العائدون إلى الوحشة... نصوص حول الإياب

قليلون هم الذين وجدوا في العودة ما يؤنس، ناهيك عما يثري

غازي القصيبي
غازي القصيبي
TT

العائدون إلى الوحشة... نصوص حول الإياب

غازي القصيبي
غازي القصيبي

استوحيت عنوان هذه المقالة من كتاب للناقد والشاعر السعودي عبد الله السفر، يضم مقالات كتبها على مدى سنوات حول الشعر استرعت انتباهي، من بينها مقالتان إحداهما حول مجموعة للشاعر العماني سيف الرحبي والأخرى حول قصيدة للشاعر السعودي محمد الحرز. مجموعة الرحبي تثير مسائل «الإياب إلى ما لا يستعاد، وذبل، وطحنته رحى الزمن القاسية»، في حين تتلفت قصيدة الحرز إلى ما يصفه السفر بـ«الوجود المعلق البرزخي، التوتر الدرامي بين الوراء والأمام، حيث الفجوة التي تثغر الشعور بانتظار تثقل وطأته وتتفاقم». هذا الشعور بالانتظار، يقول السفر، «يبقى الكاتب يشاغله بوجود آخر هو الوجود الشعري العصي على التبدد». في كتاب «دليل العائدين إلى الوحشة» (2012) لعبد الله السفر دليل للرؤية الشعرية أيضاً تنبهت إليه وأنا أتأمل حالات وقصائد تشاغلني بقضايا الإياب والالتفات نتيجة لما يثقلها من توقعات تنتهي مرة إلى البهجة ومرات إلى الخيبة.

عبد الله السفر

أما الحالات فعشت بعضها شخصياً حين وجدت نفسي غير مرة في مواطن تنامت فيها الطفولة أو الصبا ولم يتنام أمامي حين عدت إليها سوى الخيبة والانكسار. ولم تكن تلك أطلالاً لأحبة بقدر ما كانت أطلالاً للنفس، للذات التي تظن أن في العودة إلى الأماكن القديمة، بتعبير غازي القصيبي، عودة إلى ما اختزنته الأماكن ويتجدد به العمر. صدر ديوان القصيبي «العودة إلى الأماكن القديمة» عام 1985 وضمنه مجموعته الكاملة التي صدرت عام 1987. نسختي تعود إلى العام التالي فوجدت أن في عودتي إلى النسخة عودة أخرى إلى مكان قديم، ديوان شعر هذه المرة أكتشف فيه ما يؤكد ما ذهب إليه عبد الله السفر في قراءته للحرز، أي أن الإياب إلى ما لا يستعاد لا ينسحب على الشعر نفسه: يستطيع الشاعر أن يشاغل الغياب بوجود الشعر، وهو ما يفعله القارئ/ الناقد أيضاً.

سيف الرحبي

عدت إلى كتاب السفر وقصيدة القصيبي وفي ذهني نصوص من بيئات بعيدة تماماً عن الأحساء، حيث السفر والحرز والبحرين حيث كان القصيبي في صباه. كانت العودة ذاتها حافزي لاستعادة تلك النصوص وتأمل ما يجمعها. من تلك النصوص قصيدة للإنجليزي وليم وردزورث ومذكرات للفرنسي ألبير كامو وقصيدة للكندية/الترينيدادية دايون براند. نصوص شعرية ونثرية موجوعة أو منتشية بالعودة إلى الأماكن القديمة. لكن الوجع والانتشاء ليسا أهم المحصول هنا، وإنما هي الرؤى التي تتحول إلى قصائد تتجاوز الآني إلى المتصل والراحل إلى المقيم. ليس سوى الكلمة المبدعة وسيلة لمناهضة الوحشة ومجالدة الزمن.

«تنترن آبي» اسم مكان وعنوان قصيدة لوردزورث نشرها في أواخر القرن الثامن عشر ليتأمل فيما تركته في نفسه زيارة سابقة للمكان ذاته. هي واحدة من عيون الشعر الإنجليزي وليس شعر الرومانسي وردزورث فحسب. وهي أيضاً من القصائد القليلة بل الاستثنائية لكونها ليست موجوعة بالغياب عن المكان أو مصدومة بتغيره. هي عودة من يرى ما تحقق له رغم الغياب. الوحشة هنا ليست ما يعود إليه ولا ما ينتظره، بل هي غائبة تماماً. المكان كنيسة «تنترن آبي» التي تعود إلى العصور الوسطى والواقعة على الحدود بين إنجلترا ومقاطعة ويلز، حيث الطبيعة الباذخة في الصيف بصفة خاصة، الطبيعة التي تمركز حولها الشعر الرومانسي واستمد منها رؤاه ولغته. يقول وردزورث يقيس أثر المكان عليه بعد أن عاد إليه:

كل هذه الأشكال الجميلة،

طيلة ذلك الغياب الطويل، لم تغب عن بصيرتي

كما يغيب مرأى الطبيعة عن عين الكفيف:

وحيثما كنت وحيداً في حجرتي، أو وسط ضوضاء المدن الصاخبة،

وفي ساعات الملل والقنوط،

كانت تمنحني أحاسيس عذبة،

تسري في دمائي وفي قلبي،

بل وتصل إلى عقلي الصافي ذاته،

لتعيد لي الهدوء والسكينة... (ترجمة عبد الوهاب المسيري ومحمد علي زايد)

قليلون هم الذين وجدوا في العودة ما يؤنس، ناهيك عما يثري. من أولئك الفرنسي ألبير كامو الذي يوصف أحياناً بأنه جزائري أيضاً، وذلك في نص بديع بعنوان «العودة إلى تيبازا»، حيث المدينة الجزائرية مراتع للصبى وبواعث للحنين والذاكرة، لكني أؤثر أن أؤجل الكلام عن ذلك النص الثري والمركب إلى وقفة أخرى. هنا أود المضي إلى النصوص المقابلة تماماً لنص وردزورث، تلك التي لا ترى في العودة أكثر من الألم، إما ألم التغير والمحو وهو الغالب، أو ألم الاستمرار وهو الاستثناء في ظني.

قصيدة الكندية ديون براند تنهض على المفارقة المتمثلة في أن العودة لم تعن التغيير وإنما الثبات. هذه القصيدة سبق لي أن تناولتها في مقالة قديمة نسبياً ونشرت قراءتي في كتاب بعنوان «لغات الشعر» (2011). هنا أريد فقط أن أذكر باختصار ما تتمحور حوله القصيدة. فمن عنوانها يتضح أنها «عودة» إلى مكان قديم، والمكان هو البلاد التي تركتها حين هاجرت إلى كندا، أي ترينيداد، الجزيرة الكاريبية التي تعود إليها لتكتشف أنها لم تتغير وليتبين أن عدم التغير لا يبعث على البهجة وإنما على المفارقة المأسوية. يتضح ذلك لأن التغير المقصود، كما يتضح ضمناً، هو التحسن أو الرقي، أي الحداثة والتحضر، لكن ترينيداد لا تزال على فقرها وبؤس سكانها وكآبة منظرها:

إذاَ ما يزال الشارع هناك، ما يزال يذوب تحت الشمس

ما تزال أمواج الحرارة المشعة عند الواحدة

الرموش المحترقة، تنظر ...

ما تزال دماء الجزار تلطخ جدران السوق...

إلى آخر ما هنالك من مشاهد الثبات البائس. إنها العودة الخائبة، إلى وضع يجعل العودة غير مغرية البتة، بل مدعاة للأسى. وهذه العودة الداعية إلى الأسى هي ما يكتشفه غازي القصيبي حين يعود إلى مرابع صباه في البحرين، القصيبي الذي ولد وعاش كل حياته في السعودية ما عدا فترة طفولة وصبا قضاها في البحرين. تلك الفترة المبكرة تظل حاسمة وثمينة في حياة الإنسان، وهي ما يتأمله الشاعر في زيارة للبحرين أواسط الثمانينات من القرن الماضي وما دونه في قصيدة هي أيضاً عنوان مجموعة شعرية ضمت تلك القصيدة: «العودة إلى الأماكن القديمة».

ما يسترعي الانتباه في قصيدة القصيبي هو الانتقال من طللية رومانسية تتمثل في استدعاء الذاكرة الحميم للأماكن، إلى واقعية اقتضتها صدمة التغيير وتواري الأماكن مما يهدد بانمحاء الذاكرة نفسها. الصدمة، بتعبير آخر، ليست ناجمة، كما عند الشاعرة الكندية، عن الثبات وإنما عن التغير، وبالطبع ليس في هذا جديد على القصيدة العربية التي طالما عرفت البكاء على الأطلال. لكن بداية القصيدة تأتي مثقلة بنذر تلك الصدمة، أي بمشاعر الشيخوخة المتنامية، فالشاعر الآن كهل «تجره الأربعون» ويعلو ثوبه «غبار الصحارى»، في إشارة واضحة إلى انتقاله إلى وسط الجزيرة العربية. يأتي الشاعر باحثاً عن أطلال الطفولة:

كان يغفو في أذرع البحر بيتي

حوله الماء رقصة ولحون

ليصطدم بالتغيير:

ذهب البحر! من ترى اغتال بحري

فهو صخر صلد .. وقار مهين

عندما تقتل الحضارة بحراً

يعول الصمت.. والفراغ الحزين

هذا النعي لما فعلته الحضارة والتنمية سيبدو غريباً وهو يصدر عن شاعر صار وزيراً وارتبط اسمه بمتغيرات الحضارة والتنمية، رجل آمن بالتطوير ودعا إليه ونفذ ما أمكنه تنفيذه منه، لا سيما حين صار وزيراً للصناعة والكهرباء. لكنه الانقسام المألوف بين ذات الشاعر وذات المسؤول. في قصيدته يبدو القصيبي وكأنه يتمنى الثبات الذي اصطدمت به دايون عندما عادت هي أيضاً إلى جزيرة طفولتها. لكن حقيقة الأمر هي أن ما يتمناه القصيبي هو ثباته هو، أي استعادة طفولته لأن الأماكن ليست سوى مرايا تعلن التغيير. حين يتحول الشاعر إلى قيادي ومسؤول وتنفيذي سيكون أحد عوامل ذلك التغيير، ربما لوعيه باستحالة العودة إلى الأماكن القديمة لأنها ببساطة لم تعد هناك ولم يتبق سوى الحاضر والمستقبل. الإنجليزي وردزورث شغل بالحاضر والمستقبل أيضاً لكنه رآهما امتداداً غنياً للماضي وبالماضي. لقد عاش الشاعر الإنجليزي بدايات الثورة الصناعية وعبر عن رفضه لها مثلما فعل غير من الرومانسيين لكنه تمسك بالطبيعة ملاذاً، الطبيعة التي لم تكن بعد قد بدأت تدفع ثمن التنمية أو الحضارة التي شهد القصيبي تعمق أثرها في بلاده، سواء كانت البحرين أو السعودية.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!