سيرة المرأة الأسطورة و«الجمال القلق»

مذكرات صوفيا لورين في ترجمة عربية

صوفيا لورين في فيلم أفريقيا تحت البحار
صوفيا لورين في فيلم أفريقيا تحت البحار
TT

سيرة المرأة الأسطورة و«الجمال القلق»

صوفيا لورين في فيلم أفريقيا تحت البحار
صوفيا لورين في فيلم أفريقيا تحت البحار

«كنت أحس دوماً أنني جميلة، إلا إنه نوع قلق من الجمال لم يكن كافياً بحد ذاته. فالجمال يمكن أن يتحول عيباً إذا ما علقت أهمية كبيرة جداً عليه. إنه يجعلك تحلق أعلى، ثم بغتة يدعك وشأنك فتتشقلب. إلا إن السحر هو هبة طبيعية في حقيقة الأمر. إنه شيء غامض بخلاف الجمال الجسدي، وله حسنة أنه لا يذوي مع تقدم العمر».

ليس هذا النص الذي ورد في مذكرات الممثلة الإيطالية صوفيا لورين، هو النموذج الوحيد الذي يمكن الاستشهاد به للدلالة على ما تمتلكه نجمة هوليوود الشهيرة من ثقافة واسعة، وما تختزنه في داخلها من وعي عميق بالحياة، ولكنني اخترت الاستشهاد به في مقدمة هذه المقالة؛ لأنه لا يقارب مفهوم الجمال من الزاوية التي تتعدى محدودية الشكل وأعراضه الزائلة فحسب، بل إنه يعكس في الوقت ذاته تجربة لورين نفسها، حيث الجمال ليس معطى ناجزاً لحامليه، بل هو اختراعهم اليومي والاستحقاق الصعب الذي يجب أن ندفع أبهظ الأثمان من أجل المحافظة عليه.

ولعل أكثر ما يستوقفنا في كتاب لورين، الذي نقله إلى العربية الكاتب والمترجم العراقي علي عبد الأمير صالح، هو قدرة المؤلفة على الجمع بين الصدق التعبيري والسرد الحكائي الممتع الذي يجعل من العمل شبيهاً بشريط سينمائي بالغ التشويق. كما تركز بطلة «امرأة النهر» على أن ما بلغته من نجومية لم يكن ليحجب بأي حال ذلك الجرح العاطفي التأسيسي الذي حفره في داخلها غياب الأب، ولم يعرف طريقه إلى الاندمال. أما الجانب الآخر من معاناة صوفيا، فكان متصلاً بالوضع المادي المتواضع الذي كانت واجهته العائلة في حقبة طفولتها المبكرة. ورغم أن جدَّي الطفلة وأمها قد بذلوا ما في وسعهم لكي يوفروا لها الحدود الدنيا من مستلزمات العيش الكريم، فإن ذلك لم يمنعها من القول فيما بعد: «الجوع هو الموضوع الرئيسي في طفولتي». وهي تشير في الكتاب إلى نحولها الشديد الذي جعل كثيرين يلقبونها «عود نبش الأسنان»، كما تتحدث بإسهاب عما عانته عائلتها في سنوات الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها إيطاليا مهزومة ومحطمة، لتضيف ما حرفيته: «مع مرور الوقت لم يعد بحوزتنا مال ولا إمدادات، ولم تكن لدينا كسرة خبز واحدة لنأكلها».

غلاف المذكرات

وإذا كان تزمت جدي لورين هو الذي حرم أمها الجميلة من الوصول إلى هوليوود، فإن الأم المتنورة قد وجدت في دعمها الابنة فرصتها الملائمة للتعويض عما تم حرمانها منه، حيث لم تكد الأخيرة تفوز في إحدى مسابقات الأداء حتى غادرت العائلة إلى روما، لتتصدر صوفيا لازارو غلافات «الرومانسيات الفوتوغرافية»، التي يسرت لها سبل الانتقال من «بطة صغيرة قبيحة إلى بجعة جميلة»، وفق قولها الحرفي، وقبل أن توفر لها الأقدار طوالع أكثر إيجابية من ذي قبل.

أما النقلة الأهم في حياة صوفيا فتمثلت في تعرفها عام 1950، في أثناء اشتراكها في مسابقة «ملكة جمال إيطاليا»، إلى المنتج الإيطالي كارلو بونتي الذي كان عضواً في لجنة التحكيم. ورغم أن اللجنة اكتفت بمنحها لقب «ملكة جمال الأناقة»، فإن سحر المتسابقة السمراء ذات القوام الممشوق، ترك تأثيره البالغ على الرجل الذي سبق له أن اكتشف جينا لولو بريجيدا ولوسيا بوسي... وأخريات. وإذ أسند كارلو إلى صوفيا أدواراً بسيطة في بداية الأمر، فإنه لم يلبث أن توسط لدى صديقه المنتج غوفريدو لومباردو لكي يمنحها فرصتها الملائمة للانطلاق. ولم يكتف لومباردو بإسناد دور رئيسي إلى لورين في فيلمه «أفريقيا تحت البحار»، بل اقترح عليها اسمها الفني صوفيا لورين، الذي سيلازمها بعد ذلك على طريق الشهرة والمجد.

أما المخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا الذي آمن بموهبة لورين العالية عادّاً أنها تملك في داخلها كل مستلزمات العودة إلى ينابيعها الطفولية الأولية، فقد أسند إليها دوراً شديد الخصوصية في «فتيات البيتزا»، محرضاً إياها في الوقت ذاته على التمثيل «بكل أحاسيسها، وبرأسها وجلدها وأحشائها وقلبها وذكرياتها». ولم تخيب صوفيا ظن دي سيكا بها، فتقمصت روحية فتاة البيتزا وشكلها وحركاتها مندفعة برأس مرفوع وبتوثبٍ محموم نحو حقول الحياة المَوّارة بالأحلام، لتكر بعد ذلك سبحة الأفلام العظيمة والمتنوعة التي لعبت في معظمها دور البطولة.

ولم تكن أهمية الكتاب مرتبطة بالجانب الشخصي من سيرة المؤلفة فحسب؛ بل بحرصها الشديد على تقديم صورة بانورامية عن عصر السينما الذهبي، دون أن تتوانى عن إظهار الجوانب السلبية لعالم هوليوود الحافل بالمكائد والمنافسات غير الشريفة. لكنها تحرص في المقابل على إظهار الجوانب المضيئة لذلك المسرح المفتوح الذي يتنافس فوقه مبدعون خلاقون يتقاسمون الابتهاج بالظفر، ويشد بعضهم أزر بعض في أوقات الشدة.

كما تتحدث لورين بإسهاب عن المطبات التي سبقت زواجها من كارلو بونتي، لا بسبب فارق العمر الذي يتجاوز العقدين فحسب؛ بل بسبب التعقيدات التي واجهت طلب طلاقه من زوجته الأولى التي أنجبت منه طفلين اثنين، بما دفع المحاكم الإيطالية إلى اعتبار زواج الثنائي العاشق نوعاً من الزنا، وأجبرهما على مغادرة البلاد لسنوات عدة، قبل أن يُزج بصوفيا في السجن لشهر كامل لدى إصرارها على العودة إلى بلادها. إلا إن تجربة السجن على مرارتها، هي التي وفرت لها السانحة الملائمة لاكتشاف موهبتها الأدبية وصولاً إلى كتابة هذه المذكرات. ومع إقرار صوفيا باللحظات الصعبة التي شهدها زواجها من بونتي، كصفعه إياها بقسوة بسبب غيرته من غاري غرانت، إلا إن تلك العلاقة، وخلافاً لمعظم العلاقات الزوجية المماثلة بين الفنانين، استطاعت أن تصمد بثبات لعقود عدة، قبل أن يسدل موت بونتي عام 2007 الستار على فصلها الختامي.

ليست أهمية المذكرات مرتبطة بالجانب الشخصي من سيرة المؤلفة فحسب؛ بل أيضاً بحرصها الشديد على تقديم صورة بانورامية عن عصر السينما الذهبي

ومع ذلك، ورغم حرص لورين على تقديم نفسها للقارئ بقدر وافر من الجرأة والصدق، فإن المرء يشعر بأن جزءاً من السيرة قد جرى إخفاؤه والسكوت عنه، خصوصاً في الجانب العاطفي منها. وإذا كان أحد الأسباب هو تكوين صوفيا الخفر وما يحمله الإيطاليون من بعض السمات المشرقية المحافظة، فإن السبب الآخر هو، على الأرجح، عدم رغبة صوفيا في جرح مشاعر زوجها الغيور، وولديها اللذين حرصت دائماً على أن تلتزم تجاههما بصورة الأم الطافحة بالحنان والحب. ومع أن سياق السيرة يشير إلى علاقة الصداقة والإعجاب التي ربطت بين صوفيا وكل من فيلليني وهيتشكوك وشارلي شابلن وريتشارد بيرتون وعمر الشريف، أو إلى مشاعر الجفاء وعدم الارتياح التي خصت بها كلاً من غاري غرانت ومارلون براندو، فإن القراءة بين السطور تقدم إشارات دالة على أن ما ربطها بمارسيللو ماستروياني كان أمراً يتجاوز الصداقة إلى العشق والحب، وهو الذي كتبت في رثائه عند رحيله: «لم أشأ أن يختلط وجعي بأوجاع الآخرين. في يوم جنازته بعثت حشداً من أزهار الأوركيد الأرجوانية الفاتحة، فربما ترافقه نضارتها في رحلته، وتهبه الحب الذي سأضمره له إلى الأبد». والأمر نفسه ينسحب على غريغوري بك، الذي ربطتها به؛ في أغلب الظن، علاقة حميمة، بعد أن شاطرته البطولة في فيلم «أرابيسك»، حتى إذا التقته فجأة بعد سنوات من الانقطاع، كتبت بلا مواربة: «كان هناك واقفاً قبالتي كما لو أن لحظة واحدة تحولت إلى أبدية. في نظرته المدهشة، في التلعثم الطفيف الذي أظهره، لمحت عالماً من الأشياء التي كان يود الإفصاح عنها، إلا إنه لم يفعل؛ ولن يفعل أبداً».

وإذا كان الإقرار بنجومية صوفيا لورين وبأنها، إلى جانب غريتا غاربو، مثل مارلين مونرو وبريجيت باردو وأخريات، قد دمغت بجاذبيتها الأنثوية وحضورها الآسر عصراً بكامله، فإن الدلالة الأهم لكتاب مذكراتها لا تنحصر في امتلاكها ناصية السرد فحسب؛ بل في ثقافتها الواسعة وقدرتها الفائقة على التوفيق بين المرأة المتفجرة أنوثة والزوجة المتفهمة والمترعة بالحنان الأمومي. ولعل أفضل ما أختم به هذه المقالة هو ما وصفها به روبرتو بينيني في احتفال تكريمها في هوليوود عام 2011، حيث قال: «عندما أسمع اسم صوفيا لورين أقفز، وأقفز ثانية؛ لأنه انفجار الحياة... إنها إيطاليا، بقدر ما هي إيطالية بامتياز. وحين تتحرك أو تمشي، نشعر بأن إيطاليا بأسرها هي التي تمشي».


مقالات ذات صلة

على آخر خُطى ميخائيل نعيمة... «حارسة الذاكرة» تكشف خبايا السنوات الأخيرة

يوميات الشرق على هذه الكنبة كان يجلس نعيمة وقد حوّلت سهى كل زاوية إلى ذكرى (الشرق الأوسط) play-circle 04:01

على آخر خُطى ميخائيل نعيمة... «حارسة الذاكرة» تكشف خبايا السنوات الأخيرة

زيارة لمنزل المفكّر ميخائيل نعيمة، حيث كل غرفة وجدار وطاولة وكنَبة يحكي ذكريات أحد أهمّ أعمدة الأدب العربي وصنّاعه.

كريستين حبيب (بيروت)
أوروبا زعيم المعارضة الروسية آنذاك أليكسي نافالني يستمع إلى سؤال خلال مقابلة في محطة إذاعة «إيكو موسكفي» (صدى موسكو) في موسكو الاثنين 8 أبريل 2013 (أ.ب)

أرملة المعارض الروسي أليكسي نافالني: كتب مذكراته وستصدر في كتاب

قالت يوليا نافالنايا أرملة السياسي الروسي المعارض أليكسي نافالني، الخميس، إن زوجها الراحل كتب مذكراته قبل وفاته، وستُنشر في وقت لاحق من العام الحالي.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
المشرق العربي وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف (يسار) متحدثاً في مؤتمر صحافي بمدينة رام الله بالضفة الغربية في 6 فبراير 2024 بعد مغادرة غزة حيث كان عالقاً لمدة ثلاثة أشهر وسط المعارك المحتدمة بين إسرائيل و«حماس» (أ.ف.ب)

وزير الثقافة الفلسطيني العائد من غزة يروي يوميّات الحرب

يقول وزير الثقافة الفلسطيني بعد عودته من غزة إلى الضفة إن القطاع بعد انتهاء الحرب سيحتاج إلى «إيجاد غزة جديدة لا إلى إعادة بناء» فحسب.

«الشرق الأوسط» (رام الله)
يوميات الشرق مذكرات ليزا بريسلي ترى النور قريباً (أ.ب)

مذكرات ليزا إلفيس بريسلي «الصافية والرائعة» نحو الضوء

قبل وفاتها، عملت ليزا ماري بريسلي لسنوات على مذكرات صافية ورائعة وفريدة من نوعها، مُسجِّلةً ساعات لا حصر لها من الأشرطة التي تكشف نقاط ضعف مذهلة.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
ثقافة وفنون 
علي الوردي

الأنصاري... مطارحات شاملة للمداولات الفكرية والثقافية (2 - 2)

يبدو أن الأنصاري وجد في أطروحة العلامة ابن خلدون في (مقدمته) المتمركزة حول العصبية العربية والدعوة الدينية مخرجاً مجيباً على اتهام كرومر.


لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».