السيرة الذاتية... نشطت في السعودية ولم تجد اهتماماً نقدياً موازياً

باحث مصري يتناول نشأتها وتطورها في الخليج

السيرة الذاتية... نشطت في السعودية ولم تجد اهتماماً نقدياً موازياً
TT

السيرة الذاتية... نشطت في السعودية ولم تجد اهتماماً نقدياً موازياً

السيرة الذاتية... نشطت في السعودية ولم تجد اهتماماً نقدياً موازياً

في كتابه «كهف أفلاطون... السيرة الذاتية في الخليج والهجرة إلى استعارات بديلة» الصادر حديثاً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» بلبنان، يقدم الباحث المصري الدكتور سمير مندي، قراءة في نصوص سير ذاتية من السعودية والكويت وسلطنة عمان، مبرراً ذلك بأنها دول تراكمت فيها نصوص سير ذاتية، وأصبحت ظاهرة يمكن قراءتها وتقييمها؛ مشيراً إلى أنها لم تجد خطاباً نقدياً يعتد به إلا في المملكة العربية السعودية؛ فهي البلد الوحيد الذي استطاع أن يراكم منجزاً نظرياً موضوعه الأساسي هو السيرة الذاتية دون بقية دول الخليج، وذلك لأنها أول دول الخليج التي بدأت كتابة السيرة الذاتية، وأكثرها إنتاجاً لنصوص ذات مرجعية ذاتية منذ فترة مبكرة من القرن العشرين، بصدور كتاب لأحمد السباعي، بعنوان «أبو زامل»، 1954.
وذكر مندي أنه على الرغم من تسارع وتيرة كتابة السيرة الذاتية في السعودية، فإن ما يقدم من إبداعاتها يسبق النقد بخطوات. فبينما تمكنت نصوصها من التفاوض مع واقعها فخرجت ببدائل مكنتها من تمثيل نفسها، ظل النقد فوق مستوى هذه المفاوضات، يعاين السيرة بمعايير مثالية لا مكان لها في الواقع الجديد. وبدلاً من أن يساعد في فهم وتقريب النصوص للمتلقين، أصبح هو نفسه طرفاً في المعادلة التي تُقصي النصوص وتقمعها، وبالتالي أصبح وضع السيرة الذاتية وضع المحاصر بين المجتمع الذي يرتاب فيها، والنقد الذي يبرر ويسوغ الارتياب.

استعارات بديلة
قسَّم مندي كتابه إلى قسمين، خصص الأول للحديث عن «المشهد السيرذاتي في الخليج» وتضمن فصلين: «أزمة السيرة الذاتية في الخليج بين جناية المجتمع وجناية النقد»، و«بين سفينة البحر وسفينة الصحراء: نشأة وتطور السيرة الذاتية في الخليج». أما القسم الثاني، فكان عنوانه: «الهجرة إلى استعارات بديلة»، وتكون من فصلين؛ جاء الأول بعنوان: «دوافع بديلة بين إرادة الكاتب وإرادة القارئ»، أشار خلاله مندي إلى أولوية الدوافع الاجتماعية لدى كُتاب السيرة على الدوافع الأدبية. وذكر أنها تتنوع بين دوافع عائلية ودوافع وطنية. ثم تحدث عن الغزو العراقي للكويت وأثره في تسارع وتيرة كتابة الذات.
وفي الفصل الذي جاء بعنوان «استعارات بديلة»، تحدث مندي عن الاستراتيجيات التي اعتمدها كُتاب السيرة الذاتية الخليجية، وكيف أنهم استعانوا «بذاكرة الأُخريات بديلاً للذاكرة الشخصية»، وسعوا لكتابة «سيرة الواقع بديلاً عن سيرة الذات». وقد تأرجح الكُتَّاب هناك بين كتابة الحياة والشهادة عليها، فقدموا كتابة تجعل من محاولة تمثيل الذات تحت وطأة ظروف لافظة، محاولة لصنع بديل متميز من المجموع العام، قادر على تحطيم علاقات المجموع العام وإعادة ترتيبها وفق أولويات بديلة للأولويات السائدة، يكون من شأنها الحيلولة دون انزلاق «أنا» المتكلم في نسخ أو تكرار الذات الجماعية المهيمنة، أو الذوبان فيها.
واقترح مندي -وهو يستعرض الكثير من السير الذاتية التي تناولها بالبحث في كتابه- مخرجاً نظرياً لمعضلة السيرة الذاتية في الخليج، وسعى إلى تقديم قراءة للبدائل الاستعارية التي هاجرت إليها النصوص، كما بسط المشهد السيرذاتي بواقعه ونصوصه ومنجزه النقدي، أمام أعين المهتمين المتخصصين وغير المتخصصين الذين ربما لا يزالون يسلمون بأفكار وآراء نمطية حول واقع السيرة الذاتية. وقد أعد في نهاية كتابه جدولاً يضم أهم الأعمال السيرذاتية التي صدرت في دول الخليج كافة.

أزمة السيرة النسائية
يذكر مندي أنه في ظل هيمنة الثقافة التقليدية المحافظة، تشتد وتيرة النفور الاجتماعي إذا ما اتصل الأمر بكتابة امرأة لسيرتها الذاتية. والمحاولات الأولى لبعض الرائدات السعوديات شاهدة على قوة هذا النفور. ومنها محاولة الكاتبة السعودية سلطانة السديري التي سعت خلالها لرسم صورة ذاتية لنفسها، ولقيت الكثير من المقاومة، فقد نشرت سلطانة السديري 6 حلقات من مذكراتها في «المجلة العربية» عام 1988، أطلقت عليها اسم «مذكرات امرأة سعودية»؛ لكنها سرعان ما توقفت على أثر ما يصفه الناقد الدكتور معجب الزهراني ﺑ«أسباب اجتماعية قوية»، تكشف الخلل الكامن في شروط التلقي التي تجهض المغامرة وتكرس الغياب، وتؤجل حضور الذات في مشهد الكتابة والحياة العامة. الشيء نفسه حدث مع فوزية أبو خالد، بعدها بست سنوات، عند نشر ما سمَّته «سيرة ذاتية أدبية لتيار اجتماعي» عام 1994، وقد توقفت بعد نشر 4 حلقات فقط.
ولم يتوقف حضور ذات المرأة المبدعة المتعسر، حسب رأي مندي، عند حدود وجوده في كتابات النساء فقط؛ بل تجاوزه إلى كتابات المبدعين أنفسهم، فلم تنعكس صورة المرأة كما يجب في السير الذاتية للكتاب الذين لم تتوفر لهم الحرية الكافية لاستحضار النساء في سيرهم دون أن يشعروا بالحرج، وهذا ما يفسر تغاضي بعضهم عن ذكر أسماء النساء صراحة، والاكتفاء بذكر كنياتهن فقط، ولا تشكل درجة قرابة المرأة من الكاتب أو طبيعة علاقته بهذه أو تلك فارقاً في هذه الحالة. إذ يخضع تصوير المرأة عموماً لحسابات اجتماعية تتحفظ على ذكر الأم في سياق انتقاد أو لوم، كما لا يوجد متسع للتجارب العاطفية المبكرة. وقد لاحظ الزهراني غياب هذه التجارب عن السير الذاتية السعودية، فالموضوعات المتعلقة بتجارب الحياة العاطفية للذات الكاتبة -وفقاً لوجهة نظره- لا أثر لها.

نظرة المجتمع
وعلى أثر هذه التحديات، انخرط الكُتاب في مفاوضات مع واقعهم بهدف تمرير ما يبدو أنه متعذر قبوله. وقد أعادوا تكييف السيرة الذاتية لتصبح متوائمة مع الظروف الاجتماعية التي يحيون ويكتبون من خلالها، وهكذا كان الخروج من الشخصي وربط السير بموضوعات واهتمامات اجتماعية أو أدبية، مثل «حياة في الإدارة» 2003، و«سيرة شعرية» 1988 للشاعر السعودي غازي القصيبي، هذا فضلاً عن الحديث عن سيرة ذاتية ناقصة، مثل «سين... نحو سيرة ذاتية ناقصة» 2011، للكاتبة الكويتية سعدية مفرح، و«سيرتي الناقصة» 2011، للشاعرة السعودية هدى الدغفق، و«المحاكمة: مقطع من سيرة الواقع» 2000، و«يوميات الصبر والمر: مقطع من سيرة الواقع» 2003، للكاتبة السعودية ليلى العثمان، أو بروزها جزءاً من ذاكرة صاحبها أو صاحبتها، مثل كتاب «سيرة عاطفية: توثيق لذاكرة الإحساس» 2014، للبحرينية فتحية ناصر.
ويخلص مندي إلى أن بعض الكاتبات تخلين عن ذكر نوع ما يكتبن، ربما تجنباً للصدامات، مثلما فعلت ليلى الجهني في كتابها «40 في معنى أن أكبر» 2015، حين أغفلت الإشارة إلى نوع ما تتناوله في الكتاب، وكذلك فعلت أميمة الخميس في «ماضي، مفرد، مذكر» 2011، وهكذا بات التخلي عن تصنيف المكتوب أو وضعه في خانة النوع، استراتيجية تلجأ إليها الكاتبات. وقد لاحظ ذلك الباحث السعودي فرحان الشمري، وقال إن الأمر يزداد تعقيداً في النصوص الإبداعية النسائية التي تعتمد المراوغة والهروب من التصريح عن هوية الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».