في صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، اقتحمت ناقلة جند مصفحة بوابة مقر رئاسة الحكومة البوليفية في العاصمة لاباز، وعلى متنها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال خوان خوسيه زونيغا، الذي ما إن ترجّل من الناقلة حتى وقف بين الضباط وبعض المدنيين الذين كانوا برفقته وقال: «إن حفنة من أفراد النخبة قد وضعت يدها على البلاد وأمعنت في تدميرها، لكن القوات المسلحة ستعيد تنظيم الديمقراطية، وتسترجع الوطن من الذين يتعاقبون على السلطة منذ أربعين سنة، وسنفرج عن جميع المعتقلين السياسيين من مدنيين وعسكريين. إن الجيش لا تنقصه الرجولة للاهتمام بمستقبل أطفالنا». ولكن، بينما كان «قائد الانقلاب» يصرّح أمام الصحافيين بأن تعبئة جميع الوحدات العسكرية تهدف «للإعراب عن استيائها من الأوضاع التي وصلت إليها البلاد»، مدّعياً أنه لا يزال «حتى الآن» يطيع أوامر رئيس الجمهورية لويس آرسي، إلا أنه «جاهز لاتخاذ التدابير اللازمة من أجل تغيير الحكومة». كان الرئيس آرسي يناشد المواطنين التحرك ضد الانقلابيين لمنعهم من قلب النظام الديمقراطي. وأيضاً كانت القوى والأحزاب السياسية جميعها تدين التمرد العسكري وتعلن تأييدها للرئيس حتى نهاية ولايته. وحقاً، لم تكد تنقضي ساعتان على ذلك الاقتحام حتى كانت الحشود المناهضة للمحاولة الانقلابية تملأ الساحات، والجنرال زونيغا قيد الاعتقال مع بعض الضباط الموالين له. في حين كان آرسي يعيّن قائداً جديداً للقوات المسلحة ويعلن فشل الانقلاب، محاطاً بجميع أعضاء الحكومة، ومتعهداً «قطع شهيّة الانقلابيين على التمرّد».
انقضت عشرة أيام على أقصر محاولة انقلابية شهدتها بوليفيا، التي تضرب الرقم القياسي للانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية، إذ تمرّد عسكرها مرتين على الرئيس المنتخب خلال السنوات الخمس الماضية، غير أن ملابسات هذا التمرد الأخير ما زالت غامضة، وتتقاطع فيها الاتهامات بين الرئيس الحالي و«مرشده» و«عرّابه» السياسي، الرئيس اليساري السابق إيفو موراليس... اللذين يشكّل الصراع الشخصي بينهما محور الحياة السياسية في بوليفيا منذ سنوات.
النشأة والمسيرة
وُلد لويس آرسي في أسرة بوليفية من الطبقة المتوسطة، وأنهى دراسته في المدارس الوطنية، ثم جامعة سان آندريس في العاصمة لاباز، حيث تخرّج مجازاً في العلوم الاقتصادية، ثم نال شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الأنديز بعدما كان تابعَ دراسته العليا وحاز الماجستير في الاقتصاد من جامعة ووريك البريطانية المرموقة.
بعدها، التحق آرسي بالإدارة العامة، حيث تولّى مناصب عدة في المصرف المركزي البوليفي، ممضياً معظم سنواته في الوظيفة العمومية. وبينما كان اسمه يلمع بصفته خبيراً اقتصادياً ومالياً ويتولّى مسؤوليات حساسة في المصرف المركزي، فإنه راح أيضاً يكتسب شهرة على الصعيدَين المحلي والدولي مُحاضراً في عدد من الجامعات البوليفية والأجنبية، ومنها كولومبيا، وهارفارد، وجورجتاون في الولايات المتحدة، وبوينوس آيرس في الأرجنتين.
السياسة والوزارة
دقّت ساعة دخول لويس آرسي المعترك السياسي مطالع عام 2006 يوم تعيينه وزيراً للمال في حكومة إيفو موراليس، أول رئيس من السكان الأصليين في تاريخ أميركا اللاتينية - وهو من شعب الآيمارا -. ثم عاد وتولّى بعد ذلك بثلاث سنوات حقيبة الاقتصاد والمال الجديدة، وفي حينه وصفته وسائل الإعلام الدولية المتخصصة بأنه «صانع المعجزة الاقتصادية البوليفية»، كما اختاره «منتدى خبراء الاقتصاد والمال في أميركا اللاتينية» عام 2011 من بين أفضل 10 وزراء للاقتصاد في تاريخ المنطقة.
وكانت بين أبرز التدابير التي اتخذها آرسي، وأسهمت في النمو الاقتصادي الذي شهدته بوليفيا، سلسلة المحفّزات لتشجيع السوق المحلية، وتحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة الوطنية، وسياسات التصنيع المستندة إلى الموارد الطبيعية الوطنية ضمن إطار إنمائي اجتماعي وإنتاجي يعطي الأولوية للسوق والموارد المحلية. وبالفعل، بفضل هذه السياسات تمكّنت بوليفيا من خفض مستوى الفقر لسكانها من 38 في المائة إلى 15 في المائة، وفق بيانات برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ما سمح بظهور طبقة متوسطة واسعة بين السكان الأصليين الذين يشكّلون 42 في المائة من مجموع السكان.
وأيضاً، استفاد آرسي من ارتفاع أسعار المواد الأولية في السوق الدولية، الأمر الذي سمح لبوليفيا بتحقيق نمو اقتصادي متوسطه السنوي 5 في المائة إبان فترة توليه وزارة الاقتصاد والمال. وعندما تراجعت أسعار المواد الأولية قرّر آرسي زيادة الإنفاق العام للتعويض عن انخفاض الصادرات، فأتاح للاقتصاد البوليفي مواصلة النمو بينما كانت الاقتصادات الأخرى في أميركا اللاتينية تتراجع. إلا أن تلك الاستراتيجية السياسية التي أطلق البعض عليها مسمى «سياسة الهروب إلى الأمام»، تسبّبت في ارتفاع العجز المالي العام وانخفاض احتياطي العملات الصعبة.
المرض والاستقالة
في أواسط عام 2017 اضطر لويس آرسي للاستقالة من منصبه؛ بسبب إصابته بسرطان في الكلية، وأمضى فترة سنتين يتلقى العلاج في البرازيل قبل أن يعود عام 2019 ليتولى مجدّداً وزارة الاقتصاد والمال. ومن ثم، في العام التالي اختاره حزب «الحركة من أجل الاشتراكية» اليساري مرشحاً عنه للانتخابات الرئاسية التي فاز فيها من الدورة الأولى. والواقع أن اختياره مرشحاً عن اليسار جاء بقرار من موراليس، الذي اضطر للفرار من بوليفيا بعد انتخابات عام 2019، وذلك على الرغم من اعتراض التنظيمات المحلية والقطاعية في التيار التي كانت تفضّل ترشيح وزير الخارجية السابق دافيد تشوكيوانكا، الذي اختاره آرسي نائباً له. بيد أن موراليس تمكّن من فرض رأيه على القاعدة، وفرض اختيار آرسي مع أنه لم يكن قد انضم إلى التيار سوى في عام 2005.
وللعلم، بعد تسلّم آرسي رئاسة الجمهورية في نوفمبر (تشرين الثاني)2021 كشفت معلومات سرّيّة لاحقاً عن أن وزير الدفاع (آنذاك) حاول مع بعض الضباط إجهاض توليّه الرئاسة، لكنه فشل في محاولته بعد اعتراض القيادات العسكرية ومعظم الأحزاب السياسية على المحاولة.
سياسات الرئيس
من القرارات الأولى التي اتخذها آرسي بعد توليه رئاسة الجمهورية، إعادة العلاقات الدبلوماسية مع حكومة نيكولاس مادورو الفنزويلية اليسارية التي كانت قرّرت قطعها الرئيسة اليمينية السابقة جانين آنيز، المعتقلة حالياً، كما أعاد العلاقات مع إيران، وفرض على مواطني الولايات المتحدة وإسرائيل شرط الحصول على تأشيرة لدخول بوليفيا بعدما كانت قد ألغته الحكومة السابقة. وكذلك، قرّر عودة بلاده للمشاركة في عديد من المؤسسات والمنظمات الإقليمية التي كانت حكومة آنيز قد قررت تعليق نشاطها فيها.
وعلى صعيد التدابير الاجتماعية البارزة، اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت، وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى. وأعاد قرضاً إلى صندوق النقد الدولي بقيمة 350 مليون دولار لاعتباره أنه كان مربوطاً بشروط تنتهك سيادة البلاد ومصالحها الاقتصادية.
ولكن في موازاة ذلك، انخفض إنتاج بوليفيا من الغاز الطبيعي الذي يشكّل عماد الصادرات الوطنية، وذلك لنقص الاستثمارات في البُنى التحتية اللازمة لاستخراجه وتسويقه. ولذا كثّف الجهود التصنيعية المحلية للحدّ من الاستيراد، ولتنويع مصادر الدخل القومي، مركزاً على مادة الليثيوم الاستراتيجية التي تملك بوليفيا أكبر احتياطي منها في العالم.
في عام 2022 سجلت بوليفيا أدنى نسبة تضخم في أميركا اللاتينية، ما أسهم في زيادة شعبية آرسي بين الطبقات الفقيرة مثل الفلاحين وعمال المناجم والسكان الأصليين، غير أن شعبيته كانت تنحسر في المقابل لدى الطبقات الأخرى والقوى الفاعلة، كالنخبة المالية والاقتصادية والكنيسة والجامعات والروابط المهنية ووسائل الإعلام الكبرى. وللعلم، في خريف عام 2021 كانت المعارضة قد نظّمت سلسلة من المظاهرات احتجاجاً على مشروع قانون «مكافحة تمويل الأنشطة غير المشروعة وتبييض رؤوس الأموال»، الذي رأى فيه القطاع غير المنتظم - ويضمّ أكثر من نصف اليد العاملة في البلاد - ذريعةً لمراقبة أنشطته. وتلت ذلك حملة واسعة شاركت فيها أطياف المعارضة جميعها؛ لقطع طرق المواصلات الرئيسة لفترة غير محدودة بهدف شل الحركة الاقتصادية، لا سيما في المراكز الصناعية الكبرى. وبالتالي، أمام تفاقم الوضع وحدوث مواجهات عنيفة، قررت الحكومة سحب مشروع القانون.
وعادت المعارضة في العام التالي لتنظيم مزيد من الاحتجاجات التي أدت إلى مواجهات دامية، واعتداءات على منظمات اجتماعية وهيئات عمالية مؤيدة للحكومة، خصوصاً، في مناطق السكان الأصليين.لكن متاعب آرسي لم تقتصر على الاحتجاجات المُمنهجة التي كانت تنظمها المعارضة، بل وصلت أيضاً إلى الدائرة السياسية التي رشّحته للانتخابات وكانت وراء وصوله إلى الرئاسة. ففي أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي قرّرت الهيئة التنفيذية لحزب «الحركة من أجل الاشتراكية» التي يرأسها إيفو موراليس طرد آرسي من الحزب لرفضه حضور المؤتمر الذي عقده ذلك العام، وبدأت تظهر علامات الانشقاق داخل التيّار اليساري بين مؤيدين للرئيس السابق، وأنصار الرئيس الحالي الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «كتلة التجديد»، والذين يتهمهم الحزب بخيانة مبادئه السياسية ومؤسسه موراليس.