أشعيا برلين ينقّب في جذور الرومانسية

رغم دعواته المبكرة للتعددية والتسامح فإن اسمه ما زال مغموراً عندنا

أشعيا برلين
أشعيا برلين
TT

أشعيا برلين ينقّب في جذور الرومانسية

أشعيا برلين
أشعيا برلين

كثيرة هي أسماء الفلاسفة الغربيين الذي لهم في تاريخ الأفكار موقع وأثر، وتتفاوت أهمية كل اسم تبعاً لدرجة الوعي الفكري بدور العقل في تحقيق حركات التحديث الكبرى وإحداث تحولات حضارية مهمة في حياة البشر. بيد أن من النادر أن نجد فيلسوفاً يراهن على الخيال الرومانتيكي مثلما يراهن على العقل التجريدي في بلوغ الحقائق كأن الخيال والعقل فعل واحد بلا تحجيم في النظر أو التدبر لأي منهما.
ويعد أشعيا برلين (1909 - 1997) من هؤلاء القلائل الذين تجسدت في أعمالهم هذه التعادلية بين الخيال والعقل من خلال تبني مبادئ الرومانتيكية ولا سيما دور العاطفة والأخلاق في الفكر السياسي. وإيزيا الروسي المولد والبريطاني الجنسية فيلسوف ومؤرخ اجتماعي ليبرالي درس تاريخ الأفكار قديمها وحديثها فوجد أن الفكر الإنساني يحتاج إلى إعادة تنظيم عقلاني يضع حداً للفوضى الفكرية وسيادة الخرافة والانصياع الأعمى للعقائد وحماقات الأنظمة القمعية وطيشها.
وكان اهتمام برلين بالملاحم والروايات قد أمدّه بالأفكار فتمثل كثيراً من نصوص الشعراء والروائيين وتولستوي في مقدمتهم، يقول: «حين كنت شاباً قرأت رواية (الحرب والسلم) وكانت تلك قراءة مبكرة للغاية لم يظهر التأثير الفعلي لهذه الرواية علي إلا لاحقاً». وكان شديد البحث عن المقولات التي تخدم توجهاته، كمقولة هيراقليطس «لا يمكن للمياه أن تتوقف عن الجريان»، ومقولة إيمانوئيل كانت «من نسيج الإنسان الفاسد لم يصنع أي شيء مستقيم أبداً»، ومقولة شيلر «الأملود الأعوج»، ومقولة هيردر «إن لكل مجتمع مركز ثقل خاصاً به»، وكذا الحال مع آخرين كأفلاطون وأرسطو وديكارت وفيكو وفيتشه وفولتير وفرويد.
وعلى الرغم مما في آرائه من أهمية تصب في صميم تطلعاتنا وتلائم مرحلتنا الراهنة من قبيل القول بالكوزموبوليتانية والتعددية والتسامح والتنوع الثقافي، فإن اسمه ما زال مغموراً عندنا وقلّما نهتم بنتاجه والتمثل بآرائه. وليس أدل على ذلك الاضطراب العجيب في ترجمة كتبه إلى اللغة العربية حتى إنك لتجد نفس الموضوعات متكررة في كتابين أو ثلاثة، ولكل واحد منها عنوان مختلف، فضلاً عن الاختلاف غير المبرر في ترجمة اسمه «Isaiah Berlin» ما بين (أشعيا وإيزايا وإيزيا وإيسيا وأزيا، وبرلن وبرلين وبيرلن).
إن ما يجعل لهذا الفيلسوف مكانة خاصة في تاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة أمران مهمان: الأول حماسته منقطعة النظير للرومانتيكية. وهي في نظره ليست مجرد مذهب أدبي أو حركة تنويرية نشأت في القرن الثامن عشر وألهمت منظّري الحركات الأدبية ومؤرخي الفلسفة كثيراً من الرؤى والنظريات ثم ذوت مع ظهور الواقعية، بل هي حركة تصلح لكل زمان ومكان وهي التي «أحدثت تحولاً هائلاً وجذرياً لم يعد بعده شيء كما كان سابقاً»، نظراً لما فيها من ديمومة تتضاد مع العقلانية ولكونها ثورة دائمة التجدد على كل ما هو تقليدي واتّباعي.
وكثيرة هي الأسس الرومانتيكية التي عليها بنى برلين تصوراته الفكرية، منها أن اللاعقلانية آلية من آليات التفكير، والعقل الذي نمجده مجرد «دمية محشوّة، منحتها الخرافة الصارخة واللاعقلانية صفات الألوهية» ومنها أن المعايير القابلة للبرهنة لم تعد طريقاً للوصول إلى الحقائق، بل إن للمفاجئ والبدائي والنائي أن يكون طريقاً للمعرفة والتوق إلى اللانهائية وتمجيد الإرادة في الثورة ضد خرافة العالم المثالي.
ومع إيمانه بأن الحقيقة أجمل شيء في العالم بأسره، غير أن للأخلاق أهمية أكبر، من هنا احتلت القيم الأخلاقية المركز في توجهاته الرومانتيكية وبسببها صار يُعرف بفيلسوف القيم الذي استقرأ تاريخ البشرية فوجد من الضروري الدعوة إلى نظام عالمي جديد وجد إرهاصاته في أعمال الروائيين هكسلي وأوريل، وهذا الأمر يجعله سباقاً في الدخول إلى المرحلة ما بعد الأنوارية الرافضة للأناركية أو الفوضوية.
وبسبب نزعته الأخلاقية، بدا برلين واثقاً أولاً من أفول الأفكار الطوباوية في السعي وراء المثل الأعلى داخل العالم الغربي، ومتشائماً ثانياً مما يراه في العالم المعاصر من نزعات قومية وعواصف آيديولوجية وحكومات استبدادية ونزعات شوفينية وتمييز عنصري وتعصب ديني.
وهو متأثر في نزوعه الرومانتيكي هذا بالفيلسوف الإيطالي جيمامباتيستا فيكو (1668 - 1744) تأثراً كبيراً في وقت لم يكن أحد في جامعة أكسفورد -كما يذكر برلين- قد سمع بفيكو سوى كوليغوود الذي ترجم له كتاب «كروس» وحضه على قراءته. وبالفعل قرأه وأعجبته أفكاره لا سيما فكرة تعاقب الحضارات البشرية. وإذا كان جوهان غوتلب فيتشه هو الأب الروحي للرومانتيكية فإن فيكو في نظر برلين هو الأب الحقيقي لمفهوم الثقافة الحديثة والتعددية الثقافية التي تقرّ أن لكل ثقافة أصيلة رؤية تنفرد بها، وهو الذي لم يفترض أن البشر منغلقون على عصورهم أو ثقافاتهم معزولون في صناديق لا نوافذ لها. وهذه النظرة الانفتاحية التي دشنها فيكو في كتابه «العلم الجديد» سابقة لما أرساه علماء الاجتماع الأنثربولوجيون فيما بعد حول أساطير وسلوكيات المجتمعات البدائية فلم يروها هراء أو بربرية، بل ذهبوا إلى أن أقدم القبائل البدائية كان عندها الخيال قوياً مثلما هي قدراتها العقلية.
وكما تأثر إدوارد سعيد بفيكو في التنظير لما بعد الكولونيالية كذلك تأثر برلين بفيكو في القول بالتعددية والانفتاح والاندماج وهو ما جعله يضيف إلى علم الأخلاق كثيراً من الرؤى الجديدة، وهو القائل: «أمضيت أربعين عاماً من عمري في محاولة أن أقول شيئاً عمّا أقحمني في هذا الشأن خصوصاً عن نقطة تحول نجم عنها تغير حاسم في أفكاري».
إن النقطة الحاسمة في تأثر برلين بفيكو تنبع من هذا التلاقي بين الخيال الرومانتيكي والتفكير العقلي التجريدي. وبسبب ذلك صار برلين مفكراً كوزموبوليتانياً، وشرح الأمر كالآتي: «فكرة أنك تستطيع أن تفهم البشر الآخرين فقط من خلال بيئتهم التي تختلف كثيراً عن بيئتك هذا هو أصل فكرة الانتماء، لهذا السبب كانت فكرة إنسان كوزموبوليتاني يشعر بالانتماء في باريس كما يشعر به في كوبنهاغن أو آيسلندا أو الهند».
ولأن الخيال الخصب المتنوع هو قطب رحى الحركة الرومانتيكية في الفن والفلسفة، ذهب إلى أن الحقيقة ليست واحدة أو لا تتجزأ -كما يرى الفكر الغربي- بل هي قابلة للنقد. ومن هنا آمن بأن للفنتازيا أهمية لا غنى عنها في فهم المعرفة التاريخية، منطلقاً من إيمان صميم بالترابط الوثيق بين فلسفة الأفكار وجماليات الفن ودورها في توجيه النشاط الإنساني، مؤكداً أن التكامل في النظرة الشمولية للفن لا يأتي إلا من التلاقي الخالص والحتمي ببين الفلسفة والفن.
الأمر الثاني في أطروحة الفيلسوف برلين، يتمثل في توجيه نزعته الرومانتيكية توجيهاً قصدياً باتجاه معارضة الماركسية. وإذا كنا نضع في كفة واحدة كل ما تقدم من تأثر برلين بالرومانتيكية كحركة تنويرية وبفيكو كمفكر تعددي، فإن الكفة الأخرى التي تعادلها تتمثل في موقف برلين من كارل ماركس ونقده اللاذع له. وأول ذلك هجومه الصارم عليه بوصفه كارهاً للرومانتيكية والأكثر عداءً للعاطفة، يحب القتال في جميع الجبهات، يرى تاريخ المجتمع هو تاريخ النضال بين طبقات يناوئ بعضها بعضاً ولا بد أن تخرج إحداها منه منتصرة وهي دوماً طبقة البروليتاريا.
وتتبع طفولة ماركس ومراهقته وتنقلاته فوجده مفكراً «كانت تعوزه تماماً صفات القائد أو الزعيم الشعبي العظيم وهو لم يكن داعية عبقرياً مثل الديمقراطي الروسي إسكندر هوزن، ولم تكن لديه بلاغة بامونين العجيبة... فلم يكن معروفاً لدى عامة الناس»، (كتابه: كارل ماركس، ترجمة عبد الكريم أحمد، دار القلم، القاهرة، ص2).
ويتجلى حنقه على ماركس أكثر حين يدخل إلى تفاصيل فلسفته من ناحية أنه تكلم باسم قانون الطبيعة لا باسم البشر وأن هدفه كشف الحقيقة ودحض الأباطيل قبل كل شيء. وأنه كرس حياته لوضع الخطط التي تكفل انتصار الذين وضع نفسه على رأسهم وهو انتصار كان التطور التاريخي -كما يرى برلين- كفيلاً بأن يحققه على أي حال.
أما لماذا صار ماركس رائداً لجيله؟ فلاعتقاده الصارم بضرورة قطع كل صلة بالماضي من أجل إقامة نظام اجتماعي جديد لما بدا لماركس أيضاً من «أن المشاعر الإنسانية المخلصة ستار تترعرع خلفه بذور الضعف والخيانة بعيداً عن الأنظار نتيجة للرغبة في الوصول إلى حل وسط مع الرجعية... يقوم على الخوف من الحقيقة»، (الكتاب، ص 10).
وكثيرة هي مواطن سخرية برلين من ماركس، فالمدة التي قضاها ماركس مثلاً في مكتبة المتحف البريطاني بلندن -وخلالها لم يقابل إلا قلة من الإنجليز فلم يفهم أسلوبهم في الحياة- لا تختلف عن المدة التي يمكن له أن يقضيها في أي مدينة أخرى مثل مدغشقر شرط أن يجد فيها الكتب والجرائد. كما سخر من ماركس وهو يستشهد بحادثة جرت عام 1843 فيها دخل ماركس -وكان محرراً لجريدة راديكالية- في مشادة حول موضوع اقتصادي كان فيه جاهلاً جهلاً تاماً بمبادئ النمو الاقتصادي وتاريخه ثم قام بتعليم نفسه ليظهر عام 1848 كمفكر سياسي واقتصادي يضع نظرية اقتصادية كاملة عن المجتمع وتطوره معبراً بتعالٍ عن أنه سيعطي كل ذي حق حقه. ولإيمان برلين بأن الأشياء لا يمكن أن توصف دون الرجوع إلى أهداف صانعيها، وجد أن كثيراً من المبادئ التي جاء بها ماركس هي ببساطة غصب لأفكار فلاسفة سابقين، ذلك أن القرن الثامن عشر لم يكن مجدباً من مثل هذه المبادئ، وكل الذي فعله ماركس وصار بسببه مشهوراً هو أنه أعطى أجوبة صريحة مألوفة لأسئلة كانت تشغل أذهان الناس في ذلك العهد.
ومن المبادئ المغصوبة (المادية الجدلية) ووجدها برلين بصورتها الكاملة في رسالة كتبها هولباخ قبل ماركس بقرن وكان فيها مديناً بالكثير لسبينوزا ثم أعاد فيورباخ كتابتها بصورة معدلة في عهد ماركس نفسه. ومنها مقولة «التاريخ البشري هو تاريخ الصراع بين الطبقات الاجتماعية» التي تعود لسان سيمون، وأول من قال بحتمية وقوع الأزمات الاقتصادية هو سيسموندي، وأن نظرية القيمة تعود إلى لوك وآدم سمث، ونظرية الاستغلال وفائض القيمة تعود إلى فوربيه وهودجسكين. وتابع برلين قائلاً: «وإنه لمن السهولة بمكان أن نستمر في هذه القائمة إلى أبعد من ذلك»، (ص 12). إن الإخلاص الذي تجمّل به إيزايا برلين تجاه الرومانتيكية جعله متحزباً لها ومتعصباً لمبادئها، ملغياً كل ما سواها من النزعات والحركات المذهبية التي قبلها والتي بعدها. ومن ثم بدا متطرفاً وهو يحاكم ماركس بمقصلة العاطفة ويضعه بين مطرقة الخيال وسندان العقل. ويبقى الأهم من ذلك نظام الأخلاق الذي فيه وجد برلين للقيم مكاناً رئيسياً، به تتوافق حياة البشر.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم