «المساعدة المتبادلة» أُدرِج في الاتفاقية بشكل غير واضح عمداً؛ بهدف توظيفه وفقاً للحاجة السياسية عند الضرورة.

الرئيسان الروسي والكوري الشمالي يتأهبان لتوقيع الاتفاقية الدفاعية (رويترز)

أداة ضغط سياسي

«إلى حد ما، يمكن اعتبار زيارة بوتين لبيونغ يانغ نفسها إحدى أدوات الضغط السياسي»، كما يقول روبرت وينستانلي تشيسترز، المحاضر في جامعة ليدز البريطانية. بمعنى أن أهمية الزيارة الحقيقية تتجلى في أبعادها من وجهة نظر جيوسياسية، أكثر من أن تكون محطة لإعلان تحالف عسكري. ولتوضيح هذه الفكرة يقول الباحث إن على الولايات المتحدة وحلفائها أن يأخذوا هذا العامل (الاتفاقية مع روسيا) في الاعتبار عند محاولاتهم لمواجهة بيونغ يانغ؛ الأمر الذي سيقلل من احتمالية الصدام العسكري مع كوريا الشمالية. وبذا يبدو التطور جزءاً من سياسة الردع للطرفين أكثر من أن يكون «تحالفاً عسكرياً واسع النطاق» بين روسيا وكوريا الشمالية.

وفي الوقت عينه، ووفقاً لخبراء روس، يُستبعَد أن يؤثر رفع مكانة علاقات بيونغ يانغ مع موسكو على علاقات الأولى مع بكين. وهنا يجب الأخذ في الاعتبار أن موسكو ما كانت لتقدم على خطوة كهذه من دون إبلاغ بكين. ويرجح خبراء أن يكون بوتين أبلغ الصينيين بنيته توقيع اتفاقية جديدة مع بيونغ يانغ إبان زيارته بكين في مايو (أيار). لكن هذا لا يعني أن الصين راضية تماماً عن وضع قد يؤجج التوتر أكثر في شبه الجزيرة الكورية. وهي ما زلت، وفقاً لخبراء، تفضل إدارة الملف عبر القوة الناعمة والدبلوماسية النشطة في مقابل الاندفاع الروسي «الساخن» في المواجهة القائمة مع الغرب.

عموماً، لا تزال الصين مُحتكِرة فعلياً مجال التعاون التجاري والاقتصادي مع كوريا الشمالية، مع محاولة موسكو تحقيق تكافؤ معين في هذا الشأن في المجال الأمني والعسكري. لكن التطور الأخير لا يعني أن بيونغ يانغ قد تنظر إلى روسيا كشريك أكثر أهمية من الصين. وبدلاً من ذلك، يُرجّح أن تستخدم كوريا الشمالية علاقتها مع روسيا لتحقيق التوازن وتوسيع قدراتها الاستراتيجية تجاه العلاقة مع الصين.

ملف العقوبات

الشق الثاني المهم للغاية في زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية، تعلّق بملف العقوبات المفروضة على بيونغ يانغ. إذ تطرق بوتين بشكل منفصل لموضوع العقوبات التي تخضع لها كل من روسيا وكوريا الشمالية، مع الفارق أن الأخيرة لا تخضع فقط لعقوبات أحادية الجانب، بل لتدابير يفرضها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أيضاً.

"أول اتفاقية من نوعها توقّعها روسيا المعاصرة خارج الإطار الجغرافي للفضاء السوفياتي السابق"

لذا حمل تعهده بـ»إعادة النظر في النظام التقييدي غير المحدد المدة الذي فرضه مجلس الأمن الدولي تجاه بيونغ يانغ» أهمية خاصة. ثم أن هذا الموقف ارتبط بالحرب الأوكرانية بشكل مباشر، عبر إعلان بوتين إطلاق شارة البدء بتنشيط التعاون العسكري التقني مع كوريا الشمالية بعد اتهامه الدول الغربية بانتهاك الالتزامات الدولية فيما يتعلق بإمدادات محتملة لأسلحة بعيدة المدى وطائرات مقاتلة من طراز «إف - 16» إلى أوكرانيا.

لكن هذا الملف لا يقتصر على البُعد العسكري. وبجانب تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية والتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج ووقود الطائرات والصواريخ، فإن القرارات الدولية تحظر تزويد كوريا الشمالية بالغاز الطبيعي والمعادن والمعدات الصناعية والمركبات والسلع الفاخرة. كذلك يُحظر على هذا البلد تصدير الفحم والمأكولات البحرية والمنسوجات والأجهزة الكهربائية والخشب والموارد الطبيعية الأخرى، وعلى البنوك الكورية الشمالية فتح فروع أجنبية، وكان تم وضع حد لتوظيف العمال الكوريين الشماليين.

ماذا يمكن لروسيا أن تفعل في هذا الإطار؟

ظلت موسكو منذ بعض الوقت تضع عقبات أمام تشديد نظام العقوبات ضد بيونغ يانغ. وفي مايو 2022، منعت روسيا والصين مشروع قرار أعدته الولايات المتحدة بشأن فرض قيود جديدة رداً على اختبارات الصواريخ الباليستية المتكررة. وفي مارس (آذار) 2024، استخدمت موسكو حق النقض (الفيتو) ضد قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتمديد ولاية مجموعة من الخبراء الذين يراقبون الامتثال للعقوبات الدولية ضد كوريا الشمالية.

في المقابل، حتى بدعم من الصين، تظل روسيا عاجزة عن رفع العقوبات الدولية المفروضة على كوريا الديمقراطية. ففي ديسمبر (كانون الأول) 2019، قدّمت موسكو وبكين مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي، يتضمن رفع الحظر على تصدير المأكولات البحرية والمنسوجات والتماثيل، وإعفاء مشاريع السكك الحديدية والطرق بين الكوريتين من العقوبات الأميركية، فضلاً عن رفع العقوبات الأميركية، وإنهاء حظر عمل الكوريين الشماليين في الخارج. ولكن في النهاية... لم تُطرح الوثيقة للتصويت. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، قدمت روسيا والصين نسخة منقحة من القرار إلى أعضاء مجلس الأمن لكنهما فشلتا مجدداً في اعتماده. وهكذا، في ظل الحقائق الجيوسياسية الحالية، تظل فرص إقرار مثل هذه الوثيقة من قِبل بقية الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، عملياً معدومة.

مع هذا، قد تجد موسكو بدائل. منها مثلاً، إعلان وقف مؤقت للامتثال لعقوبات معينة ضد كوريا الشمالية لأسباب إنسانية؛ وهو الأمر الذي ستنتقده حتماً الولايات المتحدة وحلفاؤها. وبمقدور موسكو أيضاً اللجوء إلى تفسير «مبتكر» للعقوبات - وفق مبدأ «ما ليس محظوراً فهو مسموح به».

بالإضافة إلى ذلك، قد ترفض روسيا الامتثال للقيود الدولية المفروضة على توظيف العمال الكوريين الشماليين وتوريد الموارد الطبيعية والمعدات إلى بيونغ يانغ. وهنا يشدد خبراء على أن «عبر هذه الإجراءات، تستطيع روسيا أن توضح للمجتمع الدولي أن العقوبات غير فعالة ليس فقط في سياق كوريا الشمالية، ولكن أيضاً بشكل عام».

موسكو وبيونغ يانغ وقَّعتا اتفاقية ممر جسر تومانايا الحدودي

> بالإضافة إلى الاتفاقية الاستراتيجية الجديدة، وقّعت موسكو وبيونغ يانغ خلال الزيارة اتفاقيتين لا تقلان أهمية، الأولى بشأن بناء جسر بري عبر نهر تومانايا الحدودي الذي يتدفق إلى بحر اليابان، والأخرى حول التعاون في مجال الرعاية الصحية والتعليم الطبي والتعليم الطبي. ولقد ورد ذكر تومانايا سابقاً في بيان مشترك عقب المفاوضات بين بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ في منتصف مايو (أيار)؛ إذ أكد الطرفان في حينها أنهما «سيواصلان، إلى جانب كوريا الديمقراطية تبادل وجهات النظر البنّاءة حول موضوع ملاحة السفن الصينية في الروافد السفلية».لزيادة حجم التجارة، يعد الاتفاق على بناء جسر طريق عبر تومانايا أمراً مهماً؛ نظراً لأن الأطراف في حاجة إلى تعزيز الروابط اللوجيستية، فحالياً يرتبط البلدان براً فقط بخطوط سكك الحديد التي تمر عبر «جسر الصداقة».ولتوضيح أهمية المشروع أكثر، يقول خبراء إن الصين وكوريا الشمالية (التي يبلغ اعتمادها التجاري على بكين بنسبة 95 في المائة) لديهما الآن 18 نقطة تفتيش. وتهتم الصين بالوصول إلى بحر اليابان، لكن تطوير الأراضي في هذه المنطقة يعتمد على القرارات السيادية لموسكو وبيونغ يانغ.كذلك، يشير بعض الخبراء إلى أن مشروع الجسر البري عبر نهر تومانايا العميق القابل للملاحة طُرح للمرة الأولى في تسعينات القرن الماضي. وفي حال شرع البلدان حالياً في التنفيذ العملي للمشروع بعد توافر الإرادة السياسية والظروف الدولية الملائمة لهما، فإن هذا المسار سيخلق وضعاً جديداً تماماً بالنسبة إلى حركة البضائع والتجارة، وستكون الصين قادرة على الإبحار مباشرة بسفنها التجارية إلى بحر اليابان؛ الأمر الذي سيكون أكثر ربحية.ويخلص خبراء إلى أنه من الناحية النظرية، يمكن للصينيين لاحقاً، الحصول على الحق في مثل هذه التحركات للسفن الحربية أيضاً؛ ما من شأنه تغيير الوضع الاستراتيجي الإقليمي بشكل كبير.