السيناريو نفسه يتكرر كل مرة بخصوص الملف النووي الإيراني كلما اقترب موعد الاجتماع الدوري لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي يلتئم في فيينا، مقر الوكالة، ما بين 6 و10 مارس (آذار) الحالي.
ومسار السيناريو ينطلق تقليدياً مع توزيع تقرير الوكالة عن الأنشطة النووية الإيرانية على أعضاء المجلس، وهو ينص، منذ العام 2018 وبشكل دائم، على غياب التعاون الكافي من السلطات الإيرانية، خصوصاً بالنسبة لجلاء ظروف العثور على جزيئات من اليورانيوم المخصب في ثلاثة مواقع إيرانية غير معلنة رسمياً. وهذه المسألة تجرّ أذيالها منذ العام 2019. وتخوف الوكالة أن تكون مؤشراً على وجود برنامج نووي إيراني سري عسكري الطابع.
وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) من العام الماضي لتغطي على الملف النووي لصالح التركيز على دور طهران في تزويد موسكو بالمسيرات. ثم سلطت الأضواء على التبعات المترتبة على وفاة الشابة الإيرانية الكردية مهسا أميني أواسط سبتمبر (أيلول) الماضي والمظاهرات الاحتجاجية التي تبعتها والقمع الأعمى الذي لجأت إليه السلطات لوأدها.
وبالفعل، فإن اهتمام الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة بالملف النووي تراجع إلى المواقع الخلفية في حين كثرت التساؤلات عن قدرة النظام الإيراني على البقاء. إلا أن كشف تقرير الوكالة الأخير، يوم 28 فبراير الماضي، عن أن مفتشيها عثروا على جزيئات نووية مخصبة بنسبة 83.7 في المائة في موقع فوردو بالغ التحصين، أعاد تسليط الضوء على هذا الملف لأنه كشف اللثام، وفق ما تقوله مصادر دبلوماسية أوروبية في باريس، عن أمرين: الأول، قدرة الخبراء الإيرانيين الفنية على الارتقاء بالتخصيب إلى درجة النقاء التي يريدونها. كذلك، فإن وصولهم إلى الدرجة عالية الارتفاع يبين انعدام اهتمامهم بتنفيذ التزاماتهم النووية من جهة، ومن جهة أخرى عدم اكتراثهم بالتحذيرات الدولية التي وجهت إليهم منذ أن تخلوا عن التخصيب بنسبة 3.67 في المائة المتاحة لهم بموجب اتفاق العام 2015.
والآخر، وهو الأخطر، أن إيران اقتربت كثيراً من الحافة الضرورية لإنتاج السلاح النووي وهي 90 في المائة، لا، بل إنه يتعين النظر إليها اليوم على أنها عضو فيما يسمى «دول الحافة» النووية؛ ما يعني أنها «قادرة على إنتاج السلاح النووي إذا رغبت في ذلك».
وبكلام آخر، فإن «شبح إيران نووية» بدأ يلوح في الأفق. ويفيد تقرير صادر مؤخراً عن معهد العلوم والأمن في واشنطن، بأن إيران قادرة على إنتاج خمس قنابل نووية باستخدام مخزونها الحالي من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 و20 في المائة، وذلك خلال شهر واحد وأنها قادرة على إنتاج أول قنبلة بعد 12 يوماً من بدء الاختراق، أي قرار الإنتاج.
ومن جانبه، عبر ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية، الأحد الماضي، عن قلقه الشديد من التقدم التقني الإيراني، ورأى أن طهران «تحتاج إلى أسابيع عدة لبلوغ نسبة الـ90 في المائة» إذا رغبت في ذلك. إلا أنه توجد عتبات أخرى يتعين اجتيازها قبل أن تعدّ إيران دولة نووية. وأضاف بيرنز، أن الولايات المتحدة «لا تظن أن المرشد علي خامنئي اتخذ قرار إعادة عسكرة البرنامج النووي الذي توقف في العام 2003». لكن توضيح بيرنز لم يخفف من القلق الغربي.
وأمس، قالت آن كلير لوجاندر، الناطقة باسم الخارجية الفرنسية، إن تقرير الوكالة الدولية «يشير إلى مسار مقلق للغاية تتبعه إيران وليس له أي مبرر... إنه تطور غير مسبوق وخطير جداً». وأضافت «يشير التقرير أيضاً إلى عدم توفر إمكانية للوكالة الدولية لترسيخ استمرارية حصولها على معلومات بشأن البرنامج النووي الإيراني» وخلاصتها «نحن نعرب عن دعمنا الكامل للوكالة في جهودها للحصول على التوضيحات كافة من إيران؛ لأن العمل بالتزاماتها الدولية موجود على المحك». وكانت لوجاندر تشير بذلك إلى اتفاقية الضمانات التي وقّعتها طهران والتي تخلت عن العمل بموجبها؛ ما يعرضها لعقوبات. وبحسب المسؤولة الفرنسية، فإن باريس ومعها الدول الغربية الأخرى المعنية بالملف النووي الإيراني «ستكون بالغة التيقظ للعناصر التي سيعود بها مدير الوكالة الدولية» من الزيارة التي سيقوم بها إلى طهران ومن لقائه مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والمسؤولين الآخرين.
وما يريده الغربيون ثلاثة أمور: الأول، أن توفر طهران العناصر التقنية كافة ذات الصدقية للأسئلة المطروحة، وهي من نوعين: ظروف التخصيب بنسبة 83.83 في المائة المكتشفة أخيراً، والحصول على إجابات شافية بالنسبة للمواقع الثلاثة القديمة. والثاني، قبول إيران بمزيد من عمليات التفتيش للمواقع النووية وزيادة المفتشين. والثالث، تمكين الوكالة من أن تتبع مسار البرنامج النووي الإيراني من غير عوائق في حين الوكالة تعبّر عن عجزها عن توفير الضمانات حول سلمية البرنامج المذكور.
اللافت هذه المرة، أن طهران سعت للتقليل من أهمية «اكتشاف» الوكالة. فقط كررت، في الأيام الماضية، وفي إطار رسالة وجهتها للوكالة، أنها لا تسعى لحيازة السلاح النووي وأن بلوغ التخصيب نسبة بالغة الارتفاع «غير مقصود» كما أنه جاء نتيجة أخطاء تقنية في أجهزة الطرد المركزية. وهذه «الليونة» بعيدة كل البعد عن مقارباتها السابقة، حيث كانت تلجأ إلى التهديد وإلى مزيد من الإجراءات في حال صدر قرار مندد من مجلس المحافظين على غرار الذي رأى النور في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وفي أي حال، فإن الدول الغربية الرئيسية حرصت سابقاً على إبقاء خيط التواصل قائماً مع طهران وامتنعت عن نقل الملف بكليته إلى مجلس الأمن الدولي؛ ما كان سيفضي إلى إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران؛ لأنها كانت أبقت الباب مفتوحاً أمام التوصل إلى اتفاق محدث مع طهران يتيح مجدداً احتواء برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات عنها. وحتى أمس، امتنعت العواصم الغربية المعنية عن الكشف عن خططها المستقبلية بانتظار تقييم العناصر التي سيعود بها غروسي من طهران والتي على ضوئها سيتقرر ما إذا كانت واشنطن وباريس ولندن وبرلين ستعمد إلى تقديم مشروع قرار جديد إلى مجلس المحافظين أم سوف تمتنع عن ذلك، وما إذا كانت العلاقة مع إيران ستشهد مزيداً من التصعيد أم ستفتح كوة للتواصل المتجدد بين الطرفين؟
بماذا سيعود غروسي من طهران بعد تخصيب الـ84%؟
(تحليل إخباري)
بماذا سيعود غروسي من طهران بعد تخصيب الـ84%؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة