عاود البرلمان الفرنسي (الاثنين) مناقشة مشروع قانون تعديل سن التقاعد الذي تقدمت به الحكومة وأهم بنوده رفعها من 62 إلى 64 عاماً وسط تواصل الاحتجاجات والمظاهرات في الشارع بينما الحكومة مصممة على السير به حتى النهاية.
وتسود مناقشات البرلمان المفترض به أن ينتهي من المناقشة خلال أسبوع، حالة من الهرج والمرج. فالمعارضة المشكَّلة من أحزاب اليسار «الشيوعي والاشتراكي وفرنسا المتمردة»، ومن الخضر ومن اليمين المتطرف «حزب التجمع الوطني»، تمارس سياسة التعطيل من خلال طرحها عشرين ألف تعديل، تبقّى منها للأسبوع الأخير نحو 7 آلاف لم يتم النظر بها وسيكون من الصعب الانتهاء منها في الأيام القليلة المتبقية. ويُعدّ ما تقوم به المعارضة المتنوعة تحت قبة البرلمان موازياً للحراك في الشارع. وإذا كانت الحكومة تراهن على تراجعه، فإن ما حصل يوم السبت الماضي جاء بالدليل القاطع على حيويته واستمرار المعارضة الشعبية للخطة الحكومية. ورغم التفاوت الكبير بين الأرقام الرسمية والنقابية، فمن الواضح أن التعبئة متواصلة. واعترفت وزارة الداخلية (السبت) بأن أقل بقليل من مليون شخص نزلوا إلى الشارع في العاصمة باريس «93 ألفاً» وبقية المدن الكبرى والوسطى. وفي المقابل، قدّر الاتحاد النقابي «الكونفدرالية العامة للعمل» القريبة من الحزب الشيوعي التي يديرها فيليب مارتينيز، أعداد المشاركين بأكثر من 2.5 مليون شخص، بينهم 500 ألف في باريس وحدها. أما رئيس النقابة الإصلاحية «الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل»، لوران بيرجيه، فقد اتهم السلطات بالتلاعب بالأرقام وتعمد خفضها، مؤكداً أن 1.8 مليون شخص شاركوا في المظاهرات التي كان اللافت فيها ظهور عائلات بأكملها، صغاراً وكباراً، ما يعني أن التعديل الحكومي يثير قلق الكثير من الشرائح السكانية والعمرية.
الثابت حتى اليوم أن الحكومة لن تسحب مشروعها من التداول ولن تقبل التراجع عن عموده الفقري «أي الـ64 عاما» لأنها ترى أن التراجع عنه ستكون له نتيجتان متصلتان: الأولى، إصابتها بهزيمة سياسية مدوية بوجه المعارضة. والأخرى، عجزها عن مواصلة ما يريده الرئيس إيمانويل ماكرون من استكمال مشروع «تحديث» القوانين الناظمة للمجتمع الفرنسي. يضاف إلى ما سبق أن الحكومة ترى أن التخلي عن خطتها سيعني «إفلاس» نظام التقاعد فضلاً عن أن سن التقاعد المعمول به حالياً يعد الأدنى في إطار بلدان الاتحاد الأوروبي. وعلى سبيل المثال، فإن سن التقاعد في ألمانيا وهي القوة الاقتصادية الأكبر داخل الاتحاد «فرنسا الثانية» هو 67 عاماً.
بالنظر إلى ما سبق، فإن الحركة الاحتجاجية تتجه إلى مزيد من التصعيد لمزيد من الضغوط على الحكومة. والدليل على ذلك قرار النقابات الإجماعي «الثماني الرئيسية والخمس الإضافية التي انضمت إليها مؤخراً» الدعوة إلى يوم من التظاهر والإضرابات الخميس القادم «16 فبراير (شباط) الجاري» أي قبل يوم واحد من انتهاء المناقشات في البرلمان. والأهم من ذلك أن الاتحادات العمالية تهدد بـ«شل الحركة الاقتصادية» في البلاد بدءاً من السابع من مارس (آذار) القادم وهي تريد الاستفادة من الأسابيع الثلاثة الفاصلة بين الموعدين «الأول والثاني» لمزيد من التعبئة ولإقناع المترددين بأن الخيار الوحيد المتاح أمام النقابات هو ليّ ذراع الحكومة لدفعها إلى التراجع عن مشروعها. وكان لافتاً أن أمين عام النقابة الإصلاحية المعتدلة لوران بيرجيه الذي يعد المحاور النقابي الطبيعي الأول للسلطة، يعتمد خطاباً بالغ التشدد، إذ أكد عقب مظاهرات (السبت) أن الغرض من دعوة السابع من مارس «إظهار قدرتنا على شل الاقتصاد إذا تبين لنا أن الحكومة لم تفهم أنه يتعين عليها التراجع». ومنذ اليوم، تحذر النقابات من «يوم أربعاء أسود» (7 مارس) ويمكن أن يتبعه «يوم خميس أسود» الذي يصادف «اليوم العالمي لحقوق المرأة». وتشكو النساء من أن المشروع الحكومي لا يفي المرأة حقها بل إنها المتضررة الأولى منه.
هل يعني ذلك كله أن الطريق الوحيدة المتاحة للحكومة هي التراجع؟
حقيقة الأمر أن الوضع ليس بهذه البساطة. ذلك أن الحكومة، رغم افتقارها للأكثرية المطلقة داخل البرلمان يمكنها أن تعوِّل على تصويت نواب حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل لصالح مشروع القانون أو على الأقل غالبية هؤلاء للوصول إلى الأكثرية المطلقة «289 نائباً». أما إذا تَبينت لها صعوبة هذا الهدف، فإنها قادرة على الربط بين التصويت لصالح مشروع القانون وبين التصويت على طرح الثقة بها، بمعنى أن الفشل في الحصول على الأكثرية سيعني بشكلٍ آليٍّ استقالة الحكومة. وليس سراً أن الأحزاب ليست راغبة اليوم في العودة إلى صناديق الاقتراع. ذلك أن الرئيس ماكرون هدد سلفاً بأن إسقاط الحكومة في البرلمان سيعني حكماً حل المجلس النيابي والتوجه إلى انتخابات تشريعية جديدة. وواضح أن حزب «الجمهوريون» الذي خسر عشرات النواب في انتخابات الربيع الماضي والذي تعتمله انقسامات داخلية، ليس مستعجلاً للمثول مجدداً أمام الناخبين. ثم إن برامجه الانتخابية الرئاسية المتلاحقة نصّت جميعها على رفع سن التقاعد، لا بل إن مرشحاً لرئاسيات العام 2017 اقترح سن 67 عاماً بدل 62 عاماً حالياً ولذا فإنه يشعر بالإحراج للتصويت ضد المشروع الحكومي.
هكذا تتبدى الأزمة الاقتصادية - الاجتماعية التي تعيشها فرنسا في الوقت الحاضر والتي تتفاعل معها الأزمة المعيشية التي لها عنوانان رئيسيان متداخلان: الأول غلاء الأسعار خصوصاً المواد الغذائية الأساسية والخضار والفاكهة والمحروقات المختلفة، والآخر التضخم المستشري الذي لم تعرف فرنسا مثيلاً له منذ ثلاثين عاماً، وكلاهما يضرب القدرة الشرائية ومدخرات الطبقات الأكثر هشاشة. وفي المقابل، فإن الكثيرين يتساءلون عن الأسباب التي تمنع الحكومة من فرض ضرائب استثنائية إضافية على الشركات التي حققت أرباحاً قياسية في العام المنقضي والتي استفادت من ارتفاع أسعار الطاقة. وتعد شركة «توتال إنيرجيز» الأولى من بينها لأن أرباحها الصافية تصل إلى نحو عشرين مليار يورو، وهو رقم لم يسبق لها أن وصلت إليه سابقاً وليس ثمرة إدارة متميزة أو استثمارات استثنائية بل فقط لأن أسعار النفط ومشتقاته ارتفعت منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا.
هكذا تواجه السلطات ضغوطات متداخلة. هي في جانب والشارع في جانب آخر. وبما أن العملية أشبه بـ«عض أصابع»، فليس المعروف اليوم مَن سيصرخ أولاً.
9:12 دقيقه
«عض أصابع» بين السلطات الفرنسية والنقابات
https://aawsat.com/home/article/4156476/%C2%AB%D8%B9%D8%B6-%D8%A3%D8%B5%D8%A7%D8%A8%D8%B9%C2%BB-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA
«عض أصابع» بين السلطات الفرنسية والنقابات
الاتحادات العمالية واليسار لتعبئة أوسع ضد مشروع رفع سن التقاعد
البرلمان الفرنسي لدى مناقشته مشروع قانون تعديل سن التقاعد الحكومي أمس (أ.ف.ب)
- باريس: ميشال أبونجم
- باريس: ميشال أبونجم
«عض أصابع» بين السلطات الفرنسية والنقابات
البرلمان الفرنسي لدى مناقشته مشروع قانون تعديل سن التقاعد الحكومي أمس (أ.ف.ب)
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة




