هاني نقشبندي... لم يكتب روايته الثامنة

كان يسعى إلى إبداع عمل يجعله أقرب إلى الحقيقة

غلاف الخطيب
غلاف الخطيب
TT

هاني نقشبندي... لم يكتب روايته الثامنة

غلاف الخطيب
غلاف الخطيب

ذكر الصديق والإعلامي والروائي الراحل هاني نقشبندي، أنه يريد أن يرحل عن عالمنا خاوياً، أي أن لا تبقى في جعبته أي مشروعات يزمع كتابتها لكنه تحدث لنا بأنه ينوي كتابة رواية تدور أحداثها في المقبرة، عن شاب يزور قبر أبيه، ليجد هناك ثلاثة أشخاص يقولون له: أنت ترانا ولكن لا أحد غيرك يرانا، إلا أن القدر شاء أن تبقى هذه الفكرة جنيناً في رأسه ولم تولد رواية مكتوبة على أساس ستكون روايته الثامنة.

رغم دراسته وعمله في ميدان الإعلام، كان يسعى إلى إبداع عمل روائي يجعله أقرب إلى الحقيقة، إيماناً منه بأن الوصول إلى الحقيقة يتم عن طريق الخيال، أي من خلال الغوص في عالم الشخصيات الحائرة والقلقة عبر لغة يقرأها الجميع، ولم يتوان عن طرق الموضوعات الساخنة والمتلهبة في عالمنا العربي، منتقداً المحرمات التي يفرضها المجتمع من دون وعي في كثير من الأحيان.

قارئ رواياته يجد المتعة والحبكة والجدل والثراء الفلسفي، بلغة خاصة به، أسلوب اجترحه من خلال سعيه وراء التميّز والجديد، إذ بقي لصيقاً بقضايا مجتمعه وعالج أخطرها وأكثرها حرارةً والتهاباً مثل التطرف والانفتاح والحرية والتشتت والحروب والخطباء وغيرها من الثيمات التي تنتشر في ثنايا رواياته. اختار الكاتب لغة السهل الممتنع لكي يحملنا إلى عوالمه الروائية، غير المطروقة، بحيث لا تنتهي من قراءة رواية له إلا وتقطف منها ثمرة فلسفية عبر لسان شخصياته، جامعاً بين المتعة والحبكة المبتكرة والخيال، كتب رواياته في أماكن مألوفة إلى روحه: جدة، ودبي، وغرناطة، ومدينة الشاون. استطاع هاني نقشبندي أن يتفاعل مع كل من المجتمع السعودي والخليجي والعربي من أوسع الأبواب: الخيال. وصدرت رواياته في ظروف انتقالات وتحولات في بنية مجتمعاتنا، إلا أنها أثبتت أن مصيرها هو الانفتاح والحرية. صدرت لوحاته في طبعات عديدة ومختلفة، واستحقت معظمها أن تترجم إلى اللغات العالمية منها الإنجليزية والإيطالية.

تميّز الكاتب بجرأة طرحه لموضوعات ما تُسمى بـ«التابو»، أي المحرمات أو الممنوعات: التاريخ، المواطن، التراث، والإرهاب. ومن أجل ذلك طرح خطاباً جديداً في رواياته، فقد كان يكافح ضد النمطية والقوالب الجاهزة، ساعياً إلى إثارة الحراك التنويري الحديث، حاملاً مضامين اجتماعية وسياسية توزعت على رواياته السبع، جميعها نُشرت في «دار الساقي»، وتم توزيعها في بلده وفي العالم العربي، فاستطاعت أن تتجاوز القيود والحدود المحلية.

كان الكاتب الراحل دؤوباً على الإنتاج، إذ ما إن ينتهي من كتابة رواية حتى يبدأ بكتابة أخرى. كان يؤكد أن نهاية كل رواية من رواياته هي بداية لكتابة رواية أخرى، كما أنها تتميز بنهايات مفتوحة غير خاضعة لمنطلق أو عقلانية معينة، فهو يعطي القارئ حريته في التخييل والرؤية.

هكذا ينتقل من هذا الموضوع ليطرح موضوعاً ملتهباً، وهو التطرف الديني الذي عالجه روائياً بكل حكمة وعقلانية، فهو في الرواية يبحث عن أسباب هذا التطرف والظروف التي أدت إلى استفحاله في المجتمع العربي.

في رواية «اختلاس» يغوص في عالم المكبوتات التي يعاني منها المجتمع، عاداً الموروث حافزاً لاستعادة التاريخ لا لتشويهه وفرض سطوته، ويقيم تضاداً بين هاجس المرأة وجموح الرجل.

وفي روايتي «طبطاب الجنة»، و«الخطيب»، عمد إلى رصد تأثير الخطاب الديني في الشارع العربي؛ الرواية الأولى تدور أحداثها في مدينة جدة في مقبرة «أمنا حواء»، حيث يلازم الشاب سلومي القبر أمام قبر سلمى حبيبته، وهو لا يتناول سوى الحلوى الشهيرة في السعودية «طبطاب الجنة»، مبدياً منها رمزية عالية. وفي الجهة الأخرى، ثمة فتاة تدعى «غرسط» تراقبه من نافذتها. إنه جنون الحب يطرحه الكاتب بطريقته الرمزية، وهي يتحدث عن ظلم المرأة. ومن خلال هذه الحبكة يدخلنا الكاتب إلى عالم القبور الحزين، ويجيب على الأسئلة الوجودية في الحياة والموت والحب والعشق والوله كأنه يتحدث عن قيس وليلى، لكن بطريقة عصرية، حيث تتقاطع مصائر بطليها، مع مصائر بطلي هذه الرواية. من خلال أحداث هذه الرواية، يسعى الكاتب إلى تجسيد سوداوية الواقع من خلال حبكة روايته الممتعة. أما في رواية «الخطيب»، فهو يمزج الواقع بالخيال، متناولاً قصة خطيب تقليدي يؤدي عمله حرفياً وبانتظام. لكن ما وقع فيه الخطيب أنه ألقى خطبة واحدة جاءت مختلفة عن خطبه السابقة، كررها عن طريق الخطأ. من هذه النقطة، بدأ الخطيب والمؤذن، الذي هو مساعده، يفكران في أمرين: الأول، كيف لم ينتبه أحد من المصلين إلى أن الخطبة الأخيرة جاءت مكررة، ما يعني أن أحداً لم يستمع من قبل لها؟ والأمر الثاني، ومن أجل ذلك، يقترح المؤذن على الخطيب أن يجعل خطبته أكثر التصاقاً بحياة الناس، ومعالجة همومهم اليومية. رواية «الخطيب» عمل أدبي ضد الغلو والتطرف والتعصّب والتكفير، يسعى الكاتب من خلالها إلى إحداث هزة في علاقة الخطيب بالجمهور، وعلى الاثنين أن يفكرا بإيجاد علاقة أخرى بينهما قائمة على فهم مشترك للحياة العصرية، كما يعيشها الملايين حالياً، وأولى هذه الرسائل هي: التعايش السلمي بين جميع الأطياف في المجتمع، وتجديد الخطاب الديني، وعدم إقصاء الآخرين، والانفتاح على الحياة المعاصرة. تميزت الرواية بجرأة الطرح لموضوع جوهري لم تتطرق إليها الرواية العربية.

في رواية «سلّام» ينتقل الروائي إلى التاريخ، لكن ليس بطريقة كتابة الرواية التاريخية، بل من خلال رواية التخييل التاريخي، عبر فكرة عن التاريخ الأندلسي، واحتلال إسبانيا لها، جاعلاً منها رواية مستقبلية عن فكرة الاحتلال وتوثيق ما يدور بالذهن العربي. وهو كسر الفكر السائد من أن الأندلس كانت جنتنا الموعودة، لأننا كنا نصنع أوهاماً حولها، حسب رؤية الروائي. ولا يزال تاريخنا مليئاً بالحروب والغزوات والموت. هكذا لا يستسلم الروائي إلى الواقع والتاريخ المكتوب، بل ينطلق من الخيال لكي يصل إلى جوهره، ولا يؤمن الكاتب بما نطلق عليه الحقيقة المطلقة لأنه يؤمن بأن الروائي له رؤيته عن هذه الحقيقة. وبطل روايته «سلاّم» رجل يرفض بناء قصر حمراء آخر، بل ويبدأ بالظن في كل التاريخ الذي ورثه بل ويعده أسطورة من الأساطير عبر تقنية المونولوغ؛ أي الحوار الداخلي للشخصيات.

غلاف سلام

ثم ينتقل الروائي نقشبندي إلى العوالم الغرائبية، كما في رواية «نصف مواطن محترم»، وينقلنا إلى حبكة تدور حول موظّف بسيط يرافق زوجته إلى المستشفى، لإجراء عملية جراحية طارئة، فيكتشف أن البلاد كلّها في حالة حداد عام على أحد أقرباء الزعيم مما يؤدي إلى تأجيل موعد العملية لأسبوع فيفقد أعصابه وينتفض ضد هذه الإجراءات. وعلى أثر ذلك، يتم سجن الرجل بتهمة تحريض الشعب على الثورة. لذلك يستعين محفل الوطن به لتهدئة الانتفاضة، فيُنصّب عضواً في المحفل نفسه، ويُعلَن بطلاً يقود البلاد للخروج من الأزمة. عبر هذه الحبكة استطاع أن ينقلنا الكاتب إلى عالم اللامعقول عبر أحداث عادية مألوفة.

وبما أنه عاش فترة طويلة في دبي، فقد كتب عنها روايته «ليلة واحدة في دبي»، وهي قصة متخيلة يستيقظ فيها البطل على معجزة بناء عمارة بسرعة خارقة، ترتفع إلى السماء. وفي ليلة واحدة أصبحت مائة طابق وما زالت تشقّ طريقها في السماء. لقد حجبت العمارة ضوء الشمس عن حجرة نومها. أحست بالخوف وأخذت تسأل: أين أنا؟ ثم ما لبث أن ضاع اسمها، نسيته وراحت تبحث عمن يعرفها كي يذكّرها به من دون أن توحي أنها نسيته. قدمت إلى دبي لتبدأ حياة جديدة بعد زواج دام شهرين، إذ تتوظّف في شركة كبيرة لكنّها لم تشعر بالاستقرار والطمأنينة مع العزلة التي أخذت تكبر في أعماقها كل يوم. فذكرى حبيبها الذي التقته بعد الطلاق وتخلّيه عنها، لا تزال تطاردها، لكنها في النهاية تفتح قلبها إلى الحارس الهندي في البناية لتبوح له بما يشغل بالها. رغم أن أحداث الرواية تدور حول دبي لكنها في حقيقة الأمر ليست دبي الواقعية، بل دبي الذي تخيلها الكاتب شأنها شأن العواصم المتروبوليتية كنيويورك وباريس والقاهرة وغيرها. من خلال فكرة بسيطة، تمكن الكاتب من خلق أجواء كابوسية يعاني منها الإنسان العصري في كل مكان، خصوصاً في المدن الكبيرة المزدحمة.

أما روايته السابعة فهي «قصة حلم» التي تم إخراجها مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان «صانع الأحلام» من «قناة أبوظبي». يطرح الكاتب موضوع الحلم باعتباره رؤية فانتازية ذات أبعاد مستقبلية. لذلك نجده يمزج بين ابن سيرين، أهم مفسري الأحلام في التاريخ العربي، وبين بطل روايته إسماعيل عمران، أستاذ جامعي فيزيائي يعيش في مصر. ورث عن أبيه علم تفسير الأحلام، إضافة إلى مهارته في الفيزياء. يطرح البطل أحلامه في مؤتمر، ويفاجئ الجميع بأن الإنسان إنما يصنع أحلامه بنفسه.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.