لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

على الرغم من معارضتي اليمين... ورعاته السياسيين اليساريين

 اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
TT

لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

 اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى

في صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، اقتحمت ناقلة جند مصفحة بوابة مقر رئاسة الحكومة البوليفية في العاصمة لاباز، وعلى متنها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال خوان خوسيه زونيغا، الذي ما إن ترجّل من الناقلة حتى وقف بين الضباط وبعض المدنيين الذين كانوا برفقته وقال: «إن حفنة من أفراد النخبة قد وضعت يدها على البلاد وأمعنت في تدميرها، لكن القوات المسلحة ستعيد تنظيم الديمقراطية، وتسترجع الوطن من الذين يتعاقبون على السلطة منذ أربعين سنة، وسنفرج عن جميع المعتقلين السياسيين من مدنيين وعسكريين. إن الجيش لا تنقصه الرجولة للاهتمام بمستقبل أطفالنا». ولكن، بينما كان «قائد الانقلاب» يصرّح أمام الصحافيين بأن تعبئة جميع الوحدات العسكرية تهدف «للإعراب عن استيائها من الأوضاع التي وصلت إليها البلاد»، مدّعياً أنه لا يزال «حتى الآن» يطيع أوامر رئيس الجمهورية لويس آرسي، إلا أنه «جاهز لاتخاذ التدابير اللازمة من أجل تغيير الحكومة». كان الرئيس آرسي يناشد المواطنين التحرك ضد الانقلابيين لمنعهم من قلب النظام الديمقراطي. وأيضاً كانت القوى والأحزاب السياسية جميعها تدين التمرد العسكري وتعلن تأييدها للرئيس حتى نهاية ولايته. وحقاً، لم تكد تنقضي ساعتان على ذلك الاقتحام حتى كانت الحشود المناهضة للمحاولة الانقلابية تملأ الساحات، والجنرال زونيغا قيد الاعتقال مع بعض الضباط الموالين له. في حين كان آرسي يعيّن قائداً جديداً للقوات المسلحة ويعلن فشل الانقلاب، محاطاً بجميع أعضاء الحكومة، ومتعهداً «قطع شهيّة الانقلابيين على التمرّد».

انقضت عشرة أيام على أقصر محاولة انقلابية شهدتها بوليفيا، التي تضرب الرقم القياسي للانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية، إذ تمرّد عسكرها مرتين على الرئيس المنتخب خلال السنوات الخمس الماضية، غير أن ملابسات هذا التمرد الأخير ما زالت غامضة، وتتقاطع فيها الاتهامات بين الرئيس الحالي و«مرشده» و«عرّابه» السياسي، الرئيس اليساري السابق إيفو موراليس... اللذين يشكّل الصراع الشخصي بينهما محور الحياة السياسية في بوليفيا منذ سنوات.

النشأة والمسيرة

وُلد لويس آرسي في أسرة بوليفية من الطبقة المتوسطة، وأنهى دراسته في المدارس الوطنية، ثم جامعة سان آندريس في العاصمة لاباز، حيث تخرّج مجازاً في العلوم الاقتصادية، ثم نال شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الأنديز بعدما كان تابعَ دراسته العليا وحاز الماجستير في الاقتصاد من جامعة ووريك البريطانية المرموقة.

بعدها، التحق آرسي بالإدارة العامة، حيث تولّى مناصب عدة في المصرف المركزي البوليفي، ممضياً معظم سنواته في الوظيفة العمومية. وبينما كان اسمه يلمع بصفته خبيراً اقتصادياً ومالياً ويتولّى مسؤوليات حساسة في المصرف المركزي، فإنه راح أيضاً يكتسب شهرة على الصعيدَين المحلي والدولي مُحاضراً في عدد من الجامعات البوليفية والأجنبية، ومنها كولومبيا، وهارفارد، وجورجتاون في الولايات المتحدة، وبوينوس آيرس في الأرجنتين.

السياسة والوزارة

دقّت ساعة دخول لويس آرسي المعترك السياسي مطالع عام 2006 يوم تعيينه وزيراً للمال في حكومة إيفو موراليس، أول رئيس من السكان الأصليين في تاريخ أميركا اللاتينية - وهو من شعب الآيمارا -. ثم عاد وتولّى بعد ذلك بثلاث سنوات حقيبة الاقتصاد والمال الجديدة، وفي حينه وصفته وسائل الإعلام الدولية المتخصصة بأنه «صانع المعجزة الاقتصادية البوليفية»، كما اختاره «منتدى خبراء الاقتصاد والمال في أميركا اللاتينية» عام 2011 من بين أفضل 10 وزراء للاقتصاد في تاريخ المنطقة.

وكانت بين أبرز التدابير التي اتخذها آرسي، وأسهمت في النمو الاقتصادي الذي شهدته بوليفيا، سلسلة المحفّزات لتشجيع السوق المحلية، وتحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة الوطنية، وسياسات التصنيع المستندة إلى الموارد الطبيعية الوطنية ضمن إطار إنمائي اجتماعي وإنتاجي يعطي الأولوية للسوق والموارد المحلية. وبالفعل، بفضل هذه السياسات تمكّنت بوليفيا من خفض مستوى الفقر لسكانها من 38 في المائة إلى 15 في المائة، وفق بيانات برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ما سمح بظهور طبقة متوسطة واسعة بين السكان الأصليين الذين يشكّلون 42 في المائة من مجموع السكان.

وأيضاً، استفاد آرسي من ارتفاع أسعار المواد الأولية في السوق الدولية، الأمر الذي سمح لبوليفيا بتحقيق نمو اقتصادي متوسطه السنوي 5 في المائة إبان فترة توليه وزارة الاقتصاد والمال. وعندما تراجعت أسعار المواد الأولية قرّر آرسي زيادة الإنفاق العام للتعويض عن انخفاض الصادرات، فأتاح للاقتصاد البوليفي مواصلة النمو بينما كانت الاقتصادات الأخرى في أميركا اللاتينية تتراجع. إلا أن تلك الاستراتيجية السياسية التي أطلق البعض عليها مسمى «سياسة الهروب إلى الأمام»، تسبّبت في ارتفاع العجز المالي العام وانخفاض احتياطي العملات الصعبة.

المرض والاستقالة

في أواسط عام 2017 اضطر لويس آرسي للاستقالة من منصبه؛ بسبب إصابته بسرطان في الكلية، وأمضى فترة سنتين يتلقى العلاج في البرازيل قبل أن يعود عام 2019 ليتولى مجدّداً وزارة الاقتصاد والمال. ومن ثم، في العام التالي اختاره حزب «الحركة من أجل الاشتراكية» اليساري مرشحاً عنه للانتخابات الرئاسية التي فاز فيها من الدورة الأولى. والواقع أن اختياره مرشحاً عن اليسار جاء بقرار من موراليس، الذي اضطر للفرار من بوليفيا بعد انتخابات عام 2019، وذلك على الرغم من اعتراض التنظيمات المحلية والقطاعية في التيار التي كانت تفضّل ترشيح وزير الخارجية السابق دافيد تشوكيوانكا، الذي اختاره آرسي نائباً له. بيد أن موراليس تمكّن من فرض رأيه على القاعدة، وفرض اختيار آرسي مع أنه لم يكن قد انضم إلى التيار سوى في عام 2005.

وللعلم، بعد تسلّم آرسي رئاسة الجمهورية في نوفمبر (تشرين الثاني)2021 كشفت معلومات سرّيّة لاحقاً عن أن وزير الدفاع (آنذاك) حاول مع بعض الضباط إجهاض توليّه الرئاسة، لكنه فشل في محاولته بعد اعتراض القيادات العسكرية ومعظم الأحزاب السياسية على المحاولة.

سياسات الرئيس

من القرارات الأولى التي اتخذها آرسي بعد توليه رئاسة الجمهورية، إعادة العلاقات الدبلوماسية مع حكومة نيكولاس مادورو الفنزويلية اليسارية التي كانت قرّرت قطعها الرئيسة اليمينية السابقة جانين آنيز، المعتقلة حالياً، كما أعاد العلاقات مع إيران، وفرض على مواطني الولايات المتحدة وإسرائيل شرط الحصول على تأشيرة لدخول بوليفيا بعدما كانت قد ألغته الحكومة السابقة. وكذلك، قرّر عودة بلاده للمشاركة في عديد من المؤسسات والمنظمات الإقليمية التي كانت حكومة آنيز قد قررت تعليق نشاطها فيها.

وعلى صعيد التدابير الاجتماعية البارزة، اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت، وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى. وأعاد قرضاً إلى صندوق النقد الدولي بقيمة 350 مليون دولار لاعتباره أنه كان مربوطاً بشروط تنتهك سيادة البلاد ومصالحها الاقتصادية.

ولكن في موازاة ذلك، انخفض إنتاج بوليفيا من الغاز الطبيعي الذي يشكّل عماد الصادرات الوطنية، وذلك لنقص الاستثمارات في البُنى التحتية اللازمة لاستخراجه وتسويقه. ولذا كثّف الجهود التصنيعية المحلية للحدّ من الاستيراد، ولتنويع مصادر الدخل القومي، مركزاً على مادة الليثيوم الاستراتيجية التي تملك بوليفيا أكبر احتياطي منها في العالم.

في عام 2022 سجلت بوليفيا أدنى نسبة تضخم في أميركا اللاتينية، ما أسهم في زيادة شعبية آرسي بين الطبقات الفقيرة مثل الفلاحين وعمال المناجم والسكان الأصليين، غير أن شعبيته كانت تنحسر في المقابل لدى الطبقات الأخرى والقوى الفاعلة، كالنخبة المالية والاقتصادية والكنيسة والجامعات والروابط المهنية ووسائل الإعلام الكبرى. وللعلم، في خريف عام 2021 كانت المعارضة قد نظّمت سلسلة من المظاهرات احتجاجاً على مشروع قانون «مكافحة تمويل الأنشطة غير المشروعة وتبييض رؤوس الأموال»، الذي رأى فيه القطاع غير المنتظم - ويضمّ أكثر من نصف اليد العاملة في البلاد - ذريعةً لمراقبة أنشطته. وتلت ذلك حملة واسعة شاركت فيها أطياف المعارضة جميعها؛ لقطع طرق المواصلات الرئيسة لفترة غير محدودة بهدف شل الحركة الاقتصادية، لا سيما في المراكز الصناعية الكبرى. وبالتالي، أمام تفاقم الوضع وحدوث مواجهات عنيفة، قررت الحكومة سحب مشروع القانون.

وعادت المعارضة في العام التالي لتنظيم مزيد من الاحتجاجات التي أدت إلى مواجهات دامية، واعتداءات على منظمات اجتماعية وهيئات عمالية مؤيدة للحكومة، خصوصاً، في مناطق السكان الأصليين.لكن متاعب آرسي لم تقتصر على الاحتجاجات المُمنهجة التي كانت تنظمها المعارضة، بل وصلت أيضاً إلى الدائرة السياسية التي رشّحته للانتخابات وكانت وراء وصوله إلى الرئاسة. ففي أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي قرّرت الهيئة التنفيذية لحزب «الحركة من أجل الاشتراكية» التي يرأسها إيفو موراليس طرد آرسي من الحزب لرفضه حضور المؤتمر الذي عقده ذلك العام، وبدأت تظهر علامات الانشقاق داخل التيّار اليساري بين مؤيدين للرئيس السابق، وأنصار الرئيس الحالي الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «كتلة التجديد»، والذين يتهمهم الحزب بخيانة مبادئه السياسية ومؤسسه موراليس.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
TT

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)
القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)»، ستنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان، في ظل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يخوض «حرباً ستكون طويلة لتغيير خريطة الشرق الأوسط». ومع ذلك، كانت معظم التحليلات تتكلّم عن «مأزق» إسرائيل «المأزومة»، وعن خلافاتها في الداخل ومع الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة، ما سمح للبعض بالترويج أن أهداف هذه الحرب لم تتحقق، وقد لا تتحقق، سواء في غزة والأراضي الفلسطينية، أو في لبنان. لكن على أرض الواقع، كان من الواضح أن ما حقّقته إسرائيل حتى الآن من حربها على غزة يتجاوز كثيراً الردّ على «هجوم أكتوبر».

بعدما نجحت إسرائيل في تعزيز «صورة» ربط حربها التهجيرية في غزة بأنها «صراع وجود» مع إيران وأذرعها الساعين إلى تدميرها، وفّرت تلك الحرب للإسرائيليين أيضاً غطاءً دولياً واسعاً، ليس لإطالة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين فقط، بل الانتقال أيضاً إلى حرب إبادة أخرى ضد لبنان.

هذا الأمر طرح تساؤلات عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه أهداف إسرائيل، وعمّا إذا كانت حربها لتغيير «المشهد الإقليمي» ممكنة من دون موافقة أميركية. بيد أن الوقوف على المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على سياسة واشنطن يظهر تغييراً كبيراً في مقاربتها ونظرتها تجاه إيران، مع التغييرات التي طرأت على المشهد الدولي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

«فرصة استراتيجية» لأميركا

قبل الدخول في ما عدّه البعض «تجاهلاً» من تل أبيب للمساعي الأميركية لفرض وقف لإطلاق النار في حربها المتصاعدة ضد «حزب الله»، روّجت تحليلات العديد من الصحف الأميركية ولا تزال لـ«خلافات» بين واشنطن وتل أبيب. إلا أن دينيس روس، المبعوث الرئاسي السابق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، رأى أن ما جرى حتى الآن «يُعد فرصة استراتيجية لأميركا، ليس لتغيير المنطقة فقط، بل تغيير الوضع في لبنان أيضاً بعد اغتيال حسن نصر الله وإضعاف (حزب الله)». وخلال ندوة في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، حضرتها «الشرق الأوسط»، يوم الأربعاء، وشاركت فيها دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، وديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترمب، أضاف روس: «بات بمقدور أميركا اتخاذ إجراءات رادعة مباشرة، ليس ضد إيران فقط، بل المشاركة قبل ذلك في ضرب أذرعها مباشرة وملاحقتهم».

وبحسب روس، فإنه بعدما تمكّنت إسرائيل من ضرب و«تحييد» الخطر الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»، يمكن لواشنطن الآن «ضرب وملاحقة الحوثيين، كإشارة إلى أننا قادرون على تعريض ما نعتقده نحن مصالح مهمة لها، وخصوصاً برنامجها النووي، وليس المصالح التي تعتقد إيران أنها مهمة بالنسبة لها فقط».

تغيير مسار المنطقة

من جهتها، قالت سترول، إن إرسال الأصول العسكرية الأميركية، منذ اندلاع الحرب قبل نحو سنة، وخصوصاً في الفترة الأخيرة «لا يُعبّر عن تصميم إدارة بايدن على مواجهة التهديدات الإقليمية، والدفاع عن إسرائيل، ومنع توسّع الحرب فقط، بل تغيير المسار في المنطقة أيضاً». وأضافت: «كل الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) حتى الآن، بما فيها تصفية قوة (حماس) وضرب (حزب الله) وتوجيه ضربات لإيران، لم يكن بالضرورة مخطط لها. لكن اليوم، بعد كل الذي جرى، ينبغي أن نستغل ما حصل لنمضي في مسار مختلف، بما يعيد الاستقرار والسلام إلى المنطقة، وإعادة مسار العلاقات الإسرائيلية العربية إلى مسارها الذي انقطع بعد 7 أكتوبر».

من ناحيته، قال شينكر: «ثمة فهم خاطئ لتفسير ما تعنيه المطالبة بوقف إطلاق النار، سواء في غزة أو لبنان، وذلك لأن الأهداف التي وضعت لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الديناميات السابقة». وأردف أنه بمعزل عن الإدارة الجديدة التي ستأتي بعد الانتخابات الأميركية، وسواء أكان الفائز فيها كامالا هاريس أم دونالد ترمب، لا شك أنه «سيكون من الصعب العودة إلى السياسات الأميركية السابقة تجاه إيران وأذرعها وبرنامجها النووي». وأكد أن أميركا «ستلعب دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل وترتيب الأوضاع بعد حرب غزة، التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وكذلك في لبنان».

وهكذا، أمام هذه «الرؤية» التي تعكس حقيقة الموقف الأميركي للصراع الجاري، إن إصرار البعض على اعتباره إذعاناً وارتباكاً أميركياً أمام رغبات إسرائيل، قد يكون من الضروري قراءة «التحولات» التي طرأت على موقف إدارة الرئيس جو بايدن، منذ اندلاع الحرب.

تقديرات مختلفة للحرب في لبنان

كانت هناك تقديرات مختلفة داخل إدارة بايدن عن طبيعة الأخطار التي يمكن أن تواجهها «العملية» العسكرية التي أطلقتها إسرائيل ضد «حزب الله»، وعن قدراته العسكرية الحقيقية التي جرى تضخيمها. ولكن، بدلاً من تبيّن صحة تلك التقديرات، انتهى الأمر بتبنّي العديد من المسؤولين الأميركيين النجاح الذي حقّقته إسرائيل في سعيها - بزخم مذهل - إلى إضعاف «حزب الله». وهو ما بدا أنه يتناسب مع نمط إدارة بايدن، التي لطالما تدرّجت في التعبير عن مواقفها من الأحداث السياسية الخارجية.

إذ بعدما تحثّ إسرائيل على لجم اندفاعاتها، كانت لا تلبث أن تتراجع لاحقاً. وبعدما أوضح بايدن رغبته في «الوقف الفوري» للقتال في لبنان، وتحفّظه عن التوغّل البرّي، ظهر انقسام بين المسؤولين الأميركيين حول «الحكمة» من الحملة الإسرائيلية ضد «حزب الله»، خاصة منذ مقتل زعيمه حسن نصر الله، في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي. ففي حين ركّز البعض كثيراً على المخاطر، قال آخرون إنه إذا أمكن توجيه ضربة قوية للحزب من دون إثارة صراع إقليمي أوسع يجذب إيران فإن ذلك قد يُعدّ نجاحاً.

واليوم، يذهب كثيرون إلى القول إن وجهة النظر الأخيرة هي التي تغلبت في النهاية، وعبّرت عنها تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، «غير المعهودة» من كبير الدبلوماسيين، حين تكلّم عن «العدالة» التي نفّذت بحق نصر الله.

الضغط العسكري يدعم الدبلوماسية

يوم الاثنين الماضي، قال ماثيو ميللر، الناطق باسم الخارجية للصحافيين: «نحن بالطبع نواصل دعم وقف إطلاق النار، ولكن في الوقت نفسه، هناك أمران آخران صحيحان أيضاً: الضغط العسكري يمكن في بعض الأحيان أن يمكّن الدبلوماسية. وطبعاً، قد يؤدي أيضاً إلى سوء التقدير... يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة، ونحن نتحادث مع إسرائيل حول كل هذه العوامل الآن».

وحقاً، حتى الاتفاق الذي قيل إنه حصل بين أميركا وفرنسا وإسرائيل ودول عدة توصُّلاً إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، لمدة 3 أسابيع، بدا أن واشنطن قد تخلت عنه.

هذا ما بدا بعدما رأى مسؤولون في إدارة بايدن أن إسرائيل تحاول توجيه ضربة حاسمة لـ«حزب الله» عبر اغتيال زعيمه، بعد الضربات الساحقة التي نفّذتها على امتداد الأشهر الماضية، وتوجّت بما سُمي بهجوم «البيجر»، وبتصفية العديد من قياداته العليا والوسطى.

ورغم اتهام بنيامين نتنياهو بأنه هو الذي عاد عن الاتفاق الذي وافق عليه، فإن «الصمت» الأميركي الذي تلا اغتيال نصر الله، كاد يؤدي إلى تأجيل حتى إلغاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى لبنان، التي أصرّ قصر الإليزيه عليها في نهاية المطاف، تعبيراً عن «غضب» فرنسا، الذي قابلته إسرائيل بقصف هدف في العاصمة بيروت، للمرة الأولى يوم الأحد الماضي.

الحسم في تفكيك بنية «حزب الله»

بعدها، يوم الاثنين، في إشارة واضحة لحسم التردد ودعم العملية الإسرائيلية، قال «البنتاغون» إن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اتفق مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت «على ضرورة تفكيك البنية التحتية الهجومية على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، لضمان عجز (حزب الله) عن شنّ هجمات على غرار هجمات 7 أكتوبر على المجتمعات الإسرائيلية في تلك المنطقة». وأردف «البنتاغون» أن أوستن «راجع التطورات الأمنية والعمليات الإسرائيلية» مع غالانت، وأكد مجدداً «دعم الولايات المتحدة لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران و(حزب الله) و(حماس) والحوثيين وغيرها من المنظمات الإرهابية المدعومة من إيران».

ورغم تأكيد أوستن على أهمية «التحول في نهاية المطاف من العمليات العسكرية إلى المسار الدبلوماسي لتوفير الأمن والاستقرار في أقرب وقت ممكن»، فإنه أوضح أن واشنطن في وضع جيد للدفاع عن أفرادها وشركائها وحلفائها في مواجهة تهديدات إيران والمنظمات الإرهابية المدعومة منها، وأنها عازمة على منع أي جهة فاعلة من استغلال التوترات أو توسيع الصراع. كذلك ناقش أوستن مع غالانت ما سمّاه «العواقب الوخيمة» التي ستتحمّلها إيران في حال اختارت شنّ هجوم عسكري مباشر ضد إسرائيل.

ومقابل تركيز إدارة بايدن كثيراً من مساعيها منذ ما يقرب من سنة على منع التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»، أعجب بعض المسؤولين بالإنجازات الإسرائيلية. ومع شلل الحزب وتراجع قدراته «الإقليمية»، بات هؤلاء يعتقدون أن الوضع بات الآن مختلفاً تماماً، مشيرين إلى أن إسرائيل في أقوى موقف لها منذ بدأ الجانبان تبادل إطلاق النار منذ 8 أكتوبر بعد فتح «جبهة الإسناد» لغزة.

ولكن، مع ذلك، قال مسؤولون كبار إنهم كانوا ينصحون إسرائيل بألّا تشنّ غزواً برّياً للبنان، ويحذرون من أن خطوة كهذه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، تتمثّل ببناء الدعم السياسي لـ«حزب الله» داخل لبنان وإطلاق العنان لعواقب غير متوقعة على المدنيين والتدخل الإيراني.

لا كلام عن وقف التصعيد

من جهة ثانية، مع الهجمات الصاروخية الإيرانية «المحسوبة» ضد إسرائيل، رداً على قتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله، بدا لافتاً أن الرئيس بايدن لم يتكلّم - للمرة الأولى - عن ضرورة «وقف التصعيد» و«ضبط النفس». بل العكس، أكّد أن واشنطن «تدعم بالكامل» إسرائيل بعد الهجوم الذي جرى صدّه بدعم أميركي و«أثبت انعدام فاعليته»، وأن المناقشات مستمرة مع إسرائيل بشأن الردّ، مضيفاً أن «العواقب على إيران لم تُحدد بعد».

موقف بايدن لم يكن وحيداً، إذ اندفع المشرّعون الأميركيون من الحزبين مؤيدين مواقف أكثر حزماً من إيران، وداعين إلى تبني سلسلة من التدابير المحددة والمصمّمة لشلّ القوى العسكرية لطهران ووكلائها، وإلى تمرير تمويل إضافي لإسرائيل في أعقاب هجوم إيران.

وبالفعل، يرى كثرة من المسؤولين الأميركيين اليوم، أن إدارة بايدن تحوّلت من محاولة منع اتساع حرب غزة إلى إدارة «الحرب الشاملة»، في ظل رؤية غدت موحّدة مع إسرائيل تجاه الأهداف المأمول تنفيذها. وتساءلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن المدى الذي يمكن أن تبلغه الحرب، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستنخرط فيها بشكل مباشر، في ظل مخاوف من احتمال أن ترد إسرائيل على صواريخ إيران باستهداف منشآتها النووية، ما قد يؤدي إلى خروج الحرب عن السيطرة.

لكن بايدن عاد وأوضح، يوم الأربعاء، أنه لا يدعم أي استهداف إسرائيلي للبرنامج النووي الإيراني، فاتحاً المجال أمام تكهنات عن بدء مفاوضات للتوصل إلى تسوية بين الطرفين. وهذا، بالتوازي مع تقديم مزيد من المساعدات لإسرائيل لإنهاء الحرب ضد «حماس» في غزة، والتصدّي للهجمات التي تنفذها جماعة الحوثي في اليمن ضد إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر والمضائق الدولية القريبة، ودعم غزوها البرّي للبنان «لتفكيك البنية التحتية» لـ«حزب الله».

تساؤلات مع تغيير أميركا نبرتها واستراتيجيتها

> وسط تحذيرات من أن يكون لبنان هو ساحة «الحرب الشاملة» بين إسرائيل وإيران، أشار مسؤول أميركي كبير إلى المشاورات الواسعة النطاق مع إسرائيل، بما في ذلك مع مكتب بنيامين نتنياهو لصوغ الاستجابة المناسبة، من دون أن يشير إلى «الخلافات» القديمة بين الرئيس جو بايدن ونتنياهو على طريقة تعامل إسرائيل مع حرب غزة، وانتقال المعركة إلى لبنان. وأضاف المسؤول: «لكن بعد دخول إيران المعركة بشكل مباشر، التي تشكل (تهديداً مدمراً) لإسرائيل، تغيّرت نبرة أميركا واستراتيجيتها». أما «النيويورك تايمز» فنقلت عن جوناثان بانيكوف، مدير «مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي»، قوله إن «الحرب الشاملة حتى الحرب الأكثر محدودية، يمكن أن تكون مدمّرة للبنان وإسرائيل والمنطقة. ولكن من خلالها ستأتي فرص غير متوقعة أيضاً لتقويض النفوذ الإيراني الخبيث في المنطقة، من خلال عرقلة جهودها لإعادة تشكيل (حزب الله)، مثلاً. وبالتالي، ينبغي للإدارة الجديدة أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرص». لكن مع المفاجأة التي تعرّضت لها إسرائيل أخيراً خلال «توغّلاتها» البرّية، وسقوط العديد من جنودها بين قتيل وجريح من قبل مقاتلي (حزب الله)، طرح العديد من التساؤلات... منها عمّا إذا كانت ستعيد النظر بخططها العسكرية وبحساباتها فيما يتعلق بكيفية إقامتها «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان، تطبيقاً للقرار 1701؟ وأيضاً، هل ستكثّف قصفها الوحشي والتدميري، بما يؤدي بتلك التوغّلات إلى احتلال جديد، أو تحويل المنطقة إلى «أرض محروقة»؟ وهل سيكون متاحاً مرة أخرى أمام الحزب واللبنانيين عموماً، إعادة تنظيم «مقاومة» ما، على قاعدة توافق سياسي ينهي سلطة «حزب الله» لمصلحة الدولة... أم أن المقوّمات مستعصية في ظل الانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان؟