«بناية تي. في. تاكسي» في بيروت تدور كالدراويش وتلفظ سكانها

زياد كاج يرصد تحولات العاصمة اللبنانية

«بناية تي. في. تاكسي» في بيروت تدور كالدراويش وتلفظ سكانها
TT

«بناية تي. في. تاكسي» في بيروت تدور كالدراويش وتلفظ سكانها

«بناية تي. في. تاكسي» في بيروت تدور كالدراويش وتلفظ سكانها

عمل أدبي جديد يصدر بعد أيام للروائي والشاعر اللبناني زياد كاج، يحمل عنوان «بناية تي. في. تاكسي»، يحكي فيه عن تحولات بيروت، تحديداً المنطقة التي سكنها صغيراً، في عمارة «الزاهد» وشاهد من خلالها تبدلات المدينة وأحوالها.
يأخذنا كاج من خلال الكتاب الصادر عن «دار نلسن»، ويحمل عنواناً فرعياً هو «الصنوبرة، رأس بيروت» في رحلة عبر الزمن، إلى هذه المنطقة من العاصمة اللبنانية التي بقيت فخراً لأبنائها بسبب تنوع سكانها، وتسامحهم، وتعايشهم، حتى في فترة الحرب الأهلية. إذ يصرّ أهالي «رأس بيروت» ومنهم مؤلف الكتاب، على أنها أجمل مناطق المدينة وأكثرها تميزاً، وأن كل شارع بها وعمارة وشجرة شهود على أحداث جسام، أثرت ليس فقط في تاريخ لبنان، بل في المنطقة ككل.
الشخصية الرئيسية في الكتاب هي بناية «الزاهد» التي تقع في حي الصنوبرة، نسبة إلى شجرة صنوبر ضخمة موجودة في المكان. يقول الراوي: «سكان بناية الزاهد تبدلت أحوالهم خلال الحرب، بعد انقطاع الكهرباء وتقنين المياه، وفلتان الشارع. صاروا أكثر حاجة لنا كأبناء للناطور، تحسنت معاملتهم معنا، خصوصاً أؤلئك الذين كنت أضعهم على اللائحة السوداء من أمثال مدام بورسالي، وغازي بو زين المتشاوف، الذي لا يضحك للرغيف السخن، وإميل البتروني الذي تآمر يوماً مع (أبو بوز) للتخلص من أبي، وجلب ناطوراً جديداً للبناية».
في الكتاب عودة إلى ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية، ليحكي الكاتب - الرواي عن البناية التي فيها ترعرع الكاتب وكبر وذهب الى المدرسة، ولم يتركها إلا حين تزوج. لكن الحنين إلى الحي ورأس بيروت، لم يفارقه. وسبق له وكتب عن بيروت أكثر من كتاب، أبرزها روايته «بيروت: صندوق في بحر، نار على تلة».
كاج في كتابه الجديد، لا تحكمه النوستالجيا، ولا يسكنه الحنين. إنما يسجل «سيرة مكان» كما وصف الناشر سليمان بختي النص. سيرة بناية تبدو للكاتب «كأنها تدور وهي تؤدي رقصة الدراويش، تلفظ أناساً وتستقبل غيرهم تبعاً للمرحلة. قبل حرب السنتين، كانت في حال، وبعدها صار السكان شيئاً آخر. قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 سكنتها مجموعة مختلفة عن تلك التي جاءتها بعد الاجتياح، ثم تحلّ مرحلة رفيق الحريري الذي سكن المنطقة وأثر فيها. في كل مرة ثمة من يموتون أو يهاجرون أو يغيرون أماكن سفرهم، وتبقى العمارة قائمة في مكانها، إلى اليوم».
تغّير ملّاك العمارة، كما سكانها، وبقي والد الكاتب، ناطورها الأمين عليها، وابنه زياد الكاج الذي كان طفلاً يومها، يراقب ما يحدث، ليصبح كاتباً يقص علينا حكاية ما صارت تعرف خلال الحرب الأهلية ببناية «تي. في. تاكسي»، بسبب مكتب سيارات الأجرة الذي تمركز بها واصطفت مركباته الأميركية الصفراء كبيرة الحجم حولها. أما الأم المسيحية فهمزة وصل، وجسر مع السكان، ولا تزال تسكن في المكان مع ابنتها.
حدثان رئيسيان، عاشهما أهل الحي، رآهما الراوي طفلاً، وكان شاهداً عليهما. اغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين عام 1973؛ وهم كمال ناصر، وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، وكان لا يزال في التاسعة، ثم اغتيال أبو حسن سلامة عام 1979 في الشارع نفسه بسيارة مفخخة، وكان قد أصبح في الخامسة عشرة.
على المبنى الضخم الذي يقع عند زاوية ومفترق، ويرتفع سبعة طوابق في كل منها خمس شقق، توالت عشرات العائلات، أرمن، مسلمون ومسيحيون ومسؤول كبير من شهود يهوا، خفيف الظل، متواضع، وآخرون من ملل متعددة. (يمكن للقارئ أن يكتشف المبنى على غلاف الكتاب الجميل الذي صمم لوحته يوسف دوغان).
من خلال متابعة بعض الشخصيات، نفهم سيكولوجيا المكان وأعماق الناس. هناك كوكو الكوافير النسائي الأرمني، الذي كان رغم الحرب يتنقل بخفة بين شطري بيروت الشرقية والغربية، وأصبح بتكوينه جزءاً من منطقة رأس بيروت. ويوم اضطر كوكو أو كريكور (وهو اسمه الأصلي) للانتقال إلى منطقة ذات غالبية أرمنية في برج حمود ضاع توازنه، وفقد ألقه، وبدا شاحباً وهرماً.
ثمة فصل كامل عن محمد ميشال الغريب، الذي كان من سكان الشارع، في مبنى قريب. وهو شخصية معروفة لمعاصريه في سبعينات القرن الماضي، كونه مارونياً اعتنق الإسلام، وعمل في السياسة. هو ابن الجبل وبدل أن يكون تحت جناحي طائفته التحق بالحزب الاشتراكي وكمال جنبلاط، الذي هو نفسه أيضاً لم يأخذه على محمل الجد. هكذا بقي محمد ميشال الغريب الذي تخرج من كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية وعمل محامياً وفتح لنفسه مكتباً، غريباً في عيون كثير من الناس، لكنه ترك لنا مؤلفات جميلة، أمتعها «مذكرات ماروني».
«أحببت أن أخصص له في الكتاب فصلاً كاملاً»، يقول كاج، «لأظهر أن الشخص النقي والآدمي في بلادنا، يداس ويسحق. كميل شمعون لم يتمكن من مسامحة محمد ميشال الغريب الماروني الذي ترك زعيم طائفته والتحق بجنبلاط، فبقي يحاربه حتى سحقه بالفعل».
هناك أيضاً ابو علي الذي حلّ كناطور مكان والد الراوي ومعه عائلته، ولا هم له إلا أن يعود إلى قريته التي هجّر منها، وهو ما تحقق له بالفعل، بعد أن انضم إلى الحزب الشيوعي الذي صبغ غالبية سكان المنطقة، ثم بدّل من ميوله كما كثيرين غيره.
يقول كاج: «لا أذكر أن أولاد العائلات المتوسطة في منطقتنا حملوا سلاحاً، أو شاركوا في الحرب. كان همّ الناس، أن تعلم أولادها وتنجو بنفسها، خصوصاً أن ثمة فترة أغلقت فيها المدارس».
في هذا الوقت مدرستان فتحتا أبوابهما لأولاد الحي، «مدرسة الطليان» قرب فندق البريستول، و«مدرسة الروضة». يعلق الكاتب: «جميل أن يفكر مدير مدرسة وقد تعطلت الحياة التربوية، أن يفتح مؤسسته لأبناء الجيران ليلعبوا كرة القدم أو كرة السلة ويقضوا وقتاً لطيفاً في زمن عصيب».
في الكتاب عودة إلى شارع الحمرا، أيام العزّ مطلع السبعينات، بسينماته الكثيرة، «ستراند» و«الحمرا» و«كوليزيه»، وأفلامه الأثيرة، ورواده. هناك سكنت عائلة كاج، قبل أن تتمركز في بناية الزاهد. ذلك يوم كان الدرك اللبناني و«فرقة 16» على وجه التحديد، لها هيبة لم تسترد، وشراء «البوب كورن» قبل الدخول إلى صالات السينما، ليس في متناول كل الناس، فيستبدلون به الفول السوداني.
ينتهي الراوي، وهو يتحدث عن الزمن الراهن، عن زيارته لوالدته وشقيقته في بناية الزاهد، وتأمله ما انتهت إليه منطقته، وما صار عليه حي الصنوبرة. ويعلق بالقول: «تغيرت وجوه الناس بالفعل، ومع ذلك لا يزال رأس بيروت، رغم أنه فقد بعضاً من تنوعه الإنساني، مكاناً لا يمكن مقارنته بأي منطقة أخرى في العاصمة».
«بناية تي. في. تاكسي» ليس رواية، بل نصّ مفتوح يجول فيه الراوي، في حنايا منطقة عزيزة من العاصمة اللبنانية، هي القلب والنبض والحيوية. يجول فيها أحد أبنائها جيئة وذهاباً في الزمن، يتأمل الوجوه التي عبرتها، من سبعينات القرن الماضي إلى اليوم مسجلاً عبر ناسها على اختلافهم، حكاية نصف قرن ونيف من عمر مدينة عربية ليست ككل المدن.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«سينما 70» تطلق عروضاً في «مهرجان التلال العجيبة» شرق السعودية

تتيح العروض للزوار مشاهدة الأفلام تحت السماء المفتوحة (الشرق الأوسط)
تتيح العروض للزوار مشاهدة الأفلام تحت السماء المفتوحة (الشرق الأوسط)
TT

«سينما 70» تطلق عروضاً في «مهرجان التلال العجيبة» شرق السعودية

تتيح العروض للزوار مشاهدة الأفلام تحت السماء المفتوحة (الشرق الأوسط)
تتيح العروض للزوار مشاهدة الأفلام تحت السماء المفتوحة (الشرق الأوسط)

أطلقت «سينما 70» عروضها السينمائية المفتوحة في الهواء الطلق ضمن فعاليات «مهرجان التلال العجيبة» الذي يحتضنه متنزه «تلال دارين» بمدينة الجبيل الصناعية (شرق السعودية).

وتقدم العروض التي بدأت الأربعاء وتستمر حتى 10 يناير (كانون الثاني) المقبل، تجربة فريدة من نوعها للزوار تتيح لهم مشاهدة الأفلام تحت السماء المفتوحة، في أجواء استثنائية تضفي طابعاً مميزاً على الحدث.

وأكد ممدوح سالم، الرئيس التنفيذي لـ«سينما 70»، على أهمية السينما الخارجية ودورها في تعزيز الروابط الاجتماعية ونشر الثقافة الترفيهية بطريقة مبتكرة وممتعة، موضحاً أن هذه المبادرات تأتي ضمن جهودهم لتقديم تجارب سينمائية غير تقليدية تعكس تطلعات المجتمع، وتتماشى مع «رؤية السعودية 2030» في تعزيز قطاع الترفيه.

ممدوح سالم الرئيس التنفيذي لـ«سينما 70» (الشرق الأوسط)

وأضاف سالم أنه سبق له تقديم تجارب ناجحة، مثل «سينما الشاطئ» بمدينة الملك عبد الله الاقتصادية، و«سينما الحديقة» بمتنزه الملك عبد الله بالطائف، و«سينما السيارات» في أبها، مشيراً إلى أن «سينما 70» تعمل على خطة توسعية طموحة تستهدف مختلف مدن ومحافظات السعودية، بهدف إتاحة تجربة سينمائية مميزة ومتكاملة في أجواء متنوعة.